لا نصر بلا تغيير
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الخميس 20 أكتوبر 2016 م
عدد الزيارات : 3773
مقدمة:
متى النصر؟! ولِمَ تأخر؟! وهل سنعيشه حقاً؟!
أسئلة تدور في ذهن الكثير من النّاس، وتلحّ على ضمائرهم، ولو أصغوا للصّوت القادم من أعماقهم لتساقطت عبراتهم، واهتزّ وجدانهم من وضوح الإجابة..
مضت خمس سنواتٍ ونحن نبحثُ عن الحلول عند الشّرق وعند الغرب..
ومآسينا تزداد، ونزيف جراح أمتنا يكادُ يُغرقنا..
1- لماذا يتأخّر عنّا النّصر ونحن على حقٍّ؟
لماذا لا ينصرنا الله؟ لماذا يسمح بأن يَحدث لنا ما يجري من أحداث؟ لماذا يسمح لدِمائنا بأن تُسفك، ولأعراضنا بأن تُنتهك؟ لماذا يَسمح بأن نُعذب في السجون ونُقتل في الميادين؟ لماذا يسمح بأن تُهدم البيوت فوق رؤوسنا بصواريخ ظالِمة أو براميل متفجرة، تلقيها طائرات أنظِمة الطغيان، أو مَن يوالي تلك الأنظمة من الدول الكبرى التي تتصارَع في السيطرة على بلادنا، وتنهب خيراتنا، وتمتهن كرامتنا؟ لماذا يَسمح بأن نقضي تحت التعذيب في سجون سرِّية، ونُدفن في مقابر سرِّية، كجثث مجهولة الهويَّة؟ لماذا يسمح بأن نُحرق أحياء ونشنق دون ذنب ارتكبناه؟ لماذا يَقبل لنا أن نُشرَّد في أصقاع العالَم، أو نموت وأطفالنا غرقاً في مياه البحار؟ لماذا لا ينقذنا الله من الذلِّ الذي نحن فيه؟ ألا يعلم الله أنَّنا مسلمون؟ ألا يعلم أنَّنا مظلومون مضطهدون؟ ألسنا أهله وندين بالدِّين الذي ارتضاه لنا؟ ألا يعلم الله أنَّ من يفعلون ذلك بنا طغاة بغاة ظلَمة هم الباطل بعينه؟ لماذا يمدُّ لهم الله ليتمادوا في طغيانهم وظُلْمنا؟ لماذا لا يأخذهم الآن أخْذَ عزيزٍ مقتدر؟ لماذا لا ينصرنا الله على الباطل وأهلِه وهو القادر على ذلك؟
تبرز هذه الأسئلة وغيرها من تلك الأسئلة التي تقَع في نفس المجال وتتردَّد على ألسنة الناس كثيراً في أيّامنا هذه... يطرحها البعض معبِّرين عن الضِّيق الشديد الذي يَشعرون به، والبعض الآخر يطرحها معرباً عن شكوكه التي تدور في خلده، فبسبب المِحن التي تحلُّ بنا، والابتلاءات الكثيرة التي نتعرَّض لها كأمَّة مسلمة منذ انهيار الخلافة الإسلاميّة وحتى الآن، وتَفَتُّتُ دولة الإسلام إلى دويلات تتوالى عليها الويلات تترا - بات الشّكُّ والتّردُّد والحيرة هي سيِّدة الموقف في نفوس الكثيرين...
والشّيء الملاحظ أنَّ غالبيّة المسلمين يتوقَّعون النَّصر دون أن يقدِّموا له ثمناً، ويَستعجلونه رغم أنَّه ربّما لم يحنْ أوانه بعد، فهم يتوقَّعون أن يفيقوا صباحاً ليجدوا العالَمَ من حولهم قد تغيَّر فجأةً والنّصر يدقّ بابهم وينتظرهم... يتوقَّعون تغيُّر حالهم دون أن يتخلَّوا عن عاداتهم التي مردوا عليها والتي تبعدهم عن رِضا الله وتنأى بهم عن سنَّة نبيّه، ودون أن يَبتعدوا عن المعاصي التي يرتكبونها تحت أسماء شتّى...
يتوقَّع مسلمو اليوم تغيُّر حالهم دون أن يبذلوا أيَّ جهدٍ لتغيير أنفسهم، فكيف يَتوقّع النَّصرَ مَن يكون هو العَقبةَ في طريقه؟ وكيف يتوقع النَّصرَ مَن يساهم في تأخُّره عن أمَّة الإسلام؟ وهل يمكن أن ينصرنا الله من دون أن يَميز الخبيثَ من الطّيب، ومن دون أن يظهر للنّاس الصَّادق من الكاذب بشكلٍ جليٍّ لا مواربة فيه؟
يقف المفكِّر الإسلاميّ سيّد قطب رحمه الله مع قول الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ  * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحجّ: 39، 40].
 فيورِد في كتابه "في ظلال القرآن" ثمانيةَ أسباب متوقَّعة لتأخّر النَّصر عن أمَّة الحقّ:
الأول: قد يبطئ النَّصر؛ لأنَّ بنية الأمَّة المؤمنة لم يَنضج بعد نضجها، ولم يتم بعد تمامها، ولم تحشد بعد طاقاتها، ولم تتحفَّز كلُّ خليَّة وتتجمَّع، لتعرف أقصى المدخور فيها من قوى واستعدادات، فلو نالَت النصر حينئذٍ لفقدَته وشيكاً؛ لعدم قدرتها على حمايته طويلاً. 
الثاني: قد يبطئ النَّصر حتى تبذل الأمَّة المؤمنة آخرَ ما في طوقها من قوَّة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تَستبقي عزيزاً ولا غالياً لا تبذله هيِّناً رخيصاً في سبيل الله؛ فلا زال بعضُ أهل الحقّ لم يبذل من ماله، وبعضهم لم يبذل جهدَه كلَّه، والبعض لم يستنفد كلَّ طاقاته في سبيل الله.
الثالث: وقد يبطئ النَّصر حتى تجرِّب الأمة المؤمنة آخرَ قواها، فتدرك أنَّ هذه القوى وحدها بدون سنَدٍ من الله لا تكفل النَّصر، إنَّما يتنزَّل النَّصر من عند الله عندما تبذل آخرَ ما في طوقها، ثم تَكل الأمرَ بعده إلى الله. 
الرابع: وقد يبطئ النَّصر لتزيد الأمَّة المؤمنة صِلتها بالله، وهي تعاني وتتألَّم وتبذل، ولا تجد لها سنداً إلَّا الله، ولا مُتوجَّهاً إلَّا إليه وحده في الضرَّاء، وهذه الصِّلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النَّهج بعد النَّصر، عندما يأذن به الله، فلا تَطغى ولا تنحرف عن الحقِّ والعدل والخيرِ الذي نَصرها الله به. 
الخامس: وقد يبطئ النَّصر لأنَّ الأمَّة المؤمنة لم تتجرَّد بعدُ في كِفاحها وبذلِها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تقاتِل لمَغنمٍ تحقِّقه، أو تُقاتل حميَّةً لذاتها، أو تقاتل شجاعةً أمام أعدائها، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئاً من المشاعر الأخرى التي تلابسه، وقد سُئل رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم عن الرَّجُلُ: يُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) صحيح البخاريّ (9/ 136).
السادس: قد يبطئ النَّصر لأنَّ في الشرِّ الذي تكافحه الأمَّة المؤمنة بقيَّة من خير، يريد الله أن يجرِّد الشرَّ منها ليتمحَّص خالصاً، ويذهب وحده هالكاً، لا تتلبَّس به ذرَّة من خير تذهب في الغمار.
السابع: وقد يبطئُ النَّصرُ لأنَّ الباطل الذي تحاربه الأمَّة المؤمنة لم ينكشِف زيفه للناس تماماً، فلو غلبه المؤمنون حينئذٍ، فقد يجد له أنصارًا من المخدوعين فيه، الذين لم يَقتنعوا بعد بفساده وضرورة زَواله، فتظل له جذورٌ في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشِف لهم الحقيقة، فشاء الله أن يَبقى الباطل حتى يتكشَّف عاريًا للنَّاس، ويذهب غير مأسوفٍ عليه من ذي بقيَّة.
الثامن: قد يبطئ النَّصر لأنَّ البيئة لا تَصلح بعدُ لاستِقبال الحقِّ والخير والعدل الذي تمثِّله الأمَّة المؤمنة، فلو انتصرَت حينئذٍ للقيَت معارضةً من البيئة لا يستقرُّ لها معها قرار، فيظل الصِّراع قائمًا حتى تتهيَّأ النفوس من حوله لاستقبال الحقِّ الظافر، ولاستبقائه.
أمَّا الشّيخ ابن قيم الجوزيّة رحمه الله، فيقول في كتابه -طريق الهجرتين- حول موضوع تأخُّر النصر: "وكان في تَمكين أهل الكفر والفسوق والعصيان من ذلك إيصالُ أولياءِ الله إلى الكمال الذي يَحصل لهم بمعاداة هؤلاءِ وجهادِهم، والإنكار عليهم، والموالاة فيه والمعاداة فيه، وبَذل نفوسهم وأموالهم وقواهم له؛ فإنَّ تمام العبوديَّة لا يحصل إلَّا بالمحبة الصَّادقة، وإنَّما تكون المحبَّة صادقةً إذا بذل فيها المحبُّ ما يملكه من مالٍ ورياسةٍ وقوةٍ في مرضاة محبوبه والتقرُّب إليه، فإذا بذل له روحه كان ذلك أعلى درجات المحبَّة، ومن المعلوم أنَّ من لوازم ذلك أن يَخلق ذواتًا وأسبابًا وأعمالًا وأخلاقًا وطبائعَ تقتضي معاداة من يحبه".
فليبادِر كلٌّ منَّا إلى تغيير نَفسه، والابتعاد عن المعاصي، والرّجوع إلى الله، والتّوبة إليه، واليقين بنَصره لأمَّته؛ حتّى لا نكون سببًا في تأخُّر النَّصر عن أمَّة الإسلام.
2- الواقع يدعونا إلى العمل بِلا كلل:
إنّ هذا الحال الّذي وصلت إليه أمّتنا ليس مدعاةً لليأس، بل للعمل، والعمل الجادّ بنفوسٍ صابرةٍ راضيةٍ..
عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: (كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) صحيح البخاريّ (4/ 201).
يُروى أنّ شيخاً عجوزاً جمع أبناءه وهو على فراش الموت وقال لهم:
أنا مثلكم كنت شابّاً في العشرين من عمره، يريد تغيير العالم وإرجاع النّصر لأمّتنا، فكنت أقول سأغيّر العالم كلّه، فلمّا مضت عشر سنواتٍ ولم أفعل شيئاً، قلت: إنّ العالم كبيرٌ جدّاً، سأغيّر بلدي فقط، ومضت عشر سنواتٍ أخرى ولم أفعل شيئاً، فقلت: لن أستطيع أن أغيّر البلد، سأغيّر مدينتي فقط، ومرّت عشر سنواتٍ ولم أفعل شيئاً، فقلت: سأذهب من الدّنيا بدون أن أفعل شيئاً، لا بدّ أن أغيّر الحيَّ الذي أسكنه، لكن كانت سنوات عِجاف، فقلت: يكفيني أن أغيّر عمارتي فقط، و مضت عشر سنواتٍ أخرى بدون فائدة، فقلت وقد ضعف جسمي وخارت قواي: سأغيّر مَن في طابقي فقط، وأصبحتُ أحاول وأحاول عشر سنواتٍ أخرى لكن بدون فائدةٍ، فبلغت الـثّمانين من عمري ولم أكلَّ، وجعلتُ هدفي تغيير أسرتنا فلم أقدر.. وها أنا أمامكم قد بلغتُ التّسعين وجاءت سكرة الموت، وأريد أن أوصل لكم رسالةً عرفتها بعد هذا العمر الطّويل، إنّي لم أنجح لأنّني لم أبدأ بنفسي فأغيّرها. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.
لذا إخوتي مات الرجل وهو يُدرك أنُه لو أعطاه الله عشر سنواتٍ أخرى لغيّر العالَم.
نعم إخواني.. غيّروا أنفسكم والعالَم سيتغيّر -إن شاء الله-.
3- لا بدّ أن نحدِّد مفهوم النّصر ما هو؟
إن كان البعض يظنّ أنّ النّصر هو التّمكين من العدوّ وفقط فهذا خطأ، بل هذه إحدى صور النّصر، فمن النّصر الثّبات على الحقّ، والتّمسّك بالمبادئ الّتي خرجنا من أجلها وثرنا، بل إنّ هذا الثّبات من أروع صور النّصر الّتي يجب أن نسعى إليها، فمثلاً أصحاب الأخدود يوم أن ماتوا عن بكرة أبيهم رجالاً ونساءً؛ هل انتصر هؤلاء أم لا؟ لقد انتصروا أروع انتصار، انتصروا لأنّهم ثبتوا على الحقّ، ثبتوا على مبادئ، ولذلك خلّد الله ذكرهم في القرآن بقوله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 1- 8].
فالثبات الثبات يا أهل الشام، وإن الأزمة في نهايتها بعون الله، وإنما النصر صبر ساعة، فأروا الله من أنفسكم خيرا، واثبتوا في أرضكم، ولا تتركوها لعدوكم، فإنما هي موته واحدة، فلتكن في سبيل الله.
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره      وموت الفتى بالسيف أعلى وأفخر
 

http://shamkhotaba.org