مقدمة:
لقد مرت بالمسلمين قرون أربعة عشر، منها قرون حيّة وأخرى هامدة.
منها قرون مشرقة بالعلم والهدى والنور، وأخرى مظلمة بالجهل والضلال والجور.
وامتددنا امتداد الشمس حتى أدّبنا الجبابرة، وانكمشنا حتى استنسر بأرضنا البغاة.
أيها المسلمون: لقد مرّت بالمسلمين أيامٌ سالفة كانت من أصعب الأيام عليهم، ومايدور على الساحة الشامية عامة وفي حلب خاصة في هذه الأيام من مشاهد مرعبة، ومآسي مروعة، من قتل وتشريد، وهدم وتخريب، وحصار وتجويع، وإزهاق للأرواح, وسفك للدماء، كل هذا وأكثر منه مما يعاني منه أهل الشام على مرأى ومسمع العالم أجمع لتشيب منه الولدان، ويبكي العين دما.
سائِلُوا الَّليْلَ عنهــمُ والنَّهـــارَا كيف باتَتْ نِساؤُهُمْ والعَذارَى
كيف أَمْسَى رَضِيعُهُمْ فَقَدَ الأم أم كيف اصْطَلَى مع القَوْمِ نارَا
كيف طاحَ العَجُوزُ تحــتَ جِـــدارٍ يَتَداعى وأسْقُـــفٍ تَتَجــــارَى
رَبِّ إنّ القَضـــاءَ أَنْحَى عليهـــم فاكشف الكَربَ واحجُبِ الأقدار
إن ما يحدث اليوم بالأمة الإسلامية من تآمر عليها، وقتال لها، ومكر بها، وتدبير الخطط للقضاء عليها.
لقد حدث في التاريخ الغابر ما هو أسوأ وأشدّ من هذا بكثير، حتى ظنّ من في قلبه مرض أنه لن تقوم للإسلام قائمة بعده، ولكنّ الله عزّ وجل الذي تكفل بحفظ دينه يهيئ له في كل زمان رجالا يدافعون عنه، ويجاهدون من أجله، تلك هي سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا، إن ذلك كله إنما هو دورة من دورات الزمان، وإن الزمان لن يقف عند هذا الحد، وإن التاريخ لن ينتهي عند هذا المشهد، بل ستمر دورات ودورات تحقيقاً لقول الله تعالى: {وتلك الأيام نداولها بين الناس} [آل عمران: 140].
قال القرطبي رحمه الله: "قيل هذا في الحرب، تكون مرة للمؤمنين لينصر الله دينه، ومرة للكافرين إذا عصى المؤمنون ليبتليهم وليمحص ذنوبهم، فأما إذا لم يعصوا فإن حزب الله هم الغالبون".
ولعل هذا المعنى يتضح جليا بعدما نسلط الأضواء على معركة عظيمة فاصلة لها ما بعدها في تاريخ المسلمين.
إنها معركة خلدها التاريخ منذ أكثر من سبعمائة عام.
معركة جاء فيها التتار بخيلهم ورَجِلِهم، جاؤوا بجيش لا يُعرف أين أوّله وأين آخره.
إنها معركة من المعارك الفاصلة في تاريخ الأرض، وملحمةٍ كبرى من ملاحم الإسلام العظام, وفرجٍ أتى بعد شدة وكربٍ شديد, وتمحيصٍ للمؤمنين عظيم, إنه انتصارٌ أتى في توقيت مفاجئ؛ حيث لم يمر سوى عامين على سقوط بغداد ونكبة أهل الإسلام, واجتياح المغول للعالم الإسلامي، كانت هي المعركة الفاصلة الأولى التي يهزم فيها المغول منذ عهد جنكيز خان المؤسس، إنها معركة عين جالوت التي وقعت في يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان المبارك عام 658هـ.
وقبل البدء في تفاصيل المعركة هناك سؤالٌ يطرح نفسه عن هؤلاء القوم, الذين غزوا العالم الإسلامي واجتاحوه, وفعلوا بالمسلمين الأفاعيل المنكرة, والجرائم المستقبحة, فمن هم التتار أو المغول؟.
التتار أو المغول: قبائل جبلية بدائية من سكان القارة الأسيوية يسكنون صحراء جوبي بأطراف بلاد الصين الشمالية –منغوليا الآن– وهم قبائل رعوية تعيش على الرعي والسلب والنهب, يتصفون بالشدة والبأس, وحّدهم جنكيز خان، وأقام لهم دولة قوية, بدأت في اكتساح ما جاورها من البلاد, وكانت نكبة العالم الإسلامي كبيرة من قبلهم؛ فاستباحوا البلاد وقتلوا العباد, وأسقطوا الخلافة الإسلامية في بغداد, وكانوا يقومون بمجازر رهيبة في كل بلد يدخلونها؛ حتى يأس الناس من هزيمتهم, إذ لم يتصدَ لهم جيشٌ إلا هزم, وأصبح يقينا لدى أغلب الناس "أن التتار جيش لا يهزم أبدا".
بعد اجتياح بلدان المسلمين الواحدة تلو الأخرى, قام هولاكو بإسقاط بغداد سنة 656هـ واستباحتها لجيشه أربعين يوماً يفعلون في أهلها ما يشاؤون, وقُتل من أهلها ما يقارب مليون نسمة من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال, وكانت مذبحة رهيبة لم يُسمع بمثلها في التاريخ, ثم تحرك الجيش التتري إلى الشام, وحاصر مدينة (ميافارقين ) التي يحكمها الكامل الأيوبي، قاومت المدينة مقاومة عنيفة، وبعد نفاذ المؤن، وموت معظم السكان جوعاً، استسلم من بقي من أهلها, فدخلها التتار وارتكبوا فيها مجازر تقشعر منها الجلود، وقبضوا على الكامل الأيوبي، وقطعوا جلده وأعطوه له ليأكله إلى أن مات!!.
ثم استمروا يعيثون في الأرض فساداً، فاحتلوا حلب وقتلوا من أهلها خمسين ألفاً، ثم انتقلوا إلى دمشق وأعطوا أهلها الأمان ثم غدروا بهم وخربوا المدينة, ثم اتجهوا إلى فلسطين واستولوا على بيت المقدس، ووصلوا إلى غزة المتاخمة للحدود المصرية، وأرسل هولاكو رُسُله إلى قطز حاكم مصر, يحملون لأهل مصر رسالة طويلة, فيها من التهديد والوعيد والأمر بالاستسلام.
تقول رسالة التتار إلى قطز وأهل مصر: "إنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على مَن حَلَّ به غضبه، فلكم بجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم, قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن شكى، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب، وعلينا الطلب، فأي أرض تؤويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟! فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع, فمن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم، فإن أنتم لشرطنا وأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم، فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذّر من أنذر".
فلما سمع قطز ما في هذا الكتاب جمع الأمراء والعلماء، واتفقوا على قتل رُسُل هولاكو، فقبض عليهم وأمر بإعدامهم فأعدموا، وعُلقت رؤوسهم على أحد أبواب مصر, وإنما فعل قطز هذا لكي لا يترك لأحد فرصة غير الحرب, وكان قراره نهائيًا لا رجعة عنه.
وتواترت المعلومات الموثوق بها عن زحف التتار باتجاه مصر, وهي آخر ما بقي من حواضر الإسلام الكبرى بعد اجتياح التتار لمعظم بلاد المسلمين، فعقد قطز اجتماعاً مع وجهاء الدولة وعلمائها, وكان الرأي أن يتوجهوا لقتال التتار في الشام وأن من الخطأ انتظارهم حتى يصلوا مصر، لكن الأمراء والقواد المترفين امتنعوا وترددوا من الفكرة. فما كان من قطز أمام هذا التخاذل إلا أن ألقى كلمته المأثورة مخاطباً إياهم قائلاً: "يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزو كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين".
ثم أصدر أوامره إلى قائد الجيش أن يعد العدة للغزو, فانشغل الناس بالاستعداد للجهاد, وخرج قطز في الجحافل المصرية في رمضان من سنة 658 هـ، يتقدمهم العلماء والشيوخ, ثم انضمت إليهم العساكر الشامية, أما المغول فإن من تدبير الله أن هولاكو قد اضطر للعودة إلى فارس بعد وفاة ملك المغول، فسلّم أمر الشام للقائد التتري (كتبغا) الذي كان مقيماً في سهل البقاع اللبناني.
وصل قطز إلى غزة, والقلوب وجلة, والناس تترقب, فسارع إلى مهاجمة قوات التتار الموجودة, واستعاد غزة منهم؛ فارتفعت همم المسلمين، ورأوا لأول مرة التتار يفرون من أمامهم! ووصلت فلولهم إلى (كتبغا) تخبره بالهزيمة، فغضب غضباً شديداً وقرر التوجه للقضاء على هؤلاء المسلمين.
رأى قطز أن أنسب مكان لخوض المعركة هو سهل عين جالوت- وهو سهل تحيط به التلال من كل جانب- وبينما قطز في عين جالوت ينتظر العدو إذ بأعداد غفيرة من المتطوعين الفلسطينيين يخرجون من القرى والمدن؛ ليلتحقوا بالجيش المسلم.
لقد كان الناس يتشوقون للجهاد في سبيل الله ولا ينقصهم إلا القائد المخلص، وقد عثروا عليه أخيراً، وإلى جانب أولئك المتطوعين اجتمع الكثير من الفلاحين، واجتمع كذلك النساء والصبيان، واصطفوا بأعداد غفيرة على طرفي سهل عين جالوت، وقد علت أصواتهم بالتكبير، وارتفعت صيحاتهم بالتشجيع لجيش المسلمين الذي يرون فيه أملاً لإنقاذ الأمة من هذا البلاء العظيم، وتحركت ألسنتهم وقلوبهم بالابتهال لرب العالمين أن ينصر عبادة الموحدين ويُذل أعداء الدين.
وقبل المعركة اجتمع قطز بالأمراء وحثهم على قتال التتار، وذكّرهم بما وقع في بغداد والمدن الشامية من القتل والسبي وانتهاك الحرمات وتخريب الديار، وحضهم على إنقاذ الشام ونصرة الإسلام، فضجوا بالبكاء وتحالفوا على الصدق عند اللقاء.
ولما التحم الصفان ودار القتال ثبت المسلمون ثباتاً رائعاً، مما دفع كتبغا إلى استخدام كل طاقته بعد أن حوصر في سهل عين جالوت.
وهنا أيقن المغول بالهلاك فأخرجوا كل إمكانياتهم، وقاتلوا ببسالة وشراسة؛ لأنهم يعلمون أنها معركة موت، فلما رأى الملك قطز الضغط التتري الرهيب، وتأزم الموقف جداً, فلم يجد إلا حلاً واحداً لا بديل عنه؛ لا بد أن ينزل بنفسه إلى ساحة القتال, عندها ألقى خوذته على الأرض تعبيراً عن اشتياقه للشهادة، وأطلق صيحته الشهيرة: "وا إسلاماه.. وا إسلاماه".
ألقى قطز بنفسه في المعركة وحمل ومن معه حملة صادقة، وفوجئ الجنود بوجود القائد بينهم، عندها التهب حماس المجاهدين، وهانت عليهم جيوش المغول، وحملوا أرواحهم على أكفهم، وقاتل قطز -رحمه الله- قتالاً عجيباً، وبدأت الكفة -بفضل الله- تميل من جديد لصالح المسلمين، واستعاد الجيش زمام المبادرة، وتغير وجه المعركة، وأصبح لا هم للمغول إلا النجاة بأنفسهم، فركّزوا جهدهم حتى فتحوا ثغرة للهرب, فانطلقوا يولون الأدبار، وانطلق المسلمون خلفهم فريقاً يقتلون, ويأسرون فريقاً، حتى وصلوا إلى بيسان على بُعد 20 كم من عين جالوت.
لم يصدّق المغول المفجوعون أن قوةً على وجه الأرض تستطيع الوقوف أمامهم، وربما ظنوا أن الهزيمة إنما كانت مصادفة أو نتيجة خطأٍ ما، لذا سارعوا بتجميع قواتهم من جديد، واصطف جنودهم الحانقون ولا همّ لهم إلا الانتقام من المسلمين، ووصل قطز ببقية قواته إلى بيسان، ودارت رحى معركة ضروس.
قاتل التتارُ قتالاً عجيباً، وزُلزل المسلمون زلزالاً شديداً، أخذ قطز يحفز جنده ويحثهم على الثبات، ثم صرخ صرخة عظيمة واقتحم وهو يردد: "وا إسلاماه"، وصبر المسلمون وقاتلوا قتالاً شديداً, ثم أتى نصر الله وفتحه وهزم من بقي من التتار، وأخذ جند الله يفتكون بأعدائه، وبدأ جنود المغول الذين روّعوا أهل الأرض يتساقطون كالذباب، وقضى المسلمون على أسطورة الجيش الذي لا يقهر، قضوا عليه تماماً! وصدق الله العظيم: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51].
عندها نزل البطل المجاهد التقي عن فرسه, ومرّغ وجهه في الأرض في سجدةِ شكر طويلة لله رب العالمين.
كان للانتصار في معركة عين جالوت أثرا كبيرا جداً في روح ومعنويات المسلمين من جهة، وفي طموح المسلمين في تحرير ما بقي من مدن وبلدات العالم الإسلامي التي كانت تقبع تحت احتلالين: الأول الاحتلال المغولي والثاني الاحتلال الصليبي، وتبدد الاعتقاد بمقولة أن التتار لا يمكن أن يُهزموا وبدأ المماليك في الإعداد لاستعادة هيبة الإسلام بعد غياب دام سنين طويلة.
إن في قراءة وسماع خبر هذه المعركة لجدير بنا أن نستخلص منه الدروس والعبر علنا أن نستيقظ من رقادنا عسكريين ومدنيين لنعلم أن معية الله إذا أحاطت بالعبد المؤمن لن تستطيع قوى الأرض كلها مهما كانت أن تقف في وجهه، {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160].
وإذا تخلت عنه معية الله ولن تتخلى هذه المعية عن العبد إلا بعد أن يعرض عن تنفيذ أوامر الله، عندها سيكون هذا العبد ضعيفا بل أضعف الضعفاء وسيكون مغلوبا دائما، {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:2].
إن من أعظم ما أصيب به المسلمون اليوم، بل هو أعظمه ولا شك، ما سيطر عليهم من روح الانهزام أمام أعداء الإسلام وضعف اليقين بوعد الله، ومن ظن بالله أنه يديل الباطل على الحق حتى يزول، أو أنه لا ينصر الحق! فقد ظن بالله ظن السوء.
إن هذه الروح الانهزامية التي انتشرت في أوساط الأمة الإسلامية لهي أخطر عليها من كل سلاح؛ بل لقد قامت وحدها مقام كل سلاح يمكن أن يغزوها به أعداؤها في القديم والحديث؛ إذ حققت لأولئك الأعداء ما لم يكونوا ليستطيعوا تحقيقه بالقوة والبطش والجبروت.
أيها المسلمون: إننا أمة النصر والتمكين، أمة العقيدة الصحيحة، أمة الاستخلاف الصحيح في الأرض كتب الله لنا العزة، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
نعم العزة للمؤمنين بالله المتمسكين بشرعه {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
لقد أراد الله تعالى لهذه الأمة المحمدية أن تكون لها الريادة والسيادة على باقي الأمم، تقود الأمم إلى الله، وتخضعها لمنهج الله تعالى الذي لا بد أن يحكم البشرية.
قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
ولكن عندما تخلت الأمة عن دورها، وتركت واجبها صار حالها إلى ما نرى وما نسمع، فلم يعد خافياً على أحد من الناس اليوم ما يعيشه المسلمون من ذلة ومهانة، وما يحيط بهم من ظروف صعبة، وأحوال مريرة تتمثل في كيد الأعداء وتسلطهم على بلاد المسلمين، كما تتمثل في أحوال المسلمين أنفسهم وما طرأ على كثير من مجتمعاتهم من بُعد عن تعاليم الإسلام وإقصاء لشريعة الله سبحانه ورفض الحكم بها والتحاكم إليها.
وبهذا استطاع أعداء الله أن يقتلوا في الأمة روح العداء لهم, ليس ذلك فحسب، وإنما استطاعوا أيضاً أن يحولوا ذلك الشعور الدفاق في المسلمين بالعداوة لهم إلى شعور بالمحبة والصداقة والارتياح والرضى والثقة التي ليس لها حدود؛ بل وإلى ما هو أكثر من ذلك إلى الانبهار بالقوم والشعور بأنهم اصحبوا القادة والسادة والرواد.
فالواجب علينا أن لانجعل لهذه الهزيمة مكانا في قلوبنا ونفوسنا وعلينا أن نجدد الثقة بربنا فنتيقن أنه ناصر دينه ومعزّ أوليائه ولو كره الكافرون لأن الباطل لايمكن أن ينتصر على الحق أبدا ومن ظنّ غير ذلك فقد أساء الظن بربّه.
سؤال يطرح نفسه أما هذا الواقع المرير الذي نعيشه:
من المسؤول عما جرى في حلب؟
لو أنصتنا لكلام الناس وكتاباتهم وتغريداتهم لوجدنا أنّ الكلّ يلقي اللّوم على غيره وينزه نفسه وهذا خطأ واضح بيِّن.
والجواب الصحيح: الكلّ مسؤول عمّا جرى في حلب قادة، وشرعيين، ومدنيين، وكلّ بحسب مكانته .
فيا قائد الفصيل ويا أمير الجماعة، اسأل نفسك وأجب بصدق وصراحة وحاسب نفسك قبل أن يؤول الحساب الى غيرك: هل أنا قصرت في نصرة أهل حلب أم لا؟
وأنت أيها المسلم لست معفيا من السؤال نفسه: فإن كنت قد قصرت في أوامرالله وانتهكت حرمات الله فأنت مسؤول عمّا جرى في حلب وستسأل عن ذلك يوم العرض الأكبر.
لأننا نعلم جميعا ما نزل بلاء إلا بذنب ولا يرفع إلا بتوبة.. فالواجب علينا بعدما حل بنا هذا الداء الذي نتج عنه البلاء العظيم أن نستعمل بعده الدواء النافع والناجع ألا وهو التوبة والرجوع إلى الله، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]. وهذه آيات الله تفسر ما جرى في حلب، فالامر لا يحتاج إلى كثير تحليلات ولا لقاءات ولا مؤتمرات.
قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ..} [آل عمران: 165-169].