وقفات مع سورة الحجرات
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الخميس 9 فبراير 2017 م
عدد الزيارات : 13894
مقدمة:
يزداد يقيننا يومًا بعد يوم أنه لا خلاصَ لهذه الأمة من هذا الواقع الذي تعيشه والبؤس الذي تحياه؛ لتعود كما كانت خير أمة أخرجت للناس إلا بأن ترجع إلى القرآن الكريم, الذي هو سبيل نجاتها وحبل خلاصها وهاديها من حيرتها وموقظها من رقدتها ومنقذها من هلكتها، به تحيا، وفي ضوئه تسير، وعلى منهاجه تموت، {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
1- حاجة الأمة لتدبر كتاب الله
في هذا العصر الزاخِر بالصراعات المادية والاجتماعية، والظواهِر السلوكية والأخلاقية، والمفاهِيم المُنتكِسة حِيالَ الشريعة الربانيَّة، لا بُدَّ من الفَيئَة إلى أخلاق القرآن وآدابه؛ ففيه حقائِقُ التربية الفاضِلة، ولذلك كانت سُنَّةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كثرةَ موعِظة الناس بالقرآن، بل كان كثيرًا ما يخطُبُ الناسَ به، {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
وإن كتابَ الله أوثَقُ شافِعٍ                        وأغنَى غَناءً واهبًا مُتفضِّلاً
وخيرُ جليسٍ لا يُملُّ حديثُه                         وتردادُه يزدادُ فيه تجمُّلا
2- فضل سورة الحجرات
ما أجملَ أن نعيشَ أفضلَ لحظاتٍ في عصر التحديات، في رِحابِ آياتٍ بيِّنات، نستلهِمُ النفحَات والعِظات، ونجنِي أطايِبَ الثمرات، من سُورة الآداب والأخلاق "سورة الحجرات"، التي تُؤسِّسُ للأدب مع الله تعالى، ومع رسولِه صلى الله عليه وسلم، والأدب مع النفس، والأدب مع الناس، بإدراك العبد حدوده، فيلزمُها ولا يتجاوزُها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]. 
فمع سورة عظيمة من كتاب الله عز وجل نتأمل آياتها، نتأدب بآدابها ونتّعظ بعظاتها.
تلكم السورة هي سورة الحجرات، فهي مدرسة متكامِلة تربّى في ضوئها أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم، فهي مع قصرها وقلّة عدد آياتها جاءت شاملة لأحكامٍ وآداب وأوامرَ ونواهٍ لا تجدها مجتمعة في سورة سواها.
سورة الحجرات مدرسة متكامِلة جاءت تربّى الفرد والمجتمع بل الأمة جميعًا على سموّ الأخلاق وفضائل الأعمال وعلوّ الهمم.
إنها مدرسة عقدية وتشريعية وتربوية، فلا عجَب حينئذٍ أن نرى أخلاقَ الجيل الأول هي أخلاق القرآن التي هي أخلاق رسول الله، ولذلك قادوا الدنيا بأسرها لا بسيوفهم ولا بأموالهم ولكن بأخلاقهم المستمَدَّة من دينهم ومُثُلهم المأخوذة من كتاب ربهم وسنة نبيهم، وأمتنا اليومَ أحوج ما تكون إلى منقِذ لها مما هي فيه، ولن يَصلُح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وما صلح أولها إلا بالكتاب والسنة.
(تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما إن تمسكتم بهما:كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض) الجامع الصحيح للسنن والمسانيد /75 وحسنه الألباني.
ولذلك جاءت هذه السورة تعالج قضايا وأمورًا مهمّة تسهم في حلّ كثير من المعضلات المعاصرة.
هذه السورة ذات الآيات الثمانية عشرة تضع معالم كامِلة لعالم رفيع كريم نظيف سليم، عالمٍ يصدر عن الله ويتّجه إلى الله، عالم نقيّ القلب نظيف المشاعر عفّ اللسان، وقبل ذلك عفّ السريرة، عالم له أدب مع الله, وأدبٌ مع رسوله، وأدب مع نفسه، وأدب مع غيره، أدَب في هواجس ضميره وفي حركات جوارحه. 
3- النداءات في سورة الحجرات
 يقول عبد الله بن مسعود : "إذا سمعتَ الله عز وجل  يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك، فإنما هو أمر تؤَمر به، أو نهي تُنهَى عنه، أو خبر تخبَر به".
وفي ثنايا هذه السورة المباركة جاءت ستة نداءات: خمسة منها جاء المنادَى فيها موصوفًا بوصف الإيمان، أما النداء السّادس فقد جاء عامًّا للناس كلّهم. 
هذه النداءات المتكرِّرة لم تسَق عبثًا في هذه السورة على هذا النسق المتوالي، ولكن جاءت لحِكَم عظيمة وفوائد جليلة، نسأل الله تعالى أن يوفّقنا لتدبّرها وتعقّل معانيها والعمل بمقتضاه:
أول هذه النداءات: هو قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1]. 
قال حبر الأمّة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس  في معنى الآية: "لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة".
وقال مجاهد: "لا تفتاتوا على رسول الله  بشيء حتى يقضيَه الله على لسانه".
وقال الضحاك: "لا تقضوا أمرًا دون الله ورسوله من شرائع دينكم".
فهذا أدب نفسيّ عظيم مع الله ورسوله، وهو منهج في التلقّي والتنفيذ، وهو أصل من أصول التشريع والعمل في الوقت ذاته، وهو منبثق من تقوى الله وراجع إليها.
وحين نتأمل حال الصحابة  الذين شهدوا التنزيلَ نرى العجب من أدبهم في هذا الأمر مع الله ورسوله، وهذا مقتضى العبودية لله تعالى، فلا يُقَدِّمَ هوَى نفسه أو غيره على أمر الله تعالى وحكمه، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا} [الأحزاب:36].
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. 
ثاني هذة النداءات: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2].
أما النداء الثالث: فهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].
رابع هذه النداءات: قوله جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11].
والنداء الخامس: في هذه السورة هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12].
أما آخر نداء: ورد في هذه السورة فهو النداء السادس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
وسنقف مع هذه النداءات شيئاً قليلاً فيما بعد.
4- وقوف الصحابة رضي الله عنهم عند النصوص
لقد كان الصحابة  أعظمَ من غيرهم انتفاعًا بالدليل والوحي وتسليمًا له لنزاهة قلوبهم وخلوِّها من كلِّ ميل أو هوى، واستعدادِها التامِ لقبول ما جاء عن الله ورسوله والإذعانِ والانقياد له انقيادًا دون حرج ولا تردّد ولا إحجام.
روى البخاري عن ابن عباس  أنه قال: "قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحرّ بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القرّاء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شبانًا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، لك وجهٌ عند هذا الأمير فاستأذِن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحرّ لعيينة فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هِي يا ابن الخطاب، فو الله ما تعطينا الجَزل ولا تحكم بيننا بالعَدل، فغضب عمر حتى همّ أن يوقعَ به، فقال الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين، قال: والله، ما جاوزَها عمر حين تلاها وكان وقّافًا عند كتاب الله عز وجل".
وهذا مقصِدٌ من أعظم مقاصِد الشريعة الغرَّاء: إخراجُ العبد من داعِي الهوَى المُطاع إلى تحقيق العبودية وتمام الإتباع؛ إذ المقصِد الشرعيُّ من وضع الشريعة: إخراجُ المُكلَّف عن داعِية هواه، حتى يكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبدٌ لله اضطرارًا.
وإذا كانت المآسِي تلفَحُ وجهَ الأمة في كل شِبرٍ وواد، فليس أرجَى ولا أنجَى من تلمُّس العقيدة والمقاصِد الشرعية، وإتباع السُّنَّة المُحمديَّة، فهما مناطُ العزِّ والنصر، حيث يُؤصِّلان للأمة العلوَّ والتمكين. 
أمة القران: إذا كانت سُورةُ الحُجرات قد بدأَت بتأصيل هذا الأساس المَكين من العبوديَّة، فإنها توَّجَت هذا الأصلَ بأدبٍ رفيعٍ، وخُلُقٍ سامٍ مع نبيِّ الإنسانية عليه الصلاة والسلام، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2].
وقد أجمعَ أهلُ العلم على أن الأدبَ مع النبي صلى الله عليه وسلم حالَ موته كالأدب معه في حياته.
يقول الإمام ابن مُفلحٍ رحمه الله: "ولا تُرفعُ الأصواتُ عند حُجرته عليه الصلاة والسلام، كما لا تُرفعُ فوق صوتِه؛ لأنه في التوقير والحُرمة كحياته".
وقال الإمام مالكٌ رحمه الله لمن رفعَ صوتَه في مسجد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: "يا هذا! لا ترفَع صوتَك في مسجِد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله عز وجل أدَّب قومًا فقال: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّومدحَ قومًا فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 3]، وذمَّ قومًا فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4]، وإن حُرمتَه ميتًا كحُرمته حيًّا".
إخوة الإيمان: وإن من أعظم الآداب التي جاءَت بها سُورةُ الحُجرات، والتي هي بحقٍّ منهجٌ لاستِقامة الأفراد والمُجتمعات: التثبُّت وحُسن الظنِّ بالمُسلمين، في قولِ الحقِّ سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
وقد قال نبيُّنا صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظنّ؛ فإن الظنَّ أكذبُ الحديث) متفق عليه.
وإن في غَمرة الأحداث المُتسارِعة الدامِية، تُحاولُ بعضُ النفوس الضعيفة شرخَ تلاحُم الأمة، وثَلْم وحدتها، وتُلبِّسُ على النُّزهاء البُرآء زعومًا ودعاوَى، بشائِعاتٍ باطِلة، وأكاذِيبَ مُلفَّقة، يفتَرون على الناس الكذِب، وتناسَوا قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: (المُسلمُ من سلِمَ المُسلمون من لسانِه ويدِه) متفق عليه.
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9].
كلها أسس متينة، تحفظ الحقوق، وترسي قواعد العدل، وتأخذ على يد الظالم، ثم أكد على القاعدة الأصل والوشيجة المتينة في الصف المؤمن {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10].  
فعلى المُسلم العَفِّ أمام هذه الإفرازات النفسية الداكِنة، أن يتمثل تلك الأوامر سعياً في دُروب الصُّلح والإصلاح بين المُسلمين، وحجز الظالم عن ظلمه، لاسيَّما عند الأزمَات، للبُعد عن الصراعات، ومُجافاة التحديات.
كما يتمثَّلُوا قولَه سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12]، وقولَه جل وعلا: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16].
عن حمَّاد بن زيدٍ رحمه الله قال: "بلغَني أن محمدَ بن واسِع كان في مجلسٍ فتكلَّم رجلٌ فأكثرَ الكلام، فقال محمد: ما على أحدِكم لو سكَت، فتنقَّى وتوقَّى".
وقال الإمام أحمد رحمه الله: "ما رأيتُ أحدًا تكلَّم في الناس إلا سقَط".
وقال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والكلامُ في الناس يجبُ أن يكون بعلمٍ وعدلٍ، لا بجهلٍ وظُلم، والوقيعةُ في أعراض الناس أشدُّ من سرِقة أموالهم".
أمة الإيمان: في عصر الفضائيات، وشبكات المعلومات، ووسائل التواصُل الاجتماعيِّ، يجبُ أن نكون أكثرَ ثقة، فلا نُعطِي آذانًا للمهازيل الأغرار، وخفافِيش الظلام الذين ينشرُون الإفكَ والبُهتان، والأقاويل المُفسِدة بين المُسلمين، بالتدابُر والهُجران والغِيبة والنَّميمة، وقد شبَّه المولَى المُغتابَ والنمَّام بوصفٍ تقشعرُّ منه الأبدان، فقال سبحانه: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12].
كما يجبُ ألا نُجارِيَهم في سُخريتهم من أهل الفضل والإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات: 11].
وفي عصرِنا غدَا فِئات من الناس وخصوصًا مع زمجَرة الإعلام الحديث أصبَحوا لا يسكُنُ لهم قرار، أو هدأَةٌ واصطِبار إلا بتمزيق الأعراض بصواعِق الألفاظ، وهمَزات الألحاظ، واستِهامها كالأغراض، وبِئسَت الغايات والأغراض!.
يكتبون الزُّور وبه تجري أقلامُهم، ويكتُمون الحقَّ وبه تأمرُهم أحلامُهم، يلمِزون الشرفاءَ الأطهار، ويسخَرون من الصالِحين الأبرار، في تفتيتٍ لوحدة الأمة الإسلامية، والأُخوَّة الإيمانيَّة، واللُّحمة الوطنية.
نسألُ اللهَ الهُدى والتوفيقَ والرشاد، وأن يعصِم من غُلوائِهم البلاد، ويحفظَ العباد. هذا الرجاء وذاك الأمل، واللهَ نرجُو التوفيقَ لصادق القول وخالِص العمل.
إخوة الإيمان: وقد ختمَ الله سبحانه آيةَ التحذير من السخرية بقوله: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11].
فإذا كان هذا في مُجرد السخرية.. فكيف بسفك الدم الحرام، والعتوِّ في الأرض والإجرام، والتطاوُل على بيوت الله، والإضرار بالمساجِد ودُور العبادة وانتِهاك حُرماتها، وترويع الساجِدين الآمِنين؟! 
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114].
إنها أضاليلُ أناسٍ تهصِرُ مِساكَ المُجتمعات، وتصهرُ مِلاكَ القِيم الرضيَّات ، يُخالِفون صريحَ قولِ ربِّ العزَّة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13].
أي: ليعرِف بعضُكم بعضًا، لا لتتنافَروا وتتناحَروا وتتباغَضُوا وتتشاحَنوا وتتقاتَلوا وتتصارَعوا.
فالإسلامُ بتعاليمه إنما يُتمِّمُ نُبلَ الأخلاق والمكارِم تتميمًا، ويعضِدُ الأخُوَّة والتآلُف أغرَّ وسيمًا، ونشرُ التسامُح بين أبناء المُجتمع جاء مُؤكَّدًا فيه لَزيمًا
أمة القُرآن: وتُختتمُ السورة بذكر صفات المُؤمنين، ثم النهي عن منِّ المنَّانين، فالمنُّ لله وحده، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حُنين: (ألم أجِدكم ضُلاَّلاً فهداكم الله بي؟! وكنتم مُتفرِّقين فألَّفكم الله بي؟! وعالةً فأغناكُم الله بي؟!)، كلما قال شيئًا قالوا: "الله ورسولُه أمنُّ" رواه البخاري ومسلم.
{بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحجرات: 17، 18].
ألا فاتقوا الله عباد الله، وتدبَّروا آيات كتابِه، وطبِّقوها في حياتكم واقِعًا ملمُوسًا، مُشاهَدًا محسُوسًا؛ تُحقِّقوا خيرَي الدنيا والآخرة.

http://shamkhotaba.org