الإذعان للحق شعار المؤمن
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الخميس 16 فبراير 2017 م
عدد الزيارات : 4354

مقدمة: تمت الاستفادة في هذه الخطبة من: 1-خطبة بعنوان قبول الحق للشيخ خالد بن سعود الحليبي، 2- خطبة عنوان: عدم التعصب للفصيل، من أخلاقنا في الجهاد، من إعداد رابطة خطباء الشام.

من أبرز خصائص هذا الدين أنه حرّر الإنسان من عبودية البشر؛ بعضهم لبعض، وجعل عبوديتهم لخالقهم وحده لا شريك له، فشعر الإنسان بقيمته التي اختطفها الظلمة على مر الأزمنة، وبحريته التي افتقدها حين ركع لحجرٍ أو شجر أو لنمرود أو فرعون.
1- الإذعان للحق شعار المؤمن
المؤمن وحده الذي يقبل الحق من أيّ مخلوق كان؛ فلا عصيبة، ولا عنصرية، ولا حزبية، بل هو الحق عزوجل وحده، فلديه ميزان واضح يقول: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57].
وقد أوجز الشاعر المخضرم لبيد بن ربيعة هذه القاعدة الجليلة في نصف بيت فأحسن، حتى استحق إشادة نبوية عظيمة، خُلِّدت في صحيح البخاري، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أصدقُ كلمةٍ قالَها الشَّاعرُ، كلمةُ لبيدٍ: ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللَّهَ باطلُ)، وإشادةُ النبي بقولة شاعر قالها في العصر الجاهلي قبولٌ للحق ذاتِه دون نظر إلى حال من قاله.
قال الشيخ عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين: "إشارة إلى أن الحق يقبل حتى ولو كان من الشعراء فالحق مقبول من كل أحد جاء به، حتى لو كان كافرا وقال بالحق فإنه يقبل منه، ولو كان شاعرا أو فاسقا وقال بالحق فإنه يقبل منه".
2- رد الحق واحتقار الناس
وقد قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين دفع الحق و احتقار الناس، لأن شأن من يرد الحق التعالي على الناس والأنفة من قبول الحق من غيره، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ) صحيح مسلم: 91.
قال ابن رجب: "فالمتكبر ينظر إلى نفسه بعين الكمال، وإلى غيره بعين النقص، فيحتقرهم ويزدريهم، ولا يراهم أهلاً لأن يقوم بحقوقهم، ولا أن يقبل من أحد منهم الحق إذا أورده عليه" جامع العلوم: 2/275.
وقد يكون سبب رد الحق ودفعه التعصب الشخص لقومه أو جماعته أو فصيله، فيكون هذا حجاباً عن الحق.
إن التعصب للرأي أو الجماعة والفصيل يتعايش مع المرء حتى يصل به إلى مرحلة تمنعه من اتباع الحق, ويصبح ولاؤه وبراؤه للجماعة التي ينتمي إليها لا للحق الذي جاء به الرسل والأنبياء وأخرهم نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا مهلكة للعبد -فضلاً عن أن يكون مجاهداً-  لا ينبغي أن يسلك مسالكها, فالحق أحق أن يُتبع وإن كان من المخالف، بل إن الحق هو بُغيَة كل صادق, وهو منهج أصيل في ديننا، علمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابتُه الكرام من بعده..
وهذا الشافعي رحمه الله تعالى يقول: "ما كلّمتُ أحداً إلا أحببتُ أن يُوفق ويُسدد ويُعان، وما كلمتُ أحداً قط إلا ولم أبال بيّن الله الحق على لساني أو لسانه".
3- موانع قبول الحق
ولترك الحق أسباب جلية؛ كاختلاف الدين أو العِرق، أو الحقد، أو الحسد الظاهر أو التنافس، وله أسباب خفية كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ويلحق الذمُّ من تبيّن له الحق فتركه، أو من قصّر في طلبه حتّى لم يتبين له، أو أعرض عن طلب معرفته لهوى أو لكسل، أو نحو ذلك". اقتضاء الصراط المستقيم: 2/85
فالكسل من أخفى الأسباب التي توصّل إلى عدم معرفة الحق، يقول العلامة صديق حسن خان رحمه الله: "وإنما يَعرف الحقَّ مَن جَمَع خمسة أوصاف أعظمهـا: الإخلاص، والفهم، والإنصاف، رابعها –وهو أقلّها وجودًا وأكثرها فقدًا- الحرص على معرفة الحق، وشدة الدعوة إلى ذلك" قطف الثمر: 175
فكل عزيز يحتاج إلى مزيد جهد للوصول إليه، والحق عزيز.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ارحَموا تُرحموا، واغفِروا يغفِرْ لكم، ويلٌ لأقماعِ القولِ، ويلٌ للمُصرِّين على ما فعلوا وهم يعلمون) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (380) وصححه الألباني
و(أقماع القول): كما قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: "الذين آذانهم كالقُمع يدخل فيه سماع الحق من جانب، ويخرج من جانب آخر لا يستقر فيه" فتح الباري: ج1، ص181
لا تحقرن الرأي وهو موافقحكم الصواب إذا أتى من ناقصٍ
فالدُّرُّ، وهو أعز شيء يُقتنَىما حَـطَّ قيمتَه هـوانُ الغائـصِ
والأسباب المانعة من قبول الحق كثيرة جدًّا، فمنها:
الجهل به: وهذا السبب هو الغالب على أكثر النفوس، فإن من جهل شيئًا عاداه، وعادى أهله؛ فإن انضاف إلى هذا السبب بُغض من أمره بالحق، ومعاداته له، وحسده كان المانع من القبول أقوى، فإن انضاف إلى ذلك إلفه وعادته ومرباه على ما كان عليه آباؤه، ومن يحبه ويعظّمه؛ قوي المانع، فإن انضاف إلى ذلك توهمه أن الحق الذي دُعي إليه يحول بينه وبين جاهه وعزه وشهواته وأغراضه، قوي المانع من القبول جدًّا، فإن انضاف إلى ذلك خوفه من أصحابه وعشيرته وقومه على نفسه وماله وجاهه... كان أقوى وأقوى. انظر هداية الحيارى لابن القيم، ص16
ومن أعظم هذه الأسباب: (الحسد) فإنه داءٌ كامن في النفس ويرى الحاسد أن المحسود قد فُضِّل عليه، وأُوتي ما لم يؤتَ نظيره، فلا يدعه الحسد ينقاد له، ويكون من أتباعه، وهل منع إبليس من السجود لآدم إلا الحسد؟! فإنه لما رآه قد فُضِّل عليه، ورفع فوقه غصَّ بريقه، واختار الكفر على الإيمان بعد أن كان بين الملائكة. انظر هداية الحيارى لابن القيم، ص16
إن الإنصاف سمة النبلاء، وإن صغار النفوس هم الذين يتعصبون لآرائهم ولا يقبلون بغيرها حتى وإن كان غيرهم أعمق من رأيهم فكرًا، وأكثر منه نفعًا. أما الكبار فهم الذين يحملهم تواضعهم على تقبُّل وجود الرأي المخالف، وتقديره والثناء عليه متى كان فيه الخير والصواب، رافعين شعار: "قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب".
4- نماذج عظيمة في قبول الحق
قبول الحق من المرأة: وهذا جاء في قصة المرأة التي عارضت الفاروق عمر عندما قال: "لا تغالوا في مهور النساء"، فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر؛ إن الله يقول: وآتيتم إحداهن قنطاراً من ذهب، قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود: فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئاً، فقال عمر: "إن امرأة خاصمتْ عمر فخصمتْه" وإن صحت هذه القصة عنه رضي الله عنه فهي دليل -كما أوضح شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه منهاج السنة- على كمال فضل عمر ودينه وتقواه ورجوعه إلى الحق إذا تبين له، وأنه يقبل الحق حتى من امرأة.
تصديق الكافر: كما قصَّ الله تعالى علينا ما قالت بلقيس, التي كانت كافرةً تعبد الشمس من دون الله:  {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً}، فقال تعالى تصديقاً لقولها: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34]. 
بل حتى من شر الخلق(إبليس) فقد روى البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، وَقُلْتُ وَاللَّهِ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  قَالَ إِنِّي مُحْتَاجٌ، وَعَلَىَّ عِيَالٌ، وَلِى حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ فَخَلَّيْتُ عَنْهُ فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ)، قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: (أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ)، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّهُ سَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ، وَعَلَىَّ عِيَالٌ لاَ أَعُودُ، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ)، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: (أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ)، فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا آخِرُ ثَلاَثِ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَزْعُمُ لاَ تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ، قَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا، قُلْتُ: مَا هُوَ قَالَ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِي {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيّ الْقَيُّومُ} حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلاَ يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ) قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: زعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ، يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ (مَا هِي)، قُلْتُ قَالَ لِي: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِي مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُ الْقَيُّومُ} وَقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلاَ يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيءٍ عَلَى الْخَيْرِ، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: (أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ) قَالَ: لاَ، قَالَ: (ذَاكَ شَيْطَان).
فصرنا متعبدين بقول رسولنا بعد هذه الحادثة... فالله أكبر ما أعظم هذا الدين وما أشنع فعل المتعصبين.
5- قبول الحق سمة النفوس الكبيرة
الكبار لا يُقدّسون أنفسهم فيدَّعون العصمة من الخطأ، ولا يستخفون بآراء الآخرين أو يُسفهونها كي لا تتضح معالم الخطأ في قراراتهم، والكبار يسيرون في ركب الأقوياء فيصححون ما وقعوا فيه من خطأ متى ظهر لهم ذلك، ويُقوّمون من اعوجاجهم متى نصحهم أحد بذلك، والكبار هم الذين ينأون بأنفسهم عن ذلك، بل يُشركون غيرهم معهم، ويعتبرون الجميع شركاء في بناء الفكرة، ونجاح المشروع، وإدارة المؤسسة.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "فعلى المسلم أن يتبع هدى النبي - صلى الله عليه وسلم- في قبول الحق ممن جاء به من ولي، وعدو، وحبيب، وبغيض، وبر، وفاجر، ويرد الباطل على مَن قاله كائنًا من كان". إعلام الموقعين (1/ 104-105)
وقال رحمه الله أيضًا: "فمن هداه الله سبحانه إلى الأخذ بالحقِّ حيث كان ومع من كان ولو كان مع من يبغضه ويعاديه، ورد الباطل مع من كان ولو كان مع من يحبه ويواليه، فهو ممَّن هُدِي لما اختلف فيه من الحق". الصواعق المرسلة 2/516
ومن ألطف ما يُذكر في هذا المقام ما ذكره العلامة اليماني عبد الرحمن المعلمي رحمه الله؛ حيث قال في التنكيل، وهو يعدد مسالك الهوى: "فمسالك الهوى أكثر من أن تُحصى، وقد جربت نفسي أنني ربما أنظر في القضية زاعمًا أنه لا هوى لي، فيلوح لي فيها معنى، فأقرره تقريرًا يعجبني، ثم يلوح لي ما يخدش في ذاك المعنى، فأجدني أتبرم بذاك الخادش وتنازعني نفسي إلى تكلف الجواب عنه وغض النظر عن مناقشة ذاك الجواب!! وإنما هذا؛ لأني قررت ذاك المعنى أولاً تقريرًا أعجبني فصرت أهوى صحته، هذا مع أنه لا يعلم بذلك أحد من الناس، فكيف إذا كنت قد أذعته في الناس ثم لاح لي الخدش؟ فكيف لو لم يلح لي الخدش ولكنَّ رجلاً آخر اعترض عليَّ به؟ فكيف إذا كان المعترض ممن أكرهه؟ هذا ولم يكلف العالم بأن لا يكون له هوى؟ فإن هذا خارج عن الوسع، وإنما الواجب على العالم أن يفتّش نفسه عن هواها حتى يعرفه، ثم يحترز منه، ويمعنَ النظر في الحق من حيث هو حق، فإن بان له أنه مخالف لهواه آثر الحق على هواه". انظر: التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، للشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني 3/ 235
 

http://shamkhotaba.org