مقدمة:
قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} [الحجرات: 9-10].
هذه الآية من سورة الحجرات مع ما قبلها من آيات دستورٌ للمسلمين في قضية من القضايا الهامة التي لها تعلق بأمر العامة ومصلحة الأمة جمعاء، حيث يبلغ الخلاف بين المسلمين حد البغي وإشهار السلاح واستباحة الحرمات، فينزل الله رحمةً بعباده توجيهاً خاصاً لهذه القضية، ويفصل في حالاتها واحتمالاتها، حتى لا يدع لعقل أحد الاجتهاد في الخوض في أمر الدماء والأعراض والحرمات، فيفصّل الله حالات ذلك جميعاً، ثم يذكر التوجيه في كل حالة، فيبين الواجب عند وقوع البغي بالرد إلى العدل والإصلاح، وذلك بعد أن يقرر أن الأصل بقاء الأخوة في الإسلام، ثم يبين حالةَ إذا حكم أهل العدل ونكصت فئةٌ وامتنعت عن حكم الله فيأمر بقتالها ودرء شررها عن عموم الأمة.
1- دستور المسلمين في مواجهة الخلاف والفتن
يقول صاحب تفسير(في ظلال القرآن) عن هذه الآية وما قبلها من سورة الحجرات: "وأول ما يبرز للنظر عند مطالعة السورة، هو أنها تكاد تستقل بوضع معالم كاملة، لعالم رفيع كريم نظيف سليم; متضمنة القواعد والأصول والمبادئ والمناهج التي يقوم عليها هذا العالم; والتي تكفل قيامه أولا، وصيانته أخيرا.. عالَمٌ يصدر عن الله، ويتجه إلى الله، ويليق أن ينتسب إلى الله.. عالَمٌ نقي القلب، نظيف المشاعر، عف اللسان، وقبل ذلك عف السريرة.. عالَمٌ له أدب مع الله، وأدب مع رسوله، وأدب مع نفسه، وأدب مع غيره. أدب في هواجس ضميره، وفي حركات جوارحه. وفي الوقت ذاته له شرائعه المنظمة لأوضاعه، وله نظمه التي تكفل صيانته. وهي شرائع ونظم تقوم على ذلك الأدب، وتنبثق منه، وتتسق معه; فيتوافى باطن هذا العالم وظاهره، وتتلاقى شرائعه ومشاعره، وتتوازن دوافعه وزواجره; وتتناسق أحاسيسه وخطاه، وهو يتجه ويتحرك إلى الله.. ومن ثم لا يوكل قيام هذا العالم الرفيع الكريم النظيف السليم وصيانته، لمجرد أدب الضمير ونظافة الشعور; ولا يوكل كذلك لمجرد التشريع والتنظيم. بل يلتقي هذا بذلك في انسجام وتناسق. كذلك لا يوكل لشعور الفرد وجهده، كما لا يترك لنظم الدولة وإجراءاتها، بل يلتقي فيه الأفراد بالدولة، والدولة بالأفراد; وتتلاقى واجباتهما ونشاطهما في تعاون واتساق".
يقول الطبري: يقول تعالى ذكره: {وإن طائفتان من أهل الإيمان اقتتلوا} فأصلحوا- أيها المؤمنون- بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضا بما فيه لهما وعليهما، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل {فإن بغت إحداهما على الأخرى} يقول: فإن أبت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله له وعليه، وتعدت ما جعل الله عدلا بين خلقه، وأجابت الأخرى منهما {فقاتلوا التي تبغي} يقول: فقاتلوا التي تعتدي، وتأبى الإجابة إلى حكم الله {حتى تفيء إلى أمر الله} يقول: حتى ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه ،فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل، يقول: فإن رجعت الباغية بعد قتالكم إياهم إلى الرضا بحكم الله في كتابه، فأصلحوا بينها وبين الطائفة الأخرى التي قاتلتها بالعدل: يعني بالإنصاف بينهما، وذلك حكم الله في كتابه الذي جعله عدلاً بين خلقه".
ثم يعقّب صاحب تفسير (في ظلال القرآن) على هذه الآية بكلام بديع فيقول:" وهو عالَمٌ له نظمه وإجراءاته العملية في مواجهة ما يقع فيه من خلاف وفتن وقلاقل واندفاعات، تخلخل كيانه لو تركت بغير علاج، وهو يواجهها بإجراءات عملية منبثقة من قاعدة الأخوة بين المؤمنين، ومن حقيقة العدل والإصلاح، ومن تقوى الله والرجاء في رحمته ورضاه".
2- الأخوة في الدين باقية
عند اشتداد الخلاف وتجييش النفوس غالباً ما يكون ذلك كله مدعاةً للبغي وتجاوز العدل، فيبين الله هنا الأصل الذي ينبغي أن ننطلق منه ويذكر بالرابط العظيم الذي لا يجوز الاجتهاد بنقضه لهوى أو جهل، فيقول سبحانه: يقول: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} أي مهما حدث بينهم من خلافٍفإنّ هذا لا يُخرجهم عن الإيمان.
يقول الحافظ ابن كثير: "فسماهم مؤمنين مع الاقتتال، وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج عن الإيمان بالمعصية وإن عظمت، وتصدير الآية بحرف الشّرط (إن) الدالّ على الشكّ -إن حدث هذا- ليفيد نُدرة وقوع ذلك بين المؤمنين لأنّ وقوع ذلك استثناء قليل جدّاً، أمّا الأصل فهو: التوادّ والمحبّة والتعاطف والتراحم بين المؤمنين،حيث أنّ الأصل في علاقة المؤمنين" (مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو: تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى)
3- سمة أهل الإيمان الإصلاح
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}: {إنما} هذه كافَّةٌ ومكفوفة تفيد معنىً دقيقاً وهو: أنه ما لم تشعر بانتمائك إلى أخيك في الإيمان فلست مؤمناً، وعلامة إيمانك أن تشعر بقربك الشّديد من أخٍ مؤمنٍ ولو كان بعيداً عنك، أو من بلادٍ أخرى، ولو كان من أقوامّ أخر.
وهذا الانتماء يجب أن يكون لمجموع المؤمنين، لا إلى جماعةٍ قليلةٍ تعمِّق انتماءك إليها على حساب انتمائك للمجموع العامّ، وهذا ممّا يفتّت المؤمنين.
وهنا يبرز دور المؤمن الحريص على الجماعة: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} حيث سعى في المؤاخاة، وإزالة ما بينهما من العداوة، والحرص على تأليف القلوب فيما بينهم، وجمعها، وإزالة العداوة والشّحناء والقطيعة، إذ أنّ هذا من أفضل الأعمال، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1].
أصلحوا فيما بينكم، إذا رأيتم بعض إخوتكم الّذين هم من المؤمنين؛ رأيتموهم قد تقاطعوا فأصلحوا بينهم؛ حتى يتآخوا؛ كذلك قال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114].
يعني أو سعياً في الصّلح بين النّاس؛ فإنّ ذلك ممّا يحبه الله تعالى، وممّا يرغّب فيه، وجاء في الحديث: (الصّلح جائزٌ بين المسلمين إلّا صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً)
كأنّه يحث على الإصلاح بين المسلمين، وجاء في حديثٍ (أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يرخّص في شيء ممّا يقال إنّه كذب إلّا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين النّاس، وحديث الرّجل امرأته وحديث المرأة زوجها)
فكذلك إذا حصل بينهم قتال أو خيف أن يحصل الفساد؛ فإنّ أهل البلد أو بقيّة المسلمين أو القضاة أو الأمراء ونحوهم؛فإنّهم جميعاً يسعون في الإصلاح بينهم {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}.
نعم؛ شارة أهل الإيمان السّعي للإصلاح، ولمّ الشمل المتفرّق، وإطفاء نار الخصومة، {فأصلحوا بين أخويكم}: لا تقف مكتوف اليدين؛ قل كلمة، افعل شيئاً، قرّب بين قلوبٍ تباعدت.
فالإصلاح طريقٌ لنيل رحمة الله {فأصلحوا بين أخويكم واتّقوا الله لعلكم ترحمون} وإنّ عدم القيام بحقوق المؤمنين من أعظم حواجب الرّحمة.
4- سمة أهل الإيمان المبادرة والانصياع لحكم الله
كما بين سبحانه أن المؤمن يسارع في رأب الصدع بين إخوانه، فيتداعى المؤمنون للإصلاح، كذلك بين سبحانه أن من شأن المؤمن إذا دعاه أهل العدل لحكم العدل وأمر الله سارع وانصاع لذلك، لذا قال ابن جرير الطبري: "فإن أبت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله لها وعليها، وتعدت ما جعل الله عدلاً بين خلقه، وأجابت الأخرى منهما، {فقاتلوا التي تبغي} يقول: فقاتلوا التي تعتدي وتأبى الإجابة إلى حكم الله، حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ يقول: حتى ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه.. إلى آخر ما قال".
ولو تأمل المتأمل لوجد أنه اجتمع هاهنا بغيان وليس بغياً واحداً، فالأول بالاعتداء، والثاني بالاستنكاف عن حكم الله، ولما كان الثاني دليلاً واضحاً على أن هذه الفئة فئة شرٍ وإفساد -حيث لايُتصور لمؤمن أن يستنكف عن حكم الله- هنا كان الأمر الرباني بحزم الأمر ووجوب مقاتلتهم ودفع خطرهم وشرهم عن الأمة.
5- التوجيه الرباني بالحزم قتال الباغية، وسر ذلك
لما اجتمع إلى فساد البغي فساد الإعراض عن حكم العدل والإذعان لأمر الله فلا غرابة أن يأمر الله بقتال هذه الفئة، لذ قال سبحانه آمراً أمراً واضحاً لا لبس فيه {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}.
فعلى المؤمنين جميعاً أن يقاتلوا الفئة الباغية إن لم تذعن لأمر الله؛ لأنّ السكوت على المنازعات سببٌ أساسيٌّ في تفتت عضد المسلمين.
{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} أي أنّ مجموع المؤمنين يجب أن يقاتلوا الفئة الباغية، لأنّه لا شيء يعين الظّالم على ظلمه كسكوت الآخرين على هذا الظّلم، فلو أن كل مسلمٍ رأى انحرافاً، أو رأى ظُلماً بين مؤمنين ووقف إلى جانب المظلوم، لصار الظالم يفكِّر ألف مرَّة قبل أن يقدم على ظلم أخيه،ولو أنّ هذه الآية مطبَّقةٌ في العالم الإسلاميّ لتريّث المسلم قبل أن يعتدي على أخيه المسلم كثيراً، لأنّه إن فعل ذلك سيخسر كافَّة المؤمنين، وسيوجّه المؤمنين كافَّةً إلى مستوى القِتال.
فالانهزاميّة والسلبيّة ليست موقفاً إيمانيّاً يليق بالمؤمن، لقوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} يجب أن تقاطع الباغي، وأن تزجره، وأن توقفَه عند حدِّه، فبهذه الطريقة يتقلَّص الظّلم وتضيق دوائره، وينمو العدل وتتّسع دوائره، ولذلك: لا يفشو الباطل وتتسع دائرة الظّلم إلا إذا لقي الباغي احتراماً من الجميع، وهذا يقودنا إلى العمل بهدي نبيّنا عليه الصلاة والسلام: (انصر أخاك ظالـمًا، أو مَظْلومًا)، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مَظْلومًا، أفرأيت إذا كان ظالـمًا، كيف أنصره؟ قال: (تَحْجُزُه، أو تمنعه من الظُّلم، فإنَّ ذلك نَصْره).
http://shamkhotaba.org