مقدمة:
فضيلة كل شيء بقدر إعانته على تحصيل السعادة، وهي لقاء الله تعالى والقرب منه، فكل ما أعان على ذلك فهو فضيلة، وعلى ذلك فإن للخوف فضلاً عظيماً، قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46].
وقال أيضاً: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8].
1- حقيقة الخوف من الله
الخوف هو تألم القلب، واحتراقه بسبب توقع مكروهٍ في المستقبل، ويتناسب الخوف زيادة ونقصاناً مع معرفة الإنسان بعيوب نفسه وبجلال الله تعالى واستغنائه، وأنه تعالى لا يُسأل عما يفعل.
وأخوف الناس أعرفهم بالله؛ لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَمَا وَاللهِ، إِنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَخْشَاكُمْ لَهُ)
وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
وإذا كملت المعرفة انعكس أثر الخوف على القلب، ثم على الجوارح، ويكون ذلك بكفها عن المعاصي وإلزامها الطاعات، تلافياً لما تم التفريط فيه واستعداداً للمستقبل، ولذلك قال أحدهم: "ليس الخائف من بكى، وإنما الخائف من ترك ما يقدر عليه، أي من المعاصي".
2- سوط الله تعالى
الخوف سوط الله جل جلاله يوصل به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل، لينالوا بهما رتبة القرب منه جل في علاه.
فمن ثمرات الخوف: أنه يقمع الشهوات، ويكدّر اللذات، فتصير المعاصي المحبوبة للشخص مكروهة، كما يصير العسلُ مكروهاً عند من يشتهيه إذا علم أن فيه سُمّاً، فتحترق الشهواتُ بالخوف، وتتأدّبُ الجوارحُ، ويذِلُّ القلبُ ويستكين، ويفارقه الكِبْرُ والحقد والحسد، ويصير مستوعب الهمِ في النظر لعاقبته، وينشغل بالمراقبة والمحاسبة والمجاهدة، ومؤاخذةِ النفس في الخطرات والخطوات والكلمات؛ وأقلُّ درجاتِ الخوف ما يظهر أثرُه في الأعمال أن يمنع الإنسانَ من المحظورات، فإنْمنَعه مما يتطرق إليه إمكانُ التحريم سُمّي ورَعاً، وإذا انضمَّ إليه التجردُ والاشتغال بذلك عن فضول العيش فهو الصدق.
إنّ المؤمن حيُّ الضميرِ يحسب حساباً للقاء الله، ويعلم أنه سيقف وحيداً ليس بينه وبين الله ترجمان، وسيَعرض عليه ربُّه ذنوبه، لذلك فهو يخاف من الله ومن عذابه، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الزمر: 13].
وقال: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر: 16].
إنّ كل مخلوق عندما يخاف يجثو على ركبتيه، لذلك فالخلق كلهم يوم القيامة يجثون فرقاً وخشية من رب العزة ومن ذنوبهم، قال الله تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 28-29].
أيها العاصي: سيأتيك يوم تجثو فيه على ركبتيك، وستُسأل فأعد للسؤال جواباً وللجواب صواباً.
3- أحد جناحي النجاة
من المعلوم أن الرجاء والخوف جناحان يطير بهما المقربون إلى كل مقامٍ محمود، ومطيتان بهما يقطع من طريق الآخرة كل عقبةٍ كؤود، والأفضل للمتقين اعتدال الخوف والرجاء، ولذلك قيل: لو وُزن خوفُ المؤمن ورجاؤه لاعتدلا، وحيث إنّ المقام هنا عن ذكر فضيلة الخوف فإننا نورد بعض الأدلة على ذلك، فقد قال تعالى في صفة الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط مستجمعاً ضاحكاً، حتى أرى لهواته، إنما كان يبتسم، وكان إذا رأى غيماً وريحاً عُرف ذلك في وجهه، فقلت: يا رسول الله! الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عُرفت الكراهة في وجهك! فقال: (يا عائشة! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟ قد عُذّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا)
(وكان صلى الله عليه وسلم يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء)
ومما يُذكر من مخافة الأنبياء من الله سبحانه وتعالى، أنّ نوحاً عليه السلام لما عاتبه الله عز وجل بقوله: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46].
بكى 300 عامٍ حتى صار تحت عينيه أمثال الجداول من البكاء.
أما صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ملأت مهابة الله عز وجل قلوبهم وظهرت آثار الخوف على أفعالهم حتى غدوا مضرِب الأمثال في التقوى بعد الأنبياء.
قال علي رضي الله عنه: "والله لقد رأيت أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فما أرى اليوم شيئاً يشبههم، لقد كانوا يصبحون شُعثاً غُبراً، بين أعينهم أمثال ركب المعزى، قد باتوا لله سُجداً وقياماً، يتلون كتاب الله تعالى، يُراوحون جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا ذكروا الله عز وجل، مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم، حتى تبل ثيابهم، والله! لكأن القوم باتوا غافلين".
فهذه مخاوف الملائكة والأنبياء والصحابة، ونحن أجدر بالخوف منهم، ولكن ليس بكثرة الذنوب، بل بصفاء القلوب وكمال المعرفة، وإنما أمنّا فلغلبة جهلنا وقوة قساوتنا، فالقلب الصافي تحركه أدنى مخافة، أما القلب الجامد تنبو عنه كل المواعظ.
4- قد يبتليك الله بالمغريات ليختبر خشيتك
أخي المسلم: كلنا يعلم أن المُحرم بالحج أو العمرة يحرُم عليه الصيد، هل تعلم أن اللهَ ابتلى الصحابةَ رضي الله عنهم وهم في حال الإحرام بأن الصيدَ اقترب منهم حتى إن أحدهم يستطيع أن يصيده بيده دون استخدام آلةٍ للصيد!.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94].
وفي هذا الزمن يتكرر الابتلاءٌ ولكن بشكل مختلف، عندما يقرِّب الله لك الصور والمقاطع المحرمة والدردشات المحظورة الممقوتة.. فبلمسةٍ خفيفةٍ على شاشة جوالك أو بضغطة زر على حاسبك الآلي تشاهد ذلك.
تـَـــــذَكَّــــــر: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
في خلوتك لا يغرنك صمتُ أعضائـك، فـإن لهـا يـومـاً تتكلـم فـيـه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65].
تأمل جيداً قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}.
يقول أحد السلف: "خوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب أعظم من الذنب إذا فعلته".
يقول أحد من ابتلي بالنظر للحرام: سمعتُ خشخشةً في الباب، فبلغ قلبي حنجرتي، وانقطع نفَسي، فأغلقت جهازي، وفتحت الباب؛ فوجدتها هرَّة!، هرة خوفتك وقطَّعت أنفاسك!!، اعلم أن الله أقرب!.
ليس بين الرجلِ وبين ما يُوصَلُ إليه من خِزيٍ في هاتفه الذكيِّ إلا جدار "مراقبة الله".
قال العلامة الشنقيطي: "أجمع العلماء أن الله لم يُنزِل إلى الأرض أعظمَ واعظٍ ولا أكبرَ زاجرٍ أعظمَ من المراقبة، فمن هدم الجدار؛ فقد تجرَّأ، وما أقبح الجرأة على الله! إياك أن تكون ولياً لله في الظاهر عدواً له في الباطن".
في الوقت الذي نقول فيه: هذا زمانٌ الوصول فيه إلى الحرام أسهل من غيره، يجب أن نقول: هذا زمانٌ القرب فيه من الله بترك الحرام أعظم من غيره!.
وقس على هذا كل ذنب: القتل، السرقة، الزنا، هتك الأعراض، الصيال، الافتراء، قذف المحصنات، الغلول..
عباد الله: خذوا حذركم من ذنوب الخلوات فإنهاتطعن في خاصرة الثبات، وعليكم بعبادة السر فإنك تقي بها النفس من نوازع الشهوات.
إذا أردت الثبات حتى الممات، فعليك بالمراقبة في الخلوات.
أما يوم القيامة: فعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا) قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: (أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا)
5- واقعنا ومخافة الله تعالى
عباد الله: لا شك أن مجتمعاتنا تعاني من عدة أزمات على كل الصعد فمن استحلالٍ للدماء بالقتل واستباحةٍ للأموال بالتعدي وقلة الأمانة وللأعراض بالانتهاك والغيبة، الأمر الذي قد يكون أعظم أسبابه كله هو قلة الخوف من الله عز وجل الذي يرتبط ارتباطاً لصيقاً بالإيمان فكلما زاد الإيمان زاد الخوف، وإذا زاد الخوف كان العبد أبعد عن المعاصي، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الطلب من الله أن يرقه الخوف، فعن ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ لِأَصْحَابِهِ: (اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ..)
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، اللهم اجعلنا نخشاك كأننا نراك،اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول بيننا وبين معصيتك.
http://shamkhotaba.org