مقدمة:
إنّ هذه الأمة أمة عظيمة، وأمّة كريمة مجيدة، ما شهد التاريخ مثلَها، وما عرف المخاض مولودًا أكرم على الله منها، أمّة تغفو ولكنّها لا تنام، قد تمرض ولكنّها لا تموت، أمّة أنجبت للدّنيا علماء فقهاء، وأخرجت للكون أبطالا شرفاء، ولنا اليوم وقفةٌ مع تاريخِ هذه الأمة، لنقلّب الصفحات و نلتمّس العبَر والعِظات.
اقرؤوا التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر
1- أمة الإسلام تمرض لكنها لا تموت
قال المرجفون لأجدادنا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173].
فقال أجدادنا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
فكانت النتيجة: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران: 174].
قلنا: مسلسل الجمع والحشد لهذه الأمة مسلسل قديم جديد.. مازالت حلقاته تتابع، وخططه تتوارث، وبرامجه تتواصل، فقد جمعوا لنا في الأحزاب فانقلبوا صاغرين.. وجمعوا لنا في الحروب الصليبية فاندحروا مقهورين.. وجمعوا لنا في بغداد التاريخ والحضارة فخابوا خاسرين .. فهذا هو قدر هذه الأمة أن تجمع لها الجموع وتجيش لها الجيوش.. ولقد قال التاريخ كلمته الفصل التي غدت حقيقة ثابتة، لا يمارى بها ،ولا يشك فيها أحد، ولا يختلف فيها اثنان.
إن هذه الأمة قد تترنح تحت الضربات، وقد تهزم حيناً أمام هذه الحشود الجرارة ،غير أنها أبداً لا تموت.
هذه الأمة تجعل من المستحيل ممكناً، وتتخذ من الصعب مركباً، إن لم تجد سلاحاً جعلت من الحجر سلاحاً فتاكاً، ومن الأجساد العارية دبابات ومدرعات، ومن الأيدي الغضة الطرية قاذفات وراجمات للدفاع عن نفسها.. ولن تموت تحت حراب البغي والعدوان، قد تهدم البيوت، وتدك المدن، وتحطم الممتلكات، وربما يموت الآلاف من أبنائها وشيوخها ونسائها وأطفالها وجنودها، غير أن هذا كله لن يصيب منها مقتلاً، ولن يُسكت لها صوتاً ، أو يجعل منها أثراً بعد عين.
غير هذه الأمة يمكن أن تكون أثراً بعد عين، لكن هذه الأمة سرعان ما تجمع أشتاتها وتلملم أنفاسها، وتمسح أحزانها وتداوي جراحها، وتكتم آهاتها كي تنطلق من جديد نحو الشمس بعزة وشموخ وأنفة وكبرياء.
هذا ظننا بهذه الأمة، التي صاغ القرآن كيانها، وأشاد الرسول الكريم –صلى الله عليه وسلم– بنيانها، وهذا يقيننا بالله الذي نصر عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده ورد كيد الطامعين المعتدين إلى نحورهم.
هذه الأمة لن يقوى على الإطاحة بها الطاغوت الصغير جداً، بعد أن ثبت عجز أسلافه الذين سبقوه، من صليبيين وحاقدين على مدار التاريخ، فإذا استطاع " الطاغوت" أن يشتري بدولاراته بعض النفوس الضعيفة، أو يسلب عقول التافهين أو يقهر ذوي العزائم الخائرة من أبنائها "الساقطين"، أو يصطف خلفه طابور الجبناء الذين احتقروا نفوسهم، وهانت عليهم أعراضهم، وذرات تراب أوطانهم، فهذا لا يعد انتصاراً يسجله له التاريخ، فإنه ومن والاه من عصبته بائدون، والى مزبلة التاريخ راحلون، وكل ذلك سيكون بعون الله وفضله ومنّه وكرمه على عباده المؤمنين.
قال تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196]
أنت الملاذ إذا ما أزمة شمـلت وأنت ملجأ من ضاقت به الحيلُ
أنت المنادى به في كل حـادثة أنت الإله وأنت الذخر والأملُ
أنت الرجاء لمن سدت مذاهبه أنت الدليل لمن ضّلَّتْ به السبلُ
إنا قصدناك والآمال واقعة عليك والكل ملهوف ومبتهلُ
هذه الأزمات والشدائد, والضعف الذي يصيب الأمة لن يميتها أبدًا, فقد حدثنا التاريخ أن الصبر والثبات والحكمة والأناة وصلت بهذه الأمة الضعيفة إلى القوة, بل إلى السيادة والريادة.
فمن الذي كان يصدق أن الجزيرة العربية وهي تلك الصحراء الجافة المجدبة تنبت النور والعرفان, وتسيطر بنفوذ أبنائها الروحي والسياسي على أعظم دول العالم؟ {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
ومن كان يدور بخاطره أن ينتصر المسلمون في غزوة بدر الكبرى, برغم قلة العدد, والعدة: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123].
وفي غزوة الأحزاب قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْجَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9]
ومن الذي كان يظن أن الصديق صاحب القلب الرقيق رضي الله عنه ينتفض, ويحشد في يوم واحد أحد عشر جيشًا لقمع المرتدين, ويستخلص حق الله في الزكاة من المانعين؟
ومن ذا الذي كان يظن أن صلاح الدين الأيوبي يقف الأعوام الطوال, فيرد ملوك أوربا على أعقابهم مدحورين على توافر عددهم, وكثرة عدتهم, وتظاهر جيوشهم, حتى اجتمع عليه خمسة وعشرون ملكًا من ملوكهم الأكابر, فمن كان يتوقع أن ينتصر المسلمون بقيادة هذا البطل على الصليبين.
ومن كان يتخيل أن ينتصر المسلمون على التتار بقيادة قطز في معركة عين جالوت ذلك كله في التاريخ القديم. واقرأوا التاريخ فهو خير شاهد, وفيه العبرة والعظة.
وأما في هذه الأيام التي نعيشها فبعد أن كاد اليأس يستولي على قلوب الكثير من أبناء الأمة بسبب ما يتعرضون له من من شدة في البلاء والمحن والمصائب من جهة,ومن فتور عند بعض المجاهدين في إشعال الجبهات ليخلصوهم من هذا النظام المجرم الخبيث من جهة ثانية, حتى كاد الناس أن يغيروا نظرتهم في المجاهدين ويتهمونهم بالعمالة والخيانة فإذا بهم اليوم يطلقون أكبر العمليات القتالية ضد النظام وأعوانه في دمشق ودرعا وحماة وريفها, ليبرهنوا للعالم كله أن تلك المدة التي قعدوها ما هي إلا استراحة مجاهد ليبدأ من جديد, ولله الحمد تحطمت أمامهم كثير من السدود وفُتح لهم الفتحُ المبين, والأخبار المفرحة تتابع حينا بعد حين.
فنحن امة لا يعرف اليأس إلى قلوبنا طريقا، وسنصبر حتى يمل الصبر من صبرنا، بإذن ربنا.
2- التمسك والعمل بالقران والسنة سبب لحفظ الأمة
ستظل هذه الأمة القرآنية محفوظة بحفظ الله, طالما أن القرآن الكريم محفوظ في صدور أبنائها، إنه كلام رب العالمين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، والذي تكفل سبحانه بحفظه عندما قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
فأقبلوا أيها المسلمون على كتاب الله العظيم فاتلوه واحفظوه, واعملوا به ليضيء لكم طريقكم, ويحفظكم الله بحفظه، فالقرآن الكريم هو الضمانة الكبرى لوحدة المسلمين وقوتهم، واجتـماع كلمتهم وشملهم، وصلاح أمورهم وأحوالهم، وسعادتهم في معاشهم ومعادهم، وكانت السنة النبوية والسيرة النبـوية الطاهـرة ضمانة أخرى لحفظ هذا الدين وبقائه، وخلـود رسالته وأمتـه، مصداقا لقـول نبينا صلى الله عليه وسلـم: (تركت فيكم أمرين لن تضلـوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنـة رسوله)
وقولـه: (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ)
قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33].
3- معاول هدم الأمة
واجبنا أن نتجنب معاول الهدم والتحلل في الأمة, التي أضعفت أمة الإسلام, ومن أخطرها:
الخلافات بأنواعها: فهي سوس الأمم ومحطمة الشعوب والدول {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
الانغماس في ألوان الترف والنعيم، والإقبال على المتعة والشهوات: فإن الله تعالى يقول: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].
ضعف الأخلاق, وفقدان المثل العليا, وإيثار المصلحة الخاصة على المصلحة العامة: ولا علاج لنا إلا بتقويم هذه الأخلاق {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9- 10].
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ولتعلم أمتي: أن الحياة الحقيقية ليست في متع الحياة الدنيا وزينتها, ولكنها حياة العلم والإيمان, حياة الأخلاق والفضائل, حياة الإرادة والهمة, حياة الفرح والسرور بفضل الله ورحمته, ثم في الآخرة هي حياة الروح والريحان وجنة النعيم والرضوان، وليكن لكل واحد فينا دور في بناء هذه الأمة, ولبنة صالحة في صرحها العظيم, وتذكروا أن الله تعالى نجى أمة من النمل بهمة نملة صغيرة {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18].
وبهمة هدهد تحولت أمة من عبودية الشمس إلى عبودية الواحد القهار, كما جاء الخبر على التفصيل في سورة النمل.
أيها المسلمون: لا تيأسوا فليس اليأس من أخلاق المسلمين, وحقائق اليوم أحلام الأمس, وأحلام اليوم حقائق الغد, وإن القرآن الكريم يحرِّم اليأس والقنوط ويعتبر ذلك كفرًا مرة وضلالاً مرة أخرى, {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
{قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56].
ولا زالت عناصر السلامة قوية عظيمة في نفوس شعبنا المؤمن, برغم ما نرى من مظاهر الضعف والفرقة, لكنها أزمات تنتهي وتزول بأمر الله قريبا.
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5, 6].
فتمسكوا بإسلامكم, ففيه عزتكم وقوتكم.
يقول ابن تيمية رحمه الله: "أعظم الكرامة لزوم الاستقامة، وتحابوا فيما بينكم, واحرصوا على رابطتكم, فهي سر قوتكم وفلاحكم، واعتزوا بانتسابكم لأمة حبيبكم محمد صلى الله عليه وسلم وثقوا في وعد الله ونصره" {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 4].
4- أمتنا لا تعرف اليأس
نحن في هذه الأيام في مسيس الحاجة إلى أن نعيش الحياة وكلنا أملٌ في الله عز وجل؛ حتى نوفَّق للعمل من أجل مرضاة الله تعالى
لَقدْ جعلَ اللهُ - تعالَى- الحياةَ الدنيا كثيرةَ التقلُّبِ لا تستقيمُ لأَحدٍ علَى حالٍ ولا تَصْفُو لمخلوقٍ مِنَ الكَدَرِ، فَفِيها خيرٌ وشرٌّ، وصلاحٌ وفسادٌ، وسُرورٌ وحُزْنٌ، وأملٌ ويأْسٌ، ويأتِي الأملُ والتفاؤلُ كشُعاعَيْنِ يُضِيئانِ دياجِيرَ الظلامِ، ويشقَّانِ دُروبَ الحياةِ للأنامِ، ويَبْعَثان في النَّفْسِ البشريَّةِ الجِدَّ والمثُابَرةَ، ويلقِّنانِها الجَلَدَ والمصُابَرَةَ، فإنَّ الذي يُغْرِي التاجرَ بالأسفارِ والمخاطرةِ: أَمَلُهُ في الأرباحِ، والذي يَبْعثُ الطالبَ إلى الجدِّ والمثُابرةِ: أملُهُ في النجاحِ، والذي يحفِّزُ الجنديَّ إلى الاستبسالِ في أرضِ المعركةِ أملُهُ في النصرِ، والذي يُحبِّبُ إلى المريضِ الدواءَ المُرَّ، أملُهُ في الشِّفاءِ والطُّهْرِ، والذي يدعو المؤمنَ أنْ يُخالِفَ هَواهُ ويُطيعَ مَوْلاهُ، أملُه في الفوزِ بجنَّتِهِ ورِضاهُ، فهوَ يُلاقِي شدائِدَها بقلبٍ مُطْمَئِنٍ، ووجْهٍ مُسْتبشرٍ، وثَغْرٍ باسمٍ، وأمَلٍ عَريضٍ، فإذا حارَبَ كانَ واثِقًا بالنصرِ، وإذا أعْسَرَ لم يَنقطِعْ أملُهُ في تبدُّلِ العُسْرِ إلى يُسْرٍ، وإذا اقترفَ ذنبًا لم يَيْئَسْ مِنْ رحمةِ اللهِ ومغفرَتِهِ تَعلُّقًا وأملًا بقولِ اللهِ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
فالأمل إذن هو إكسير الحياة، ودافع نشاطها، ومُخفف وَيْلاتها، وباعث البهجة والسرور فيها.
http://shamkhotaba.org