يا عباد الله اثبتوا
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 29 مارس 2017 م
عدد الزيارات : 4242
مقدمة:
سُئل الإمام الشّافعيّ رحمه الله: أيُمَكَّن للمرء أو يُبتلى قبل، فأجاب: "لا يُمكَّن له حتّى يُبتلى".
1- الثّبات سمة أهل الإيمان
قد يفتُر المسلم نتيجة ما يمرّ به من ظروفٍ صعبةٍ، وفتنٍ متلاطمةٍ، لكن ليس من هدي نبيّنا عليه الصلاة والسلام وسلفنا الصّالح الانتكاس والانهزام من الدّاخل مهما تغيّرت الأحوال، وتبدّلت وتقلّبت الظّروف.
فالثّبات هو دواء الفتن وعلاجها، وإلّا سقط أحدنا في بنيّات الطّريق، وسنّة الله عز وجل ماضيةٌ، فعلينا بالثبات وعدم الانهزام النّفسيّ من الدّاخل لأدنى شيءٍ، فإذا لم يثبُت من يحمل العقيدة الصّافية والمبادئ السّامية فمن يثبت إذن؟!
والمتأمّل لسيرة عظمائنا وقادتنا وعلمائنا من السّلف الصالح، يجد بأنّهم ثلّةٌ قليلةٌ من الصّادقين فتح الله بهم الدّنيا لأنّهم ثبتوا.
وفي وصيّة جامعةٍ في هذا الباب ما يرويه مولىً لابن مسعود، قال: دخل أبو مسعود على حذيفة، فقال: اعهد إليّ، فقال له: "ألم يأتك اليقين؟"، قال: بلى، وعزّة ربّي، قال: "فاعلم أنّ الضّلالة حقّ الضّلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وأن تنكر ما كنت تعرف، وإيّاك والتّلوّن، فإنّ دين الله واحدٌ" السّنن الكبرى للبيهقيّ، 19896.
فمهما يتعرّض المرء لتقلّباتٍ وتغييرات طارئةٍ من شأنها التّأثير سلباً على دينه أو استقامته أو ثباته، يُفترض ألّا يُراوغ ويتلوّن ولا يبيع دينه بعرَضٍ من الدّنيا قليلٍ، كما بيّن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ليغشيّن أمّتي من بعدي فتنٌ كقطع الليل المظلم، يصبح الرّجل فيها مؤمنا ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع أقوامٌ دينهم بعرَضٍ من الدنيا قليلٍ) المستدرَك على الصّحيحين، 8354.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول -كما روى أنس-: (يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك)، فقلتُ: يا رسول الله، آمنّا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: (نعم، إنّ القلوب بين أصبعين من أصابع الله، يقلّبها كيف يشاء) سنن التّرمذيّ، 2140.
2- مواطن الثّبات
إنّ المؤمن ثابتٌ أمام المحن والتّقلّبات، ويظهر ثباته في المواطن التّي يبرز فيها حال المؤمن من المنافق..
أوّلاً: الثّبات في الفتن:
التّقلبات الّتي تُصيب القلوب سببها الفتن، فإذا تعرّض القلب لفِتَن السّرّاء والضّرّاء فلا يثبت إلّا أصحاب البصيرة الّذين عمّر الإيمان قلوبهم.
ومن أنواع الفتن:
فتنة المال: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التّوبة: ٧٥ – ٧٦].
فتنة الجاه: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: ٢٨].
وعن خطورة الفتنتين السّابقتين قال صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنمٍ أفسَدَ لها من حرص المرء على المال، والشّرف لدينه) مسند الإمام أحمد، 15784.
فتنة الزّوجة والأولاد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التّغابن: ١٤].
فتنة الاضطهاد والطّغيان والظّلم: ويمثّلها أروع تمثيلٍ قول الله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: ٤–٨]. 
عن خبّاب بن الأرتّ، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسّدٌ بردةً له في ظلّ الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: (كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض، فيُجعل فيه، فيُجاء بالمنشار فيُوضع على رأسه فيُشقّ باثنتين، وما يصدّه ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظمٍ أو عصبٍ، وما يصدّه ذلك عن دينه، والله ليتمنّ هذا الأمر، حتّى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلّا الله، أو الذّئب على غنمه، ولكنّكم تستعجلون) صحيح البخاريّ، 3612.
فتنة الدّجّال: وهي أعظم فتن المحيا، عن أبي أمامة الباهليّ، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أكثر خطبته حديثاً حدّثناه عن الدّجال، وحذّرناه، فمن قوله أنْ قال: (إنّه لم تكن فتنةٌ في الأرض منذ ذرأ الله ذرّيّة آدم، أعظم من فتنة الدّجّال، وإنّ الله لم يبعث نبيّاً إلّا حذّر أمّته الدجال... يا عباد الله أيّها النّاس، فاثبتوا، فإنّي سأصفه لكم صفةً لم يصفها إيّاه نبيٌّ قبلي) سنن ابن ماجه، 4077.
وعن مراحل ثبات القلوب وزيغها أمام الفتن يقول النّبيّ عليه الصلاة والسلام: (تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عُوداً عُوداً، فأيّ قلبٍ أُشربها، نُكِتَ فيه نُكتة سوداء، وأيّ قلبٍ أنكرها، نُكت فيه نكتةٌ بيضاء، حتّى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصّفا فلا تضرّه فتنةٌ ما دامت السّماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز، مجخيّاً لا يعرف معروفاً، ولا يُنكر منكراً، إلّا ما أُشرب من هواه) صحيح مسلم، 231
ثانياً: الثّبات في الجهاد:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: ٤٥]. 
ومن الكبائر في ديننا الفرار من الزّحف، عن البراء رضي الله عنه، قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم ينقل التّراب يوم الخندق، حتى أَغْمر بطنه، أو اغبرّ بطنه، يقول: (والله لولا الله ما اهتدينا، ولا تصدّقنا ولا صلّينا، فأنزلن سكينةً علينا، وثبّت الأقدام إن لاقينا، إنّ الأُلى قد بغوا علينا، إذا أرادوا فتنةً أبينا) ورفع بها صوته: (أبينا أبينا) صحيح البخاريّ، 4101.
ثالثاً: الثّبات على المنهج:
{مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: ٢٣]، مبادئهم أغلى من أرواحهم، وإصرارٌ لا يعرف التّنازل.
3- نماذج في الثّبات
ثبات النّبيّ صلى الله عليه وسلم في دعوته:
قام صلى الله عليه وسلم بأمره لوحده، والوحدة بحدّ ذاتها أمرٌ موحشٌ، ومضعفةٌ للهمم، لكنّه سار في الطّريق وكأنّه معه جيشٌ عرمرم، وقد أوصاه الله عز وجل فقال: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} [النّساء: ٨٤].
وسيرته صلى الله عليه وسلم وجهاده وصبره أكبر شاهدٍ على العزيمة والاستقامة والمواصلة والثّبات، عن جابرٍ رضي الله عنه قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد يعرض نفسه بالموقف، فقال: (ألا رجلٌ يحملني إلى قومه؟ فإنّ قريشاً قد منعوني أن أبلّغ كلام ربّي) سنن التّرمذيّ، 2925.
وممّا كان يدعو به صلوات الله وسلامه عليه: (اللهمّ إنّي أعوذ بك من العَجز والكسل) صحيح البخاريّ، 2823.
فضدّ العجز هو الثّبات، والعجز: هو الضّعف والهوان والخور والاستسلام والخنوع...
أبو بكر الصّدّيق وجيش أسامة رضي الله عنهم:
بعد وفاة النّبيّ عليه صلى الله عليه وسلم ومبايعة المسلمين للخليفة الأوّل أبي بكرٍ الصّدّيق رضي الله عنه، بدأت محنةٌ جديدةٌ وامتحان صعبٌ، إذ ظهر مدّعي النّبوّة، وارتدّ من ارتدّ من جزيرة العرب، وظهر مانعو الزّكاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم  قد جهّز جيشاً بقيادة أسامة لغزو الرّوم، حيث اقترح بعض الصّحابة بأن يبقى الجيش في المدينة لخوفهم من القضاء عليه وبالتّالي تُستباح المدينة، إلّا أنّ أبا بكرٍ الصديق رضي الله عنه خالف ذلك، وأمر بإمضاء بعث أسامة، وقال: "لو خطفتني الكلاب والذئاب لأنفذته كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أردّ قضاءً قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبقَ في القرى غيري لأنفذته" الكامل في التّاريخ.
ولمّا وجّه أبو بكرٍ الأمر لأسامة: "انفذ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: كيف ترسل هذا الجيش والعرب قد اضطربت عليك؟! فقال: لو لعبت الكلاب بخلاخيل نساء المدينة، ما رددتُ جيشاً أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم" العواصم من القواصم.
فكان لهذا الموقف الرّاسخ الثّابت الأثر الطّيّب والفتوحات بعد ذلك.
ثبات المسلمين في عين جالوت:
ولنتعرف بدايةً على الحال الّذي وصل إليه المسلمون من الضّعف والذّل والهوان في ذلك الوقت، وحسبنا في معرفة تلك الحال ما يذكره المؤرّخ ابن الأثير -رحمه الله- وهو يقدّم لقصة التّتار في بلاد المسلمين، قال: -رحمه الله-: "لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهاً لذِكرها، فأنا أقدم إليها رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مِتُّ قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا".
بعد اجتياح بلدان المسلمين الواحدة تلو الأخرى، قام هولاكو بإسقاط بغداد سنة 656هـ واستباحتها لجيشه أربعين يوماً يفعلون في أهلها ما يشاءون، وقُتل من أهلها ما يقارب مليون نسمة من الرّجال والنّساء والشّيوخ والأطفال، وكانت مذبحةً رهيبةً لم يُسمع بمثلها في التّاريخ، ثمّ تحرّك الجيش التّتريّ إلى الشّام، وحاصر مدينة (ميافارقين) الّتي يحكمها الكامل الأيّوبيّ، قاومت المدينة مقاومةً عنيفةً، وبعد نفاذ المؤن وموت معظم السّكّان جوعاً، استسلم من بقي من أهلها، فدخلها التّتار وارتكبوا فيها مجازر تقشعّر منها الجلود، وقبضوا على الكامل الأيّوبيّ وقطّعوا جلده وأعطوه له ليأكله إلى أن مات.
ثمّ استمرّوا يعيثون في الأرض فساداً، فاحتلّوا حلب وقتلوا من أهلها خمسين ألفاً، ثمّ انتقلوا إلى دمشق وأعطوا أهلها الأمان، ثمّ غدروا بهم وخرّبوا المدينة، ثمّ اتّجهوا إلى فلسطين واستولوا على بيت المقدس، ووصلوا إلى غزّة المتاخمة للحدود المصريّة، وأرسل هولاكو رُسُله إلى قطز حاكم مصر، يحملون لأهل مصر رسالةً طويلةً، فيها من التّهديد والوعيد والأمر بالاستسلام.
تقول رسالة التّتار إلى قطز وأهل مصر: "إنّا نحن جند الله في أرضه، خُلقنا من سخطه، وسلّطنا على مَن حَلَّ به غضبه، فلكم بجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتّعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم، قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن شكى، وقد سمعتم أنّنا قد فتحنا البلاد، وطهّرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد.
فعليكم بالهرب، وعلينا الطلب، فأيّ أرض تؤويكم، وأيّ طريق تنجيكم، وأيّ بلاد تحميكم؟! فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرّمال، فالحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع، فمن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم، فإن أنتم لشرطنا وأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم، فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذّر من أنذر".
فلمّا سمع قطز ما في هذا الكتاب جمع الأمراء والعلماء، واتّفقوا على قتل رُسُل هولاكو، فقبض عليهم وأمر بإعدامهم فأُعدموا وعُلقت رؤوسهم على أحد أبواب مصر، وإنّما فعل قطز هذا لكي لا يترك لأحدٍ فرصةً غير الحرب، وكان قراره نهائيّاً لا رجعة عنه.
وتواترت المعلومات الموثوق بها عن زحف التتار باتّجاه مصر، وهي آخر ما بقي من حواضر الإسلام الكبرى بعد اجتياح التّتار لمعظم بلاد المسلمين، فعقد قطز اجتماعاً مع وجهاء الدّولة وعلمائها، وكان الرّأي أن يتوجّهوا لقتال التّتار في الشّام وأنّ من الخطأ انتظارهم حتّى يصلوا مصر، لكنّ الأمراء والقوّاد المترفين امتنعوا‏ وتردّدوا من الفكرة، فما كان من قطز أمام هذا التّخاذل إلّا أن ألقى كلمته المأثورة مخاطباً إياهم قائلاً: "يا أمراء المسلمين، لكم زمانٌ تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزو كارهون، وأنا متوجّهٌ، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإنّ الله مطّلعٌ عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخّرين".
ثمّ أصدر أوامره إلى قائد الجيش أن يعدّ العدّة للغزو، فانشغل النّاس بالاستعداد للجهاد، وخرج قطز في الجحافل المصريّة في رمضان من سنة 658هـ، يتقدّمهم العلماء والشّيوخ، ثم انضمّت إليهم العساكر الشّاميّة، أمّا المغول فإنّ من تدبير الله أنّ هولاكو قد اضطر للعودة إلى فارس بعد وفاة ملك المغول، فسلّم أمر الشّام للقائد التّتريّ (كتبغا) الّذي كان مقيماً في سهل البقاع اللبناني، بينما قوّات الحماية المغوليّة تتوزّع في عددٍ من المدن المحتلّة ومنها غزّة.
وصل قطز إلى غزّة، والقلوب وجلةٌ، والنّاس تترقّب، فسارع إلى مهاجمة قوّات التّتار الموجودة، واستعاد غزّة منهم، فارتفعت همم المسلمين، ورأوا لأوّل مرة التّتار يفرّون من أمامهم، ووصلت فلولهم إلى (كتبغا) تخبره بالهزيمة، فغضب غضباً شديداً وقرّر التّوجه للقضاء على هؤلاء المسلمين.
وبعد يومٍ واحدٍ رحل قطز من غزّة باتجاه الشّمال سالكاً طريق السّاحل، وكان لا بدّ أن يمرّ بمدن تقع تحت الاحتلال الصّليبيّ، لذا أرسل يبيّن لهم أنّه يقصد المغول، ويهدّدهم إن تعرّضوا لأحدٍ من عساكره أن يبدأ بهم.
رأى قطز أنّ أنسب مكانٍ لخوض المعركة هو سهل عين جالوت -وهو سهلٌ تحيط به التّلال من كلّ جانبٍ- وبينما قطز في عين جالوت ينتظر العدوّ إذا بأعدادٍ غفيرةٍ من المتطوّعين الفلسطينيين يخرجون من القرى والمدن؛ ليلتحقوا بالجيش المسلم.
لقد كان النّاس يتشوّقون للجهاد في سبيل الله ولا ينقصهم إلّا القائد المخلص، وقد عثروا عليه أخيراً، وإلى جانب أولئك المتطوّعين اجتمع الكثير من الفلّاحين، واجتمع كذلك النّساء والصبيان، واصطفّوا بأعدادٍ غفيرةٍ على طرفي سهل عين جالوت، وقد علت أصواتهم بالتّكبير، وارتفعت صيحاتهم بالتّشجيع لجيش المسلمين الّذي يرون فيه أملاً لإنقاذ الأمّة من هذا البلاء العظيم، وتحرّكت ألسنتهم وقلوبهم بالابتهال لربّ العالمين أن ينصر عباده الموحّدين ويُذلّ أعداء الدّين.
وقبل المعركة اجتمع قطز بالأمراء وحثّهم على قتال التّتار، وذكّرهم بما وقع في بغداد والمدن الشّامية من القتل والسّبي وانتهاك الحرمات وتخريب الدّيار، وحضهم على إنقاذ الشّام ونصرة الإسلام، فضجّوا بالبكاء وتحالفوا على الصّدق عند اللقاء.
ثمّ قام قطز بتقسيم جيشه إلى قسمين:
القسم الأوّل: المقدّمة، ويبدأ المعركة ويحاول جرّ المغول إلى وسط السّهل.
والقسم الثّاني: -وهو الأكبر- يختبئ خلف التّلال وينتظر الإشارة ليُطبِق على العدوّ.
وفي هذه الأثناء وصل الجيش المغوليّ إلى عين جالوت فتفاجأ بالجيش الإسلاميّ، ونظر كتبغا إلى المقدّمة القليلة، فأراد أن يحسم المعركة من أوّلها، وأن يدخل بجيشه كلّه ليسحق هذا الجيش الّذي تحدّى قوّة التّتار، وهذا تماماً ما كان يريده قطز.
وصرخ كتبغا بقوّاته آمراً بالهجوم، فانهمرت الجموع المغوليّة الضخمة وهي تصيح صيحاتها المفزِعة، وانقضّوا على مقدّمة جيش المسلمين تطبيقاً لحرب الصّاعقة والهجوم العنيف السّريع الّذي تمرّسوا عليه.
أمّا مقدّمة جيش المسلمين فقد وقفت في رباطة جأش عجيبةٍ، وقد ألقى الله عز وجل على المسلمين سكينةً واطمئناناً، وكأنّهم لا يرون جحافل المغول المتدفّقة، حتّى إذا ما اقتربوا إليهم أُعطيت إشارة البدء، فانطلق المجاهدون تجاه المغول، وارتطم الجيشان ارتطاماً مروعاً، وارتفعت سحب الغبار، وتعالت الصّيحات المغوليّة، وعلت صيحات التّكبير من الفلّاحين الواقفين على جنبات السّهل، وامتزجت قوّات المسلمين بقوّات التّتار، وسرعان ما تناثرت الأشلاء وانهمرت الدّماء، وعلا صليل السّيوف على أصوات الجنود، واحتدمت المعركة في لحظاتٍ، ورأى الجميع من الهَول ما لم يروه من قبل.
ثبت المسلمون ثباتاً رائعاً، ممّا دفع كتبغا إلى استخدام كلّ طاقته، بينما قطز -رحمه الله- يرقب الموقف من وراء التّلال، ويصبّر نفسه وجنده عن النّزول لساحة المعركة؛ حتى يُستنزف أكبر قدرٍ ممكنٍ من قوّات العدوّ، وتأتي اللحظة المناسبة وحان تنفيذ الجزء الثّاني من الخطة، فأظهر المسلمون الانهزام لكي يسحبوا جيش التّتار إلى داخل السّهل، وبدأ المسلمون بالتّراجع مع الاستمرار في القتال، وتحمّس كتبغا وجيشه وبدأوا بالتّقدّم والضّغط على المسلمين، وفي النّهاية دخل جيش التّتار كاملاً إلى داخل السّهل.
وجاءت إشارة البدء من قطز، وخرجت الكتائب الإسلاميّة العظيمة من خلف التّلال، وأحاط المجاهدون بالمغول من كلّ جانبٍ، وأسرعت فرقةٌ قويّةٌ لغلق المدخل الّذي دخل منه العدوّ.
لقد نجحت خطّة المسلمين خلال وقتٍ وجيزٍ، وأحاطوا بالمغول إحاطة السّوار بالمعصم، ذُهل كتبغا وجنده، واكتشفوا الخدعة بعد فوات الأوان، وحُوصر الجيش التّتريّ داخل سهل عين جالوت، وبدأ الصّراع المرير في واحدةٍ من أشدّ المعارك الّتي وقعت في التّاريخ، ولم يعد هناك مجالٌ للهرب أو المناورات، فإمّا نصرٌ أو موتٌ.
أيقن المغول بالهلاك فأخرجوا كلّ إمكانيّاتهم، وقاتلوا ببسالةٍ وشراسةٍ؛ لأنّهم يعلمون أنّها معركة موتٍ، لذلك حملوا بكلّ قوّتهم، وبدأ جيش المسلمين بالتخلخل والتّراجع، وكان قطز -رحمه الله- يقف مع قوّاتٍ احتياطيّةٍ في مكانٍ عالٍ خلف الصّفوف يراقب ويوجّه، فلمّا رأى الضّغط التّتريّ الرّهيب، وتأزّم الموقف جدّاً، فلم يجد قطز إلّا حلاًّ واحداً لا بديل عنه؛ لا بدّ أن ينزل بنفسه إلى ساحة القتال، عندها ألقى خوذته على الأرض تعبيراً عن اشتياقه للشّهادة، وأطلق صيحته الشّهيرة: "وا إسلاماه وا إسلاماه".
ألقى قطز بنفسه في المعركة وحمل ومن معه حملةً صادقةً، وفُوجئ الجنود بوجود القائد بينهم، عندها التهب حماس المجاهدين، وهانت عليهم جيوش المغول، وحملوا أرواحهم على أكفّهم، وقاتل قطز -رحمه الله- قتالاً عجيباً، وبدأت الكفّة -بفضل الله- تميل من جديدٍ لصالح المسلمين، واستعاد الجيش زمام المبادرة، واستأنف المسلمون الهجوم المضادّ بقوات (القلب)، وتولّى قطز قيادتها بنفسه، وكانت قوّات (القلب) مؤلّفةً من المتطوّعين المجاهدين الاستشهاديين؛ من الّذين خرجوا يطلبون الشّهادة، ويدافعون عن الإسلام بإيمانٍ، وارتدّ الضّغط على جيش التّتار، وأطبق المسلمون الدائرة عليهم.
تقدّم أحد أمراء المماليك وسط المعركة واخترق الصّفوف التّتريّة في حملةٍ موفّقةٍ؛ حتّى وصل إلى كتبغا وتمكّن من قتله، وقُتل كذلك عددٌ من قوّاده، وبسقوط القائد سقطت عزيمة الجنود، وتغيّر وجه المعركة، وأصبح لا همّ للمغول إلّا النّجاة بأنفسهم، فركّزوا جهدهم حتّى فتحوا ثغرةً للهرب، فانطلقوا يولّون الأدبار، وانطلق المسلمون خلفهم فريقاً يقتلون، ويأسرون فريقاً، حتّى وصلوا إلى بيسان على بُعد 20 كم من عين جالوت.
لم يصدّق المغول المفجوعون أنّ قوةً على وجه الأرض تستطيع الوقوف أمامهم، وربّما ظنّوا أنّ الهزيمة إنّما كانت مصادفةً أو نتيجة خطأٍ ما، لذا سارعوا بتجميع قوّاتهم من جديد، واصطفّ جنودهم الحانقون ولا همّ لهم إلّا الانتقام من المسلمين، ووصل قطز ببقية قوّاته إلى بيسان، ودارت رحى معركةٍ ضروسٍ.
قاتل التّتار قتالاً عجيباً، وزُلزل المسلمون زلزالاً شديداً، أخذ قطز يحفّز جنده ويحثّهم على الثّبات، ثمّ صرخ صرخةً عظيمة واقتحم وهو يردّد: "وا إسلاماه"، وصبر المسلمون وقاتلوا قتالاً شديداً، ثمّ أتى نصر الله وفتحه، وهُزم من بقي من التّتار، وأخذ جند الله يفتكون بأعدائه، وبدأ جنود المغول الّذين روّعوا الأرض يتساقطون كالذّباب، وقضى المسلمون على أسطورة الجيش الّذي لا يُقهر، قضوا عليه تماماً، وصدق الله العظيم: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: ٥١]. 
عندها نزل البطل المجاهد التّقيّ عن فرسه، ومرّغ وجهه في الأرض في سجدةِ شكرٍ طويلةٍ.
{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: ١٦٠].
إنّ في هذه المعركة عبراً وعظاتٍ كثيرةً، منها:
إنّ العبرة في الجيوش ليست بالكمّ لكن بالكيف، وفي مدى التّربية الإيمانيّة لهذا الجيش، وإقباله على الله تعالى، واستعداده للتّضحية والفداء، وحين كانت المعارك الّتي يخوضوها المسلمون من أجل مصالح دنيويّةٍ أو راياتٍ مناطقيّةٍ أو قبليّةٍ؛ أذلّهم الله تعالى وسلّط عليهم بعض خلقه، لعلّهم إليه يرجعون وبدينهم يعتزّون، فكان لهم ذلك في معركة عين جالوت، حين أخلص النّاس قتالهم لإعلاء كلمة الله، والدّفاع عن حِمى الإسلام والمسلمين.
إنّ هذه الأمّة تضعف وتصاب بالوهن، لكن لا يمكن أن تُستأصل، فقد جاء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: (إنّ الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنّ أمّتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها، وأُعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإنّي سألت ربّي لأمّتي أن لا يُهلكها بسنةٍ عامّةٍ، وأن لا يسلّط عليهم عدوّاً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإنّ ربي قال: يا محمد إنّي إذا قضيت قضاءً فإنّه لا يُردّ، وإني أعطيتك لأمّتك أن لا أهلكهم بسنةٍ عامّةٍ، وأن لا أسلّط عليهم عدوّاً من سوى أنفسهم، يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها -أو قال مَن بين أقطارها- حتّى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً) صحيح مسلم، 2889.
ما أشبه اليوم بالبارحة؛ فقد كان المسلمون مشغولون إمّا بالرّكون إلى الدّنيا أو بقتال بعضهم بعضاً، والعدوّ يتربّص بهم من كلّ مكانٍ وهم في غفلتهم يعمهون، فإضافةً إلى حبّ الدّنيا وترك الجهاد في سبيل الله، كانت المنطقة بأسرها تموج بالاضطرابات والفتن، كان الحكّام والأمراء يتنافسون على السّلطة، واهتمام كلّ حاكمٍ بحدود مملكته وإن صَغُرَت، حتّى إنّ بعض الممالك الإسلاميّة لم تكن إلّا مدينةً واحدةً وما حولها من القرى، ولم يكتفِ الزّعماء المسلمون بالفرقة بل كانوا يتصارعون فيما بينهم، ويكيد بعضهم لبعضٍ، ولم يكن أحدهم يأمن جاره مطلقاً، ولم تكن فكرة الوحدة مطروحةً أصلاً لقتال العدوّ الأجنبيّ الغازي.
والأدهى من ذلك طلب بعض الحكّام النّصرة من الصّليبيين والتّتار ضدّ أعدائهم الآخرين من حكّام المسلمين، وصدق الله إذ يقول: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: ٤٦].
وختاماً:
فإنّ دين الله عز وجل ظاهرٌ ولو بعد حين: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: ٢١]. 
وإن تخاذل المتخاذلون وانهزم المنهزمون وتقّلب المتقلّبون، فإنّ الله سيأتي بأقوامٍ يحبّهم ويحبّونه أعزةٍ على الكافرين أذلّةٍ على المؤمنين {هَا أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ۖ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمّد: ٣٨].
 

http://shamkhotaba.org