مقدمة:
يا من ابتلاك الله بشدائد الأمور، اصبر واصطبر فنعم العبد الصبور، واعلم أن بعد العسر يسرا، وبعد الليل فجرا، وأن تفريج الشدة وعد، وأنك لست المنفرد بالبلاء.
دع المقادير تجري في أعنَّتِها ولا تبيتنَّ إلا خالي البال
ما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال
1- الابتلاء والشدة شريعة إلهية وسنة كونية
إن الشدة لا تزال تتعاقب على المؤمن على مر الأيام والدهور، ولكن فرج الله قريب من المؤمنين، وخير شاهد على ذلك ما جاء من الأخبار في القرآن والسنة..
فهذا خليل الله ابراهيم عليه أفضل الصلاة والتسليم بعد أن أحكمت الشدة قبضتها عليه، أمر الله النار أن تكون برداً وسلاماً عليه، وتتجلى حقائق الفرج بعد الضيق في قصة يعقوب وابنه يوسف الصديق، وقد كشف الله الأمراض والكروب عن عبده ونبيه أيوب، وهذا يونس الذي ابتلعه الحوت وصار يتململ في الظلمات نادى ربه فاجتباه وجعله من الصالحين، وما تكررت قصة موسى في جلِّ السُّوَرِ إلا لتجسِّدَ معاني اليسر بعد العسر.
ودونكم سيرة خير البشر وصحبه فما هي عنكم ببعيد، وكيف فرج الله عنهم الخطب الشديد، فبينما هم قليل مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس فآواهم وأيدهم بنصره، فتدثروا بالعزة والتمكين بأبهى لباس، وهل أتاكم نبأ الإفك والزور، الذي رُميت به المتدثرة بثوب العفة والطهور؟ فإذا فرج كربتها مسطَّرٌ في سورة النور.
فيا أهل الشدائد والكربات، استعينوا برب الأرض والسموات، فهو القريب المجيب، وإن بعد العسر يسرا، إن بعد العسر يسرا.
لك الحمد مهما استطال البلاء لك الحمد مهما استبد الألم
2- الفزع إلى الله عند نزول الكربات
لا شيء يفرج عن العبد كربه مثل الفزع إلى ربه، وكثرة اللجأ إليه، يقول ابن القيم رحمه الله: "التَّوْحِيد مفزع أعدائه وأوليائه فَأَما أعداؤه فينجيهم من كرب الدُّنْيَا وشدائدها {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هم يشركُونَ} وَأما أولياؤه فينجيهم بِهِ من كربات الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وشدائدها وَلذَلِك فزع إِلَيْهِ يُونُس فنجّاه الله من تِلْكَ الظُّلُمَات وفزع إِلَيْهِ أَتبَاع الرُّسُل فنجوا بِهِ مِمَّا عذب بِهِ الْمُشْركُونَ فِي الدُّنْيَا وَمَا أعد لَهُم فِي الْآخِرَة وَلما فزع إِلَيْهِ فِرْعَوْن عِنْد مُعَاينَة الْهَلَاك وَإِدْرَاك الْغَرق لَهُ لم يَنْفَعهُ لِأَن الْإِيمَان عِنْد المعاينة لَا يقبل هَذِه سنة الله فِي عباده فَمَا دفعت شَدَائِد الدُّنْيَا بِمثل التَّوْحِيد وَلذَلِك كَانَ دُعَاء الكرب بِالتَّوْحِيدِ ودعوة ذِي النُّون الَّتِي مَا دَعَا بهَا مكروب إِلَّا فرّج الله كربه بِالتَّوْحِيدِ فَلَا يلقى فِي الكرب الْعِظَام إِلَّا الشّرك وَلَا يُنجي مِنْهَا إِلَّا التَّوْحِيد فَهُوَ مفزع الخليقة وملجؤها وحصنها وغياثها وَبِاللَّهِ التوْفِيق"
ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ)
وهي دعوة جليلة تحتاج إلى قلب منخلع من حوله وطوله، معترف بعجزه بين يدي ربه، ساجدٍ له على عتبة الافتقار.
(وقد كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى)
يفر إلى ربه فاراً من عجزه وفقره، متضرعا أسيف القلب، موقناً، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: (لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ، وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ)
وهو ذكر أكثر منه دعاء، ولكنه كله ثناء على الله وتوحيد وتمجيد، فيجود الكريم بكرمه ويفيض على العبد من خزائنه.
فمن رام الفرج بعد الشدة فليعد له عدة من التوحيد والقرب من رب العزة، وإرجاع الأمور إليه، كما أرشدنا من بيده تفريج الكربات، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155-157].
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللهُ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، اللهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا)
3- الإسلام دين التكافل
من عظمة هذا الدين أنه أطلق الإنسان من حدود نفسه الضيقة إلى أفق التواصل مع إخوانه، وبذل الخير والنفع لهم حتى يصل إلى تلك الخيرية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
وسمة للمؤمن خاصة: (خير الناس أنفعهم للناس)
ولم يجعل الإسلام حياة الإنسان منفصلة عن غيره، بل جعلها موصولة بالناس صلة الخير والإحسان، كما قال الصادق المصدوق: (المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف، ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس)
فجعل للمؤمن صفة لا تفارقه ولا تتحول عنه وهو أنه يألف ويؤلف وهذا معنى شامل لكل معاني الحب والأمن والإحسان والنفع.
إن الحياة تتقلب بأهلها، حتى يصيب البعض منهم ما يصيبه من كرب وبلاء وهمّ، وفي تلك النكبات يحتاج المكروبون إلى من يعيشون بالخير ويحملونه للناس، أولئك هم أصحاب النفوس الكبيرة التي أضاءت بنور الشريعة، وتواصلت مع الناس خيرا ونفعا وحبا وإخاء، فكانوا حياة في الحياة، وامتد لهم ذكرهم بالخير في الملأ الأعلى وبالثناء على ألسنة الناس في حياتهم وبعد مماتهم..
أولئك الذين يحبون إزاحة الهموم عن القلوب، ويجدون من الفرحة والسعادة اللتي تصيب قلوبهم ما لا يعلمه إلا الله عندما يفرج الله عن مكروب كربه بسببهم، والله سبحانه شكور يجازي عبده المحسن، {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60].
4- فضل الطاعة المتعدية وتفريج الكربات
من المقرر في شرعنا الأغر أن ثواب الطاعة المتعدية أعظم قدراً من ثواب الطاعة القاصرة، فصلاة العبد وصيامه وذكره له، ولكنَّ خيره الذي يتعدى إلى إخوانه وسعيه في إعانتهم ودعوتهم ونصحهم وتعليمهم يكون أكبر أثراً وأعظم أجراً عند رب العالمين.
وهذا من عظمة هذا الدين المجيد الذي يخلِّص الإنسان من أنانيته ويجعله نبعاً للخير وظلاً يأوي إليه الآخرون من تعب الحياة ونصبها.
وقد مدح الله عز وجل الأنصار ورضي عنهم وذكر من نعوتهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
هذا هو الإيثار الذي ينفي الأثرة ويتغلب على شح النفس، ويسمو بالإنسان إلى أفق الإنسانية الحقة، التي علمناها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال فيما رواه الشيخان من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ)
والله إنه لأمر عظيم أن يختارك الله لقضاء حوائج عباده؛ ليقضي حاجتك:
وأكرم الناس ما بين الورى رجلٌ تقضى على يده للناس حاجاتُ
لا تقطعنَّ يد المعروف عن أحد ما دمت تقدر والأيام تاراتُ
واذكر فضيلة صنع الله إذ جعلت إليك لا لك عند الناس حاجاتُ
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وهذا الإخاء يعلو على الكلمات الباهتة التي لا تجد لها صدىً في أفعال الإنسان، وعلى الجُمَلِ المنمقة التي تموت في ميدان العمل.
5- نماذج يقتدى بها في فعل الخير
روي أن مسروقاً استدان ديناً ثقيلاً، وكان على أخيه خيثمة دين، فذهب مسروقٌ فقضى دين خيثمة وهو لا يعلم، وذهب خيثمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم! إنها صورة فريدة في مشهد السموّ الإيماني.
ولما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع آثره بالمال والنفس، فقال عبد الرحمن بارك الله لك فيهما، فيا لها من صورة فريدة في مشهد السموّ الإيماني.
ولا يقتصر السعي على صرف المال وبذل الشفاعة بالجاه بل يمتد مع هذا كله ليشمل إطفاء جمرة الحزن وإيناس الوحشة التي تغشى الإنسان في بعض أوقاته، قال صلى الله عليه وسلم: (لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ صِلَةَ الْحَبْلِ، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ شِسْعَ النَّعْلِ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تُنَحِّيَ الشَّيْءَ مِنْ طَرِيقِ النَّاسِ يُؤْذِيهِمْ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ، وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْطَلِقٌ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنْ تُؤْنِسَ الْوَحْشَانَ فِي الْأَرْضِ، وَإِنْ سَبَّكَ رَجُلٌ بِشَيْءٍ يَعْلَمُهُ فِيكَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ فِيهِ نَحْوَهُ، فَلَا تَسُبَّهُ فَيَكُونَ أَجْرُهُ لَكَ وَوِزْرُهُ عَلَيْهِ، وَمَا سَرَّ أُذُنَكَ أَنْ تَسْمَعَهُ فَاعْمَلْ بِهِ، وَمَا سَاءَ أُذُنَكَ أَنْ تَسْمَعَهُ فَاجْتَنِبْهُ)
إن تفريج الكروب والسعي في مصالح المسلمين أمان وضمان، يقول خير الخلق صلى الله عليه وسلم: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة)
ما أحوجنا اليوم ونحن نعيش تلك النكبات في بلدنا الحبيب أن نمسح دمعة اليتيم، وأن نؤوي الشريد والطريد، وأن نفك الأسير، وأن نعطي المحتاج ولو أن نبذل له الابتسامة، فـ (من استطاع منكم أن ينفع اخاه فليفعل)
(وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة)
http://shamkhotaba.org