مقدمة:
ليس المقصود من الصيام ترك الطعام والشراب، فحاشا لله أن يجوع عباده ويعطشهم، بل هناك حكم جليلة عرفها من عرفها وجهلها من جهلها، من تلك الحكم تزكية النفوس والسمو بها.
فرمضان مدرسة الثلاثين يوماً التي تضفي الخير على شهور السنة كلها.
1- الإنسان بروحه لا بجسده
إن الإنسان خلق من روح وجسد وعقل، ولكن مكانة الإنسان بالروح لا بالجسد؛ لأن هذا الجسد مآله إلى تراب وبلى، أما الروح فترتفع، والدليل على ذلك قول الله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 28 -29].
فالسجود لآدم كان بعد نفخ الروح فيه، وهذا الجسد عندما يموت يدفن في التراب، أما الروح فلها سلسلة من أعمال التشييع، فتوضع في كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، ثم لها مسيرة في العروج إلى السماء كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فتسجل في عليين إن كانت مؤمنة، ثم ترجع إلى ذلك الجسد
فانفصال الروح عن الجسد هو الموت، ولكن الذي يموت هو الجسد، أما الروح فخلقت للبقاء..
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
2- رمضان ميدان غذاء الأرواح
فانتبه يا عبد الله، واجعل أيام هذا الشهر التي وصفها ربي بقللها: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}، اجعلها أياما تغذي فيها روحك التي بين جنبيك، تلك الروح التي أهملنا غذاءها إحدى عشر شهرا، إحدى عشر شهراً ونحن في لهو وغفلة وبعد عن الله، نهتم ببناء الأجساد وتغذيتها وتنحيفها وراحتها ووسامتها وجمالها، ولكن كل ذاك ليس بشيء عند الله إذا أهملت الروح.
كيف كان هذا الميزان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كيف كان يوازن بين غذاء الروح وغذاء الجسد؟
لقد كان في ميدان لا يسابقه فيه أحد، فلقد كان يقوم حتى تتفطر قدماه، وكان يعتكف العشر الأخير يختلي بربه تبارك وتعالى، كان يذكر الله على كل أحيانه، وكان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان، كان يعتكف على القرآن فيتدارسه مع جبريل، وكان إذا دخل العشر الأخير شدَّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله..
هكذا كان يقبل رسول الله على تزكية روحه، اما الجسد فلا بأس بأن يهتم به المسلم فيزيد من قوته وفتوته، ولكن ليس على حساب الروح.
ولكم أن تعلموا أن رسول الله كان يمر عليه الهلال تلو الهلال تلو الهلال ولا يوقد في بيته نار، أي لا يطبخ طعاماً.
وكان يأتي أزواجه صباحاً ويسأل: هل عندكم طعام، فإن قالوا لا قال: إني إذن صائم، صلى الله عليه وسلم.
أما كثير من المسلمين اليوم ولا حول ولا قوة إلا بالله، يفكر كيف يضيع وقته في رمضان!!
يجلس أمام التلفاز الساعات الطوال ويقول لك أضيع الوقت منتظراً غروب الشمس!!
ينام أكثر من نصف النهار ويستيقظ قبيل الغروب، ويقول لك أمرر الوقت منتظراً الغروب!!
يسهر أكثر الليل مع الأصحاب والخلان لأنه سبع نام ملئ عينيه في النهار!!
يا الله كم من الأجور ضيَّع، وكم من الحسنات خسر؟
يشاهد المسلسلات ويتابع المباريات ويأنس بالسهرات ويضيع جبالا من الحسنات!!
هذا ليس ميدانه في رمضان أيها المسلمون، رمضان ميدان غذاء الأرواح والسمو بها.
بعض الصائمين يجعل من شهر رمضان موسماً سنوياً لم يعتده طوال العام في التوسع في المطاعم والمشارب والإسراف في ذلك، وهذا مناف لحكمة الصوم معاكس لقواعد الاقتصاد، والأولى بالمسلم في شهر الصوم الاقتصار على المعتاد من طعامه وشرابه، وأن ينفق الزائد في وجوه البر والإحسان التي تناسب رمضان، من اطعام اليتامى والمساكين، وتفطير الصائمين، ولو فعل الأغنياء ذلك لأضافوا إلى قربة الصوم قربة أخرى عظيمة عند الله، وهذا يعمل على تقريب القلوب بين المسلمين في هذا الشهر المبارك، ويشعر الصائمين بأنهم في شهر الأخوة والتكافل.
ولو أطلق الأنسان لنفسه العنان في تعاطي الشهوات وما يطيب من المطعومات والمشروبات وطاوع نفسه باستيفاء اللذة إلى أبعد حدّ، لكانت عاقبة أمره مرضاً ونقصاً في صحته، مع أن الحكمة تدعو صاحبها إلى استغلال شهر الصوم بالحمية عن الطعام ليريح معدته من العناء والتعب الذي يترتب على عملها طوال العام، قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].
3- علاقة الصوم بتصفيد الشياطين
يقول ابن تيمية رحمه الله: "وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) ولا ريب أن الدم يتولد من الطعام والشراب وإذا أكل أو شرب اتسعت مجاري الشياطين؛ ولهذا قال: (فضيقوا مجاريه بالجوع) وبعضهم يذكر هذا اللفظ مرفوعا. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين) فإن مجاري الشياطين الذي هو الدم ضاقت وإذا ضاقت انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات التي بها تفتح أبواب الجنة وإلى ترك المنكرات التي بها تفتح أبواب النار وصفدت الشياطين فضعفت قوتهم وعملهم بتصفيدهم فلم يستطيعوا أن يفعلوا في شهر رمضان ما كانوا يفعلونه في غيره ولم يقل إنهم قتلوا ولا ماتوا بل قال: (صفدت) والمصفد من الشياطين قد يؤذي لكن هذا أقل وأضعف مما يكون في غير رمضان فهو بحسب كمال الصوم ونقصه فمن كان صومه كاملا دفع الشيطان دفعا لا يدفعه دفع الصوم الناقص فهذه المناسبة ظاهرة في منع الصائم من الأكل والشرب"
ويقول ابن القيم رحمه الله: "وأما فضول الطعام فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي ويثقلها عن الطاعات وحسبك بهذين شرا فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام وكم من طاعة حال دونها فمن وقى شر بطنه فقد وقى شرا عظيما والشيطان أعظم ما يتحكم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام ولهذا جاء في بعض الآثار (ضيقوا مجاري الشيطان بالصوم) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن) ولو لم يكن في الامتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله ساعة واحدة جثم عليه الشيطان ووعده ومناه وشهاه وهام به في كل واد فإن النفس إذا شبعت تحركت وجالت وطافت على أبواب الشهوات وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت"
فيا الله أي معجزة أعظم من تلك المعجزة الإلهية، التي تقتضي أن يُحذف من تاريخ الإنسانية كلها تاريخ البطن ثلاثين يوماً في كل سنة، ليحل محله تاريخ النفس والروح.
4- آدابُ الصيام مغذيات الروح
حتى يتم للصائم الأجرُ، ولا يُخِلّ بصيامه ويَنقُص أجرُه، ينبغي أن يحرص على آدابه.
وآداب الصيام منها الواجب ومنها المستحب.
فمن الآداب الواجبة:
الإخلاص وابتغاء ما عند الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن صامَ رمضانَ إيماناً واحتساباً، غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ)
المحافظة على الفرائض وإقامة الصلوات في أوقاتها: قال الله تعالى في الحديث القدسي: (وما تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبدي بِشيءٍ أحبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عليه)
حفظ الجوارح عن الحرام: فيحفظ لسانه عن اللغو وقول الزور والغيبة والنميمة والكذب والشتم، والرفثِ: وهو الفاحش من الكلام، ويحفظ بصره عن النظر الحرام كمتابعة الشاشات والمسلسلات وغيرها، ويحفظ سمعه عن الحرام من غيبة أو نميمة أو معازف وغيرها، وفي الحديث: (مَن لَم يدَع قَولَ الزُّورِ والعمَلَ بِه والجَهلَ، فليسَ للَّهِ حاجَةٌ أن يدَعَ طعامَه وشرابَهُ)
حفظ البطن عن كل كسب خبيث حرام: كالربا وغيره.
حفظ النفس من الغضب والخصومة والمشاجرة والمراء والمشاتمة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصِّيامُ جُنَّةٌ، فإِذَا كان يومُ صِيامِ أَحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ، ولا يَصْخَبْ، فإنْ سابَهُ أحدٌ أوْ قاتَلهُ فَلْيَقُلْ: إِنِي صائِمٌ، إِنِي صائِمٌ)
ومن الآداب المستحبة:
تعجيل الفطر: (لا يَزالُ الناسُ بخيْرٍ ما عَجَّلوا الفِطْرَ)
الحرص على السحور وتأخيره: (تسَحَّروا فإن في السحور بركة)
الفطر والسحور على رطب أو تمر إن تيسر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُفْطِرُ على رُطَباتٍ قَبلَ أنْ يُصَلِّي، فإنْ لم تَكُنْ رُطَباتٍ فتَمْراتٌ، فإِنْ لَم تَكُنْ تَمْراتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ من ماءٍ وقال: (نِعْمَ سَحُورُ المؤمنِ التمرُ)
الدعاء أثناء الصوم وعند الفطر ووقت السحر: فجميعها مظنّة الإجابة.
الدعاء عند الإفطار بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (ذَهَبَ الظَّمأُ وابْتَلَّتِ العروُقُ وثَبتَ الأجْرُ إنْ شاءَ الله)
الجود بالخير: من إيْصالِ النَّفْعِ للناس بكَلِّ طريقٍ، وتعْليم جاهِلِهِم، وقضاءِ حوائِجِهم، وإطعام جائِعهم، كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أجودَ الناسِ بالخيرِ، وكان أجودَ ما يكونُ في رمضانَ.
الاجتهاد في العبادة: والاهتمام بمعالي الأمور وترك سفسافها التي تلهي عن ذكر الله والقرب منه.
حفظ الأوقات: من تضييعها في النوم أو أمام الشاشات وفي الأسواق والطرقات، فسوق الجنة معروضة وأبوابها مفتحة، وسلعة الله غالية.
عدم الإكثار من الطعام: حتى لا تكسل النفس عن العبادة وقيام الليل بالتراويح وقراءة القرآن.
تفطير الصائمين وإيثار الفقراء: قال صلى الله عليه وسلم: (من فطّر صائماً فله مثلُ أجرِه)
بشاشة الوجه وانشراح الصدر والبسمة في وجوه الناس: فهي لك صدقة.
اللهم وفقنا لطاعتك على الوجه الذي يرضيك عنا واجعلنا من المقبولين.
http://shamkhotaba.org