مقدمة:
نحن في مرحلة ما بعد رمضان، والحقيقة التي ينبغي أن تقال في هذه المناسبة أن كل مؤمن صام هذا الشهر الكريم، وقام ليله، وأحيا ليله، وقرأ القرآن الكريم، وغض بصره عن محارم الله، وتحرى لدخله الحلال، هذا السلوك الذي كان في رمضان قيمته الحقيقية أن يستمر معك إلى ما بعد رمضان، يستمر معك إلى ما بعد رمضان لتكون المكتسبات تراكمية، كلما قفزت في سلم الإيمان قفزة نوعية ينبغي أن تحافظ عليها، وتبني عليها قفزة أخرى، بهذا المنطق وهذا السلوك تنتفع من عباداتك، حيث تتراكم مكتسباتها إلى أن تصل إلى مرحلة متقدمة في الطريق لنيل رضا الله عزوجل.
1-عدم الاغترار بما حصل من الطاعات:
بعض الناس اجتهدوا فعلاً، صاموا وحفظوا جوارحهم وختموا القرآن- وبعضهم أكثر من مرة -وصلوا التراويح وصلوا قيام رمضان كله من أوله إلى آخره، وفعلوا ما فعلوا من الصدقات وقدموا ما قدموا وجلسوا في المساجد من بعد الفجر إلى ارتفاع الشمس وبعد الصلاة يقرؤون القرآن وقبل الصلاة ينتظرون الصلاة حصلت عبادات كثيرة ،لكن الشيطان يوسوس ويقول لقد فعلت أشياء كثيرة وطاعات عظيمة خرجت من رمضان بحسنات أمثال الجبال فرصيدك في غاية الارتفاع صحائف حسناتك مملوءة فلا عليك بعد ذلك ما عملت ويصاب بالغرور والعجب وتمتلئ نفسه فخراً، ولكن آية من كتاب الله تمحو ذلك كله وتوقفه عند حده وتبين له حقيقة الأمر وهي قول الله تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6].
أتمن على الله، أتظن أنك فعلت له هذه الأشياء؟
{وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} لا تمن على الله بعملك، لا تفخر لا تغتر ولا تصاب بالعجب {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}.
ولاتتخيلن أن أعمالك كثيرة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الحسن: (لَوْ أَنَّ رَجُلًا يَخِرُّ عَلَى وَجْهِهِ، مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إِلَى يَوْمِ يَمُوتُ، هَرَمًا فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ، لَحَقَّرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
لجاء يوم القيامة فرآه قليلا ضعيفا حقيرا لا يساوي شيئا فإنه لو قارنه بنعمة واحدة من النعم كنعمة البصر أو كغيرها لصار هذا قليلا لا يساوي شيئا لم يكد يعمل شيئا، ولذلك فإن الناس لا يدخلون الجنة بأعمالهم وإنما يدخلونها برحمة الله تعالى ليست الأعمال ثمناً للجنة لكنها سبب لدخول الجنة، فالذي لا يعمل صالحا لا يدخل الجنة فهي سبب لكنها ليست الثمن، فبدون رحمة الله الأعمال لا تؤهل لدخول الجنة بل ولا تسديد حق نعمة واحده من النعم. ونذكر أيضا بأن الاستمرار في العبادة والطاعة مع وجوبهما لا يعني أن يكلف الإنسان نفسه ما لا يطيق (خذوا من العبادة ما تطيقون فإن الله لا يسأم حتى تسأموا)
2- خذ من رمضان ما خف وزنه وثقل ثمنه:
يُخطئ البعض حين يظن أن من واجب المسلم أن تكونَ حياته كلُّها رمضان، وهذا أمر لا يستقيم؛ فالله عز وجل جعل لهذه النفس من الطبائع والصفات والحظوظ ما اللهُ به عليم..
فمن طبيعة النفس البشرية أنها تَمَلُّ وتَكِلُّ وتتثاقل، فتريد الفُسحة، وترغب بالتغيير، وتسأم من الرَّتابة، وتحب الراحةَ، وصفات من هذه كثيرة..
ولو تأملنا في حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم لوجدنا أن حالهم في رمضان مختلفٌ عن غير رمضان، وهو ما يستقيم مع الفطرة الإنسانية.
فالنبي عليه الصلاة والسلام كان أجودَ الناس لكن في رمضان يزداد جودُه وكرمه، ويحيي ليله كله في العشر الأواخر، وهذا ما لم يكن يفعله قبل ذلك..
كلُّ هذه العبادات ترشدنا أنه ليس المطلوب منك أيها المسلم أن تحوِّلَ العام كله إلى رمضان.
والسؤال المهم: ما هو المطلوب منك بعد رمضان؟
وإذا أردتَ معرفة الجواب، فإليك ما رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: أيُّ العمل أحب إلى الله؟ قال: (أدومُه وإن قلَّ)
وعنها في الصحيحين أيضًا قالت: "كان عملُه دِيمةً".
وعنها أيضًا كما عند مسلم قالت: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أَثبتَه".
لا يشترط أن نكون بعد رمضان كما كنا في رمضان فنحن نعلم أن ذلك موسم عظيم لا يأتي بعده مثله إلا رمضان الذي بعده لا يأتي شهر فيه خيرات ومغفرة ورحمة وعتق كما في هذا الشهر الذي انصرم.
فنحن لا نقول كونوا كما كنتم في رمضان من الاجتهاد فالنفس لا تطيق ذلك، لكن لا للانقطاع عن الأعمال؛ الخطورة في الانقطاع فلابد من أخذ الأمور بواقعية، ليس المطلوب أن نكون بعد رمضان كما كنا في رمضان، فقد كان ذلك شهر اجتهاد له ظرف ووضع خاص، لكن لا للانقطاع عن الأعمال، لا لترك الصيام بالكلية، لا لترك القيام بالكلية، لا لترك ختم القرآن بالكلية، لا لترك الدعاء والذكر والصدقة والعمرة، ولكن ينبغي الاستمرار على العمل ولو كان أقل مما كان في رمضان.
ثم إنه من الصحي والطبيعي أخي أن تكون في شهر رمضان خيراً منك بعده في عباداتك، على أن يكون حالك بعده خير من حالك قبله.
كثير من عبادات رمضان مرتبطة بنظام اليوم في رمضان، فمعظم الناس يتناولون السحور وبالتالي يكونون وقت أذان الفجر في كامل يقظتهم ونشاطهم وبالتالي لا شك أن صلاتهم الفجر في جماعة أسهل في رمضان منها بعده، ليس لأنهم عبيد رمضان بل لأنهم يتسحرون!
كذلك صلاة قيام الليل لأنها تكون في رمضان جماعة في المسجد وخلق كثير من الناس يؤديها، وحياة الناس في رمضان قائمة على أساس أن هنالك صلاة تراويح فلا شك أنها أسهل من صلاة القيام في الأيام العادية.
فلا تجزع أخي ولا تقصر في عبادتك في رمضان خشية قلتها بعده.
نصيحة مهمة في هذا الباب: لو أردت أن تكتسب عادة جديدة في رمضان فلا تربطها بنشاط سيتغير بعد رمضان.
مثلاً لو أردت أن تواظب على قراءة جزء من القرآن فقم بذلك بعد نشاط تؤديه في رمضان وبعد رمضان، ولا تقم به مثلاً في وقت ستكون فيه نائماً بعد رمضان.
وتأكد أخيراً أنك إن كنت عبداً لله ستزداد عبادتك في رمضان عما قبله وما بعده هكذا كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم والصالحين.
3- من الرابح في سباق رمضان؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)، وقال: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) وقال: (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه).
فمغفرة الذنوب بهذه الأسباب الثلاثة كل واحد منها مكفر لما سلف من الذنوب وهي صيام رمضان وقيامه وقيام ليلة القدر، فمتى تحصل المغفرة والتكفير؟
قيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً بمجرده يكفر الذنوب لمن وقعت له وأصابها سواء شعر بها أم لم يشعر أما صيام رمضان وقيامه فيتوقف التكفير بهما على تمام الشهر.
فإذا تم الشهر فقد كمل للمؤمن صيام رمضان وقيامه سواء كان رمضان ثلاثين يوماً أو أقل، فيترتب على ذلك مغفرة ما تقدم من ذنبه، ومن نقص من العمل الذي عليه نقص له من الأجر بحسب نقصه فلا يلومن إلا نفسه.
الصلاة مكيال والصيام مكيال فمن وفاها وفى الله له ومن طفف فيهما فويل للمطففين، أما يستحي من يستوفي مكيال شهواته ويطفف في مكيال صيامه وصلاته؟!
فإذا كان الويل لمن طفف في مكيال الدنيا {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 1-3].
فكيف حال من طفف في مكيال الدين؟ (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون: 4-5].
وهذا الويل لمن طفف فكيف حال من فرط بالكلية؟
كيف حال من لم يقم ولم يصم وهم أعداد ممن ينتسبون إلى الإسلام؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدركه رمضان فلم يغفر له فأبعده الله) وقالها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم ثم قال له قل آمين فقلت: (آمين: من أدركه رمضان فلم يغفر له فأبعده الله)
دعاء عليه بالإبعاد عن رحمة الله والطرد عنها؛ لأن ذلك الشهر قد مر ولم يستفد منه لأن ذلك الموسم العظيم قد حصل ولم ينهل منه ولم ينتهز الفرصة، فتباً له إذا كان لم ينتهز الفرصة العظيمة فهو مهمل لما هو أدنى منه من باب أولى.
فإذا فرط في رمضان فتفريطه في غير رمضان من باب أولى، فلذلك أبعده الله لأنه لا يستحق أجره ولا يستحق الرحمة ولا المغفرة.
ولا شك أيها المسلمون أنه حصل منا تطفيف في الصيام والقيام وأنه حصل منا إخلال في آداب الصوم الواجبة والمستحبة لقد حصل منها تفريط وهذا ما يدفعنا للوقفة الرابعة.
4- الاستغفار يرقع خرق الصيام:
قال الحسن رحمه الله: "أكثروا من الاستغفار فإنكم لا تدرون متى تنزل الرحمة".
أخي المسلم عود لسانك الاستغفار فإن لله ساعات لا يرد فيهن سائلا".
وقد جمع الله بين التوحيد والاستغفار في قوله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ..} [محمد: 19].
فعطف هذا على هذا مبينا أهمية.
والاستغفار ختام الأعمال الصالحة كلها، فتختم به الصلاة والحج وقيام الليل، وتختم به المجالس فإن كانت مجالس ذكر كان كالطابع عليها، وإن كانت مجالس لغو كانت كفارة لما حصل فيها كذلك ينبغي أن يختم صيام رمضان بالاستغفار.
كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار والصدقة صدقة الفطر فإن صدقة الفطر طهره للصائم من اللغو والرفث، والاستغفار يرقع ما حدث من الخروق في الصيام باللغو والرفث.
وقال بعض أهل العلم: "إن صدقة الفطر للصائم كسجدتي السهو".
وقال عمر بن عبد العزيز في كتباه: "قولوا كما قال أبوكم آدم {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وقولوا كما قال نوح عليه السلام {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وقولوا كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} وقولوا كما قال موسى عليه السلام {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} وقولوا كما قال ذو النون عليه السلام {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}".
صيامنا هذا يحتاج إلى استغفار نافع، وعمل صالح له شافع، كم تخرق من صيامنا بسهام الكلام ثم نرقعه وقد اتسع الخرق على الراقع، كم نرقع خروقه بمخيط الحسنات ثم نقطعه بحسام السيئات القاطع؟
كان بعض السلف إذا صلى صلاة استغفر من تقصيره فيها كما يستغفر المذنب من ذنبه، إذا كان هذا حال المحسنين في عباداتهم فكيف حال المسيئين؟
أنفع الاستغفار ما قارنته التوبة، والاستغفار حل عقدة الإصرار على الذنب، فمن استغفر بلسانه وقلبه مصرٌّ على المعصية فهذه توبة الكذابين.
ومن كان عزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد رمضان ويعود فهذا صدقه غير موجود، ويُخشى أن يكون صومه عليه مردود، يصوم ويقوم ويتابع على المعاصي كيف يكون ذلك؟
فالمهم أيها المسلمون أن نكثر من الاستغفار بعد هذا الشهر علَّ لله أن يتجاوز عن إسرافنا وتفريطنا وما حصل منا من المعاصي والسيئات في ذلك الشهر الذي تعظم فيه السيئة لفضله وشرفه.
http://shamkhotaba.org