مقدمة:
إنّ العاقل من يحفظ جانب الله تعالى – وإن غضب الخلق عليه – وليس من يحفظ جانب المخلوقين ويضيع حق الخالق عز وجلّ
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
إذا صح منك الودّ فالكلّ هيّن وكلّ الذي فوق التراب تراب
1- التماس رضا الله تعالى
إن كثيرا من شرائع الدين ومبادئه قد غيبت وشوهت من قبل أعداء الإسلام، وإن كثيرا من أبناء الإسلام اليوم يتخلى عن بعض العبادات والسنن التي جاء بها الشارع الحكيم، التماسا لرضا الناس عنهم، فهذا يقطع الصلاة، وآخر يترك زوجته متبرجة، وآخر يحلق لحيته، وغيره وغيره كثير، وكل ذلك من أجل إرضاء الناس عنهم، فأين هؤلاء من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَنِ الْتَمَسَ رضى اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ ، رَضِيَ الله عَنْهُ ، وَأَرْضَى النَّاسَ عَنْهُ ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ ، سَخَطَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَأَسْخَطَ عليه الناس)
فمن أهانه الله فلا معز له ومن أكرمه فلا مهين له: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِم} [الحج: 18].
أيها الأخوة:
تعالوا لنقضي بعضا من الوقت في الحديقة الزهراء والجنة الغناء، في رياض السنة المشرفة، نسير في ربوعها نستنشق عبير أزهارها ونقطف من ثمارها ونصلي ونسلم على صاحبها محمد صلى الله عليه وسلم.
أخرج الترمذي في الزهد عن رجل من أهل المدينة قال: كتب معاوية رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها أن اكتبي لي كتابا توصيني فيه ولا تكثري علي، فبعثت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية: سلام الله عليك أما بعد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس والسلام عليك).
وقوله عليه الصلاة والسلام: (من التمس رضا الناس) التمس يعني: طلب، وقوله عليه الصلاة والسلام (كفاه الله مؤونة الناس) المؤونة: التبعة، والمقصود كفاه الله تعالى شر الناس وأذاهم.
2- طريقان لا ثالث لهما
أيها الأخوة الكرام:
ها هو ذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي ما ترك خيرا إلا دلنا عليه، ولا شرا إلا حذرنا منه، ها هو ذا عليه الصلاة والسلام في كلمات بسيطة الأسلوب بليغة التركيب وجيزة المبنى عظيمة المعنى يعطينا في هذا الحديث الشريف مبدأً هاما في معاملة الناس ومعايشتهم، فذكر عليه الصلاة والسلام طريقين لا ثالث لهما.
الطريق الأول: طريق من التمس رضا الله تعالى ولو سخط عليه الناس، وهو طريق ينبع من توحيد العبد لربه عز وجل، إذ ليس للإنسان أن يتوجه إلا إلى الله، فلا يخاف إلا إياه، ولا يرجو سواه، ولا ينطلق في حياته إلا طلبا لرضاه في كل حركاته وسكناته في كل معاشراته ومعاملاته، فينفذ ما أمر الله تعالى به، لا يلتفت في ذلك لمدح مادح أو ذم ذام، ولا يضع في نفسه وهو يرضي الله عز وجل أدنى حساب لسخط أحد من الخلق أو رضاه مهما كلفه ذلك من مشاق.
والطريق الآخر: هو طريق من لم تخلص نفسه لله عز وجل، طريق ضعاف الإيمان ومن اهتزت عقيدتهم فهو يبحث عما يرضي الناس فيفعله، وعما يعرضه لسخطهم فيتركه، ولو كان ذلك على حساب دينه، ولو كان في ذلك ما يسخط ربه عز وجل، لأن المهم عنده ألا يخسر الناس وألا يكون في موضع نقمتهم وغضبهم.
إنها لقضية خطيرة حقا، ذلك أن الإنسان لابد له أن يتعامل مع الناس ويعيش بينهم، ويجب عليه في نفس الوقت أن يعيش بمنهج الإسلام موحدا لله عز وجل مطبقا لحدوده، ولكن كثيرا من الناس حوله ينحرفون ويفجرون ويظلمون ويتعدون حدود الله تعالى، ومن هنا كان على المسلم أن ينكر ذلك وأن يغيره ويحارب تلك المنكرات والمخالفات وأن يظهر دين الله عز وجل، عندئذ يطلب منه هؤلاء المنحرفون أن يسكت أو يوافقهم على انحرافهم، ويضغطون عليه بشتى الوسائل كما هو الواقع الذي نعيشه فالمسلم المتمسك بدينه اليوم يعيش في هذه المجتمعات المنحرفة وبين الحكومات الظالمة والأسر الغافلة، فيسعى بينهم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحيي الإسلام ويجاهد لإقامته في الحياة فينزعج الناس الغافلون والمنحرفون منه ويتضايقون.
يتضايقون من هذا الذي يخالفهم في سلوكه ومظهره، وينكر عليهم ما اعتادوه من المنكرات، وينزعج منه الطغاة من الحكام، فيواجه المسلم الملتزم بدينه حربا ضروسا وهجوما عنيفا بشتى الوسائل لإسكاته أو لإبعاده عن منهجه، ولكيلا يستجيب لدعوته الناس فيواجه بالاستهزاء والتهديد أو التعذيب أو السجن أو المحاربة في الرزق، ويقف المسلم ممتحنا أمام الطريقين اللذين لا ثالث لهما إما أن يرضي الله عز وجل ولا يبالي بسخط الناس وأذاهم، فيسير مستقيما لا يميد ولا يحيد، وإما أن يرضي الناس فيوافقهم على انحرافهم وضلالهم ويتميع معهم ليتجنب بطشهم أو سخطهم، فيسخط الله عز وجل.
وكثيرا ما يتعرض المسلم الملتزم بدينه وهو ينطلق في الحياة يتعامل مع الناس لمثل هذا الموقف ليتخير أحد الطريقين.
- ولنستعرض على ذلك أمثلة:
فمن أهم هذه الأمثلة والصور ما يقع للعلماء عندما تظهر المنكرات ويعم الفساد ويطغى الحكام والقادة والأمراء ويصبح واجبا عليهم الإنكار والتغيير وبيان الحق للناس قبل غيرهم، فمن العلماء من لا يفكر إلا فيما يرضي الله عز وجل فيحارب الباطل ويفضح الظالم، وأقل درجات إنكار المنكر الإنكار بالقلب، وليس وراء ذلك إيمان.
ومن العلماء وهم علماء السوء الذين يسيرون في ركاب الحكام والأمراء وضالة الناس فيرضونهم طمعا بما عندهم أو خوفا من بطشهم ونقمتهم، فلا يأمر ولا ينهى بل يبيعون ذممهم ودينهم بحفنة أموال أو بمنصب عال، ويسرعون إلى عتبات السلاطين بالفتاوى المعلبة الجاهزة.
ولعل من الصور التي يقف فيها المرء ممتحنا إما أن يرضي الله عز وجل أو يرضي الناس ما يحدث للشباب عندما يضغط الوالدان الغافلان على أولادهم، فيأمران مثلا بما فيه معصية الله أو عندما يطلب الأصدقاء من صديقهم ألا ينكر عليهم بعض المخالفات التي يرتكبونها وألا يزعجهم بنصائحه وإلا قاطعوه وخسرهم.
إن تلك الصور وغيرها كثير لو تأملناها لوجدنا الناس أمامها ينقسمون على العموم إلى قسمين: قسم لا يفكر إلا في رضا الله عز وجل، وقسم تضعف نفسه أمام الضغوط.
ولقد بين عليه الصلاة والسلام لنا عاقبة كل طريق ونهايته.
أما الطريق الأول فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس) فبين أن الله تعالى تكفل وتعهد بحفظ من يطلب رضاه ويقدمه على رضا الناس كما قال تعالى في كتابه الكريم: {أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام} [الزمر: 36-37].
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وكل من أرضى الله بسخط الناس كان قد اتقاه، وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، وهو كاف عبده.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: فمن هداه الله وألهمه رشده و وقاه شر نفسه امتنع من الموافقة على فعل الحرام وصبر على عداوتهم - أي عداوة المنحرفين -
3- صور من الثبات على الحق طلبا لمرضاة الله
لو تأملنا موقف الدعاة أمام بطش الطواغيت وإغراءاتهم لوجدنا إمام الدعاة صلى الله عليه وسلم قد تعرض لضغوط ومساومات عديدة ليتنازل عن بعض أمور الدعوة كما قال سبحانه: {ودوا لو تدهن فيدهنون} [القلم:9] أي ود الكفار لو تدخل معهم يا محمد في مجال المساومة على الدين، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حاسما في موقفه حتى وهو في أحرج الأوقات، وأشد الأزمات وهو محاصر بدعوته وأصحابه يعذبون ويتعرضون للأذى لم يحاول أن يرضي الكفار قط ولو بكلمة واحدة تسخط الله عز وجل، بل فضح عليه الصلاة والسلام الشرك والمشركين فماذا كانت النتيجة؟
فتح الله عليه ونصره وأيده وآواه إلى المدينة وأعز المسلمين.
إن الله عز وجل يصون ويرضي من يقدم رضاه على رضا الناس وليس شرطا أن لا يؤذى أو يعذب فقد يؤذى المسلم لحكمة يعلمها الله عز وجل كأن يكون تكفيرا لسيئاته أو رفعا لدرجته أو لينال الشهادة وما أعظمها منزلة كما في الحديث الحسن: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله).
- لما ولي عمر بن هبيرة الفزاري العراق وأضيفت إليه خراسان وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي وذلك في سنة ثلاث ومائة فقال لهم إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده وأخذ عليهم الميثاق بطاعته وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة وقد ولاني ما ترون فتأتيني منه كتب إن أمضيتها أسخطت الله وإن أهملتها أسخطت أمير المؤمنين فما ترون؟!
فقال الشعبي قولا فيه تقية وسكت ابن سيرين فقال ابن هبيرة ما تقول يا أبا سعيد: فقال يا ابن هبيرة: خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله فإن الله يمنعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله. وإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فما كتب إليك يزيد فاعرضه على كتاب الله فما وافقه فأنفذه وما خالفه فلا تنفذه، فإن الله أولى بك من يزيد وكتاب الله أولى بك من كتابه. ومازال به حتى أبكاه فما كان من الوالي بعد أن انصرف في عبرته إلا أن أرسل إليهم جوائزهم فأعطى الحسن أربعة آلاف درهم وصاحبيه ألفين ألفين فنادى الشعبي على باب المسجد من قدر منكم أن يؤثر الله على خلقه فليفعل فإن الأمير قد سألنا عن أمر الله ما علم الحسن شيئا جهلته وما علمت شيئا جهله ابن سيرين ولكنّا أردنا وجه الأمير فأقصانا الله تعالى وقصر بنا وأراد الحسن وجه الله فحباه تبارك اسمه وزاده. (حلية الأولياء ج2 ص14).
4- كيف ينال العبد رضا الله عزوجل
مما لا شك فيه أنه ما من مسلم رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً إلا وهو يسعى إلى تحصيل رضا الله، ويتلمس الطرق التي تقربه من ربه وتبعده عن سخطه وعقوبته.
فإليك -أخي- بعض الأعمال التي تنال بها رضا الله ومغفرته ورحمته:
- أولاً: في مجال العقيدة؛ فإن الله قد رضي لنا أن نعبده ولا نشرك به شيئاً، وأن نتمسك بكتابه وسنة نبيه، ولا نحيد عنهما، ولا نبغي عنهما حولاً، ولا نرضى عنهما بدلاً؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً: فيرضى لكم أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).
- ثانياً: في مجال العبادات العملية؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين لنا أن العبد يتوصل إلى رضا الله بقيامه بأعمال كثيرة.
فمن ذلك: ذكر الله، فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأرضاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟) قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: ذكر الله).
وقال معاذ بن جبل: ما عمل امرؤ بعمل أنجى له من عذاب الله -عز وجل- من ذكر الله.
ومن تلك الأعمال العملية التي يتحصل بها العبد على رضا الله: الجهاد في سبيل الله، فعن ابن عمر-رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه عز وجل: (قال أيما عبد من عبادي خرج مجاهداً في سبيل الله ابتغاء مرضاتي ضمنت له أن أرجعه إن أرجعته بما أصاب من أجر أو غنيمة، وإن قبضته غفرت له ورحمته)
- ثالثاً: في مجال العبادات القلبية، فقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن رضا الله يُجتلب بأعمال قلبية تظهر على اللسان والجوارح؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم) فذكر الحديث.. قال أنس لقد رأيته يكيد بنفسه -أراد أنه قارب الموت- بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدمعت عينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبَّنَا، وَاللهِ يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ).
- رابعاً: في مجال المعاملات، فقد أرشدنا النبي-صلى الله عليه وسلم- إلى أن رضا الله يُدرك بكلمة حسنة يقولها المؤمن لأخيه المؤمن؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم)
وأوْلى بحسن الكلام، وطيب المعاملة من كانا سبباً في وجودك أيها الإنسان بعد الله -تبارك وتعالى- وهم الوالدان؛ فعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد).
فيا عباد الله:
إن من الواجب علينا أن نتلمس رضا الله عز و جل مهما كلفنا من ثمن، لأن الله تعالى يعزّ من يطلب رضاه ويرضى عنه ويرضي الناس عليه وأن نبتعد عن تلمس رضا الناس بسخط الله حتى لا يكلنا الله إليهم، وما أعظم كلام الامام ابن رجب رحمه الله حينما قال:
(من تحقق أنّ كل مخلوق فوق التراب تراب ، فكيف يقدم طاعة من هو تراب على طاعة ربّ الأرباب، أم كيف يرضي التراب بسخط الملك الوهاب إن هذا لشيء عجاب).
http://shamkhotaba.org