دروس الحج وفضل العشر من ذي الحجة
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الخميس 24 أغسطس 2017 م
عدد الزيارات : 3234
مقدمة: 
تقرؤون في هذه المادة دروساً عظيمة من الحج يحتاجها الميدان الآن، دروسا في الوحدة والمرجعية والشعار والوجهة، ورمي العدو بسهم واحدةٍ رغم اختلاف أجناس وأطياف المواجهين.
كما تقرؤون فيها كيف ابتلى الله ابراهيم بابتلاءات فأتمهن إبراهيم وفاء وقضاء.. فبشره الله بالإمامة {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} في آية تختصر لنا معنى الطريق وكأنها تتنزل الآن.
وكيف أرسى النبي قانون حرمة الدماء والأموال والأعراض.
1- الأمة الإسلامية أمة واحدة
الأصل في الإسلام هو وحدة الأمة، وتواصل أبنائها وقيامهم بكافة متطلبات هذه الأمة مهما اختلفت الأوطان والأزمنة.
والحج مؤتمر عالمي يتكرر كل عام مرة، ويعقد في الأرض المباركة حول الكعبة؛ يجمع المسلمين، ويؤلف بين قلوبهم، ويوحد غاياتهم، تحت شعار: "أمة واحدة" قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]. 
وقال تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52].
ليست كل دعوة إلى الوحدة ونبذ الفرقة يستجاب لها؛ ﻷنها ربما كانت من أجل عصبية، أو إخلال بشريعة، أو عرض، أو نفس، أو عقل، أو مال.
في الحج تتجلى هذه الآية واضحة وضح النهار، وكأن الناس في طوافهم وسعيهم ورميهم ووقوفهم كأنهم قرآنٌ يمشي على الأرض في وحدتهم ووحدة دعائهم وتلبيتهم وعبادتهم لربهم. 
وقد أمرنا الله بالاتحاد وحذَّرنا من التفرق فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]. 
كما أمرنا الله بطاعة الله ورسوله، وحذرنا من التنازع وجعل عقوبته الفشل قال الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
2- الحج رسالة في وحدة القيادة والمرجعية
وما أعظم عوامل الوحدة بين الأمة الإسلامية، فربها واحد، وكتابها واحد، ورسولها واحد، وشريعتها واحدة، وعباداتها تجمعها وتوحد بينها، فالصلاة إلى قبلة واحدة، والصيام في شهر واحد، ويأتي الحج ليقوي هذه الوحدة، ومن أهم مظاهر ذلك:
شعارهم واحد: تلهج به ألسنتهم: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ".
مكانهم واحد: يلتقون على جبل عرفات: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (الْحَجُّ عَرَفَاتٌ الْحَجُّ عَرَفَاتٌ الْحَجُّ عَرَفَاتٌ أَيَّامُ مِنًى ثَلاَثٌ {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِومَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ).
اتجاههم واحد: يطوفون حول الكعبة المشرفة، التي جعلها الله قيامًا للناس، ومحطًّا لأنظارهم وقبلة لهم {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]. 
وقال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97].
لباسهم واحد: تذوب معه كل الفوارق.. يذكرهم بالأكفان عند لقاء الرحمن.
اجتماعهم في زمان واحد: قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
حركتهم واحدة: وحدة الحركة في أعمال هذه الشعيرة حيث تراهم في وقوفهم في عرفات، وإفاضتهم منه، وطوافهم حول البيت في فلك واحد واتجاه واحد حيث يوحي بأن المؤمن لا يخرج عن دائرة الإسلام، حياته كلها دائرة حول بيت الله ودين الله.
ومن أعظم مظاهر الاجتماع في الحج رجمهم للشيطان عدوهم جميعًا عن يد واحدة، إنها آية عظيمة والله في رصِّ الصف واتحاد القوة ضد العدو الواحد!
إنه لابد وأن تكون بين هذه الجموع الغفيرة للحجيج فوارق في قوة الإيمان وضعفه، وفي كثرة العمل لهذا الدين وقلته، وفي حضور الهدف وغيابه، وحتى في المعتقد فقد تكون هناك فوارق كذلك، ولكنهم جميعاً اجتمعوا على عدوهم المشترَك في ضربة واحدة ليرسل الله لنا من ذلك رسالة مفادها: "إن عدوكم واحد، لا يفرق بينكم رغم اختلافاتكم، فاجتمعوا عليه في ضربة واحدة قاصمة".
هكذا يريد الله منا يا عباد الله {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4].
لقد اجتمع في الحج أناس جاؤوا من كلِّ فجٍ عميق، تختلف ألسنتهم وأقاليمهم وأنسابهم وطبقاتهم، ولكن أعمالهم واحدة وشعارهم واحد وحركاتهم واحدة واتجاههم واحد، ورسالتهم واحدة، وفي هذا رسالة واضحة من الله لكم يا من سلمكم الله قياد الناس والجماعات في أن لا تفخروا على غيركم ولا تحصروا الحقَّ في منهجكم ولا ترفضوا الحق إن أتى من غيركم، بل بعضكم يكمِّلُ بعض، ويجبر خطأ بعض في نصح رحيم، حتى يقوم بكم بنيان الأمة وتستوي على سوقها؛ فتُعجَبَ بكم الأمم، ويَغيضَ الله بكم الكفار.
إن هذا الركن العظيم يذيب فوارق العرق والنسب واللغة والإقليم والطبقة، ويوحد بين الأمة في مخبرها ومظهرها، ويجعلها أمة واحدة. ويزيل الفرقة التي يسعى إليها أعداء الأمة بالليل والنهار. 
3- ابتلاءٌ وصبرٌ ثم تمكينٌ وإمامة: آية تختصر لنا معنى الطريق
في الحج ذكر الله لنا شيئاً من قصة ابراهيم عليه السلام لتختصر لنا ذلك الطريق الطويل وتضع لنا النقاط على الحروف، وكأنها تتزل اليوم، في بيان إلهي عجيب، ونسق من الترتيب والتعبير بديع: {وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124].
ابتلى الله إبراهيم بكلمات من الأوامر والتكاليف، فأتمهن وفاء وقضاء، وكأن هذا الدرس الميداني يتكرر اليوم، وتُكتبُ حروف تفاصيله بمداد من الدماء الزكية التي سالت على أرض الشام، فلقد طُرِحَ إبراهيم في النار، وزعم قومه انهم سينصرون آلهتهم وطغيانهم بتحريقه {قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم عن كنتم فاعلين} واليوم يتكرر المشهد فكم حُرِّق من المسلمين الموحدين على أيدي الطغاة والمجرمين والغالين، وكم تحرقت بيوت وخيم على ساكنيها فذهبت عائلات بأكملها إلى الله شاهدة على طغيان الطغاة وتقصير المقصرين.
وطرد إبراهيم من بلده مثلما طرد سائر الأنبياء، {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا} واليوم يطُرِدَ الملايين من أرضهم وديارهم ليسيحوا في الأرض ويذوقوا ألواناً من الذل والهوان.
ثم يأتي الأمر بذبح إسماعيل بعد شوق طويل إليه، فيلبي إبراهيم وولده نداء ربهم بكامل الاستسلام واليقين.
ولكم لبّى اليوم آباءٌ وأمهات نداء ربهم وقدموا من أبنائهم قرابين حرقاً وخنقاً وصبراً وذبحاً وغرقاً وغيرها من أصناف التعذيب والتنكيل في سبيل نصرة الدين، إنها التضحية وأي تضحية!!
لقد وفى ابراهيم بالالتزامات التي ابتلاه بها ربُّه، {وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} فأتمهن وفاء وقضاء، وقد شهد الله لإبراهيم في موضع آخر بالوفاء بالتزاماته على النحو الذي يرضى الله عنه فيستحق شهادته الجليلة: {وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى} وهو مقام عظيم بلغه ابراهيم ليستحق بعدها تلك البشرى وتلك الثقة: {قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً} إماماً يتخذونه قدوة، ويقودهم إلى الله، ويقدمهم إلى الخير، ويكونون له تبعاً، وتكون له فيهم قيادة.
أرأيتم أيها المسلمون؟! ابتلاء واختبار وتمحيص، يليه اصطفاء واجتباء وتمكين، ليكون إبراهيم إمامأ للأمة في الدين!!
هي رسالة من الله لنا، فالطريق طريق واحدة، بدايتها معلومة ونتيجتها محتومه، ومن أصدق من الله قيلاً.
قال بعدها إبراهيم: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
يا رب: ومن ذريتي سيكون أئمة؟
قال الله: لا ينال عهدي الظالمين..
والظلم أنواع وألوان: ظلم النفس بالشرك، وظلم الناس بالبغي.. 
والإمامة الممنوعة على الظالمين تشمل كل معاني الإمامة: إمامة الرسالة، وإمامة الخلافة، وإمامة المرجعية والقيادة.
فالعدل بكل معانيه هو أساس استحقاق هذه الإمامة في أية صورة من صورها. 
ومن ظلم- أي لون من الظلم- فقد جرد نفسه من حق الإمامة وأسقط حقه فيها بكل معنى من معانيها.
فيا أيها القادة: لقد نصبكم الله أئمة للناس في طريق الجهاد، وكلفكم بتكاليف عظيمة، ألا فوفُّوا بالتزاماتكم تجاه دينكم وأمتكم كما وفى إبراهيم فامتدحه ربه وقال له: {إني جاعلك للناس إماماً} إن الإمامة لن تكون بخيانة الأمانة، فاتقوا الله وارعوا حرمة الدماء التي تسيل، وحرمة ملايين المشردين، ومئات آلاف المعتقلين، واعلموا أن محاولات التضييق والضغط على الشعوب لن توقف قدر الله الماضي إلى الإصلاح والتغيير، ولن تمنع نور الله من الانتشار في الآفاق، ويجب أن ندرك جميعًا أن مكر العدو {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43].
وطغيان وبغي القوة الأمريكية والروسية والصفوية الغاشمة لن يعجز الله شيئًا {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8].
وإنا لموقنون أن كل الدعم المادي والمعنوي وكل ما ينفق في هذا العالم للحيلولة دون عودة الناس إلى سبيل ربهم سيكون حسرة في الدنيا، وغلبة للمؤمنين عليهم، مع عظيم ما ينتظرهم من عذاب في الآخرة تحقيقًا لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36].
ولذلك كله كونوا على يقين بأن النصر لأمة الإسلام آتٍ بحول الله وقوته وما ذلك على الله بعزيز.
نحن أقوياء بالحق والإيمان: إن لنا سلاحًا لا يفل ولا تنال منه الليالي والأيام هو (الحق): والحق باقٍ خالدٌ، والله يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18].
ويقول {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد: من الآية 17].
ويقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
إن أول درجة من درجات القوة: قوة العقيدة والإيمان، ثم يلي ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدهما قوة الساعد والسلاح، ولا يصح أن تُوصف جماعة بالقوة، حتى تتوفر لها هذه المعاني جميعًا.
ولن يتحقق لأمتنا ما تصبو إليه من عزة وسيادة إلا إذا نزعنا من قلوبنا الوهن الذي حذرنا منه رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا". فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: "بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ". فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ قَالَ: "حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ).
4- النبي صلّى الله عليه وسلّم يصدع بقانون حرمة الدماء والأموال والأعراض
وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة في حجة الوداع ونادى بالناس: قال: (أتدرون أي يوم هذا؟) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: (أليس يوم النحر؟) قلنا: بلى، قال: (أي شهر هذا؟) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: (أليس ذو الحجة؟) قلنا: بلى، قال: (أي بلد هذا؟) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: (أليست بالبلدة الحرام؟) قلنا: بلى، قال: (فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض) البخاري: 1741
(ليبلغ الشاهد الغائب) نداء نبوي عظيم لتحذر الأمة كلها شاهدها وغائبها من إراقة دم معصوم بغير حقٍّ أو اعتداء على مال أو عرض، فحقوق العباد غالية عند الله عز وجل؛ لذلك: فقاتل النفس بغير حق في غضب الله وناره، ولعنته وعذابه. قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].
وفي الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصب دمًا حرامًا) البخاري: 6862
قال ابن العربي في شرحه: "الفسحة في الدين: سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت؛ لأنها لا تفي بوزره". 
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: "إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها: سفك الدم الحرام بغير حِلِّه".
ونظرًا لعظيم إثم جريمة القتل جعلها الله أولَ ما يُقضى به يوم القيامة؛ لأن مرتكبها قد تبيّن أمره وهلاكه؛ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) مسلم: 1678
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم) النسائي:3987، وصححه الألباني
وقد حذر القرآن من اقتتال الأمة بين فصائلها وجماعاتها وقد نبه إلى هذا الخطر حين قرن بين عذاب مهلك ينزل بالصواعق من السماء أو بالزلازل من الأرض، وبيّن فرقة الأمة وانقسامها. قال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65].
وقد بيّن لنا القرآن خطر أن الذين يقومون بالاغتيالات السياسية أو الطائفية -خدمةً لمن كلَّفهم بهذه الجريمة- وبيَّن أنهم في غضب الله وناره يوم القيامة. قال صلى الله عليه وسلم :(قال يجيء المقتول آخذا قاتله وأوداجه تشخب دما عند ذي العزة فيقول يا رب سل هذا فيم قتلني فيقول فيم قتلته قال قتلته لتكون العزة لفلان قيل هي لله) صحيح لغيره، صحيح الترغيب والترهيب: 2448
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن أهل السموات والأرض اجتمعوا على قتل مسلم؛ لكبّهم الله جميعًا على وجوههم في النار) قال الألباني صحيح لغيره، صحيح الترغيب والترهيب: 2443
لقد حذرنا النبي صلّى الله عليه وسلّم أشد التحذير من الجاهلية والعصبية التي تستبيح الدماء والأموال والأعراض؛ فقال: (مثل الذي يعين قومه على غير الحق كمثل بعير تردّى في بئر فهو ينزع منها بذنَبه) صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2249
ومعنى الحديث: أنه قد وقع في الهلاك والمعصية كالبعير إذا تردّى في بئر فصار ينزع بذنبه، ولا يقدر على الخلاص.
وقد حذرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الاقتتال الداخلي الذي يهدد كيان الأمة، فقال: (إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلُّون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم) مسلم: 2812
لهذا كله ينبغي التنبه إلى خطورة غفلة الأمة عن كيد أعدائها حين يسعون لجرّهم إلى الاقتتال فيما بينهم، لتتمزق الأمة من الداخل، وتنسى أن صراعها مع العدو التي خرجت لإسقاطه.
ولا ننسى أنه كان للعرب دولة ومُلْك في الأندلس فقدوه وخرجوا منها، عندما تحوّل الصراع بين ملوك الأندلس؛ يحارب بعضهم بعضًا، ويستعين بعضهم بالعدو الكافر على أخيه المسلم، حتى هُزموا جميعًا، وخرج آخر ملوكهم يبكي وأمه تقول له:
ابك مثل النساء ملكًا مضاعًا      لم تحافظ عليه مثل الرجال
وكأني بالشاعر ينادينا بقوله:
لا تُرجعوا مأساة أندلسٍ لكم     واستشعروا الخطر العظيم وأبصروا
إن الجماعات الإسلامية عندما تخوض فيما بينها صراعاً لتصفية مشاريعها بحجة انحرافها تنسى أن الأمة برمَّتها تخوض مع اعدائها صراعاً يهدد وجودها. 
5- فضل العشر من ذي الحجة
قد أظلتنا أيام فاضلة هي أفضل أيام الدنيا عند الله، من نفحات الله، وفيها يقوم سوق الأجر والثواب والرحمة والمغفرة من الله، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ـ يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء) رواه البخاري
أقسم الله بها لفضلها ومكانتها فقال سبحانه {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} والليالي العشر هي عشر ذي الحجة، وهذا ما عليه جمهور المفسرين والخلف، وقال ابن كثير في تفسيره: وهو الصحيح.
وهي الأيام المعلومات المذكورة في قول الله سبحانه: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج:28] 
وجمهور العلماء على أن الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، منهم ابن عمر وابن عباس.
 شهد لها صلى الله عليه وسلم بأنها أفضل أيام الدنيا فعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فضل أيام الدنيا أيام العشر ـ يعني عشر ذي الحجة ـ قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجل عفر وجهه بالتراب) رواه البزار وابن حبان وصححه الألباني
وفيها يوم عرفة يوم الحج الأكبر، ويوم مغفرة الذنوب، ويوم العتق من النيران، ولو لم يكن في عشر ذي الحجة إلا يوم عرفة لكفاها ذلك فضلاً.
وفيها يوم النحر وهو أفضل أيام السنة عند بعض العلماء، قال صلى الله عليه وسلم: (أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر) رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني
فاجتمعت فيها أمهات العبادة، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره".
فحري بنا أن نستقبل هذه الأيام الفاضلة بالتوبة الصادقة وسائر الأعمال الصالحة من صلاة وصدقة وصلة رحم وقراءة القرآن وقضاء حوائج المسلمين وتفريج الكرب وغيرها من وجوه البر.
قال الحافظُ ابنُ رجبٍ الحنبليُّ رحمه الله في (لطائف المعارف): "لمّا كان اللهُ سبحانه وتعالى قد وضَعَ في نُفوسِ المؤمنينَ حنيناً إلى مشاهدةِ بيتِه الحرامِ، وليسُ كلُّ أحدٍ قادراً على مشاهدتِه في كلِّ عامٍ؛ فرَضَ على المستطيعِ الحجَّ مرّةً واحدةً في عمرِه، و جعَل موسمَ العشرِ مشترَكاً بين السّائرِينَ والقاعِدينَ؛ فمن عجَز عن الحجِّ في عامٍ قدِر في العشرِ على عملٍ يعملُه في بيتِه يكونُ أفضلَ من الجهادِ الّذي هو أفضلُ من الحجِّ ".
ويشرعُ فيها للمسلمِ التَّكبيرُ والتَّهليلُ والتَّحميدُ في هذه الأيَّامِ، والجهرُ بذلك في البيوتِ والمساجدِ والطَّرقاتِ والأسواقِ وغيرِها؛ شكراً لله تعالى على ما أفضل به من الإنعامِ؛ قال الإمامُ البخاريُّ رحمه الله في صحيحه: "وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ؛ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا".
وروى جعفر الفريابيُّ في (أحكام العيدين) عن يزيد بن أبي زيّاد قال: "رأيتُ سعيدَ بنَ جبيرٍ ومجاهداً وعبدَ الرحمنِ بنَ أبي ليلى أو اثنينِ من هؤلاءِ الثّلاثةِ، ومن رأينا من فقهاءِ النّاسِ يقولون في أيّام العشرِ: اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، لا إله إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، وللهِ الحمدُ".
والتّكبيرَ في هذه الأيّامِ على نوعينِ: 
الأوّلُ: تكبيرٌ مطلقٌ: يكون في جميعِ الأوقاتِ من أوّلِ دخولِ شهرِ ذي الحجّةِ، إلى آخرِ أيّامِ التّشريقِ، وعليه يدلُّ ما سبق ذكرُه من الآثارِ عن الصّحابة والتّابعين، مع قولِه صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه: (أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ، وَشُرْبٍ، وَذِكْرٍ لِله).
والثّاني: تكبيرٌ مقيّدٌ: يكونُ في أدبارِ الصّلواتِ المكتوباتِ، ويبدأ من صلاةِ الفجرِ يومَ عرفة لغيرِ الحاجِّ -ولهُ من صلاةِ الظُّهرِ-، إلى صلاةِ العصرِ من آخرِ أيّامِ التشريقِ.
 

http://shamkhotaba.org