مقدمة: باب كبير من أبواب الأعمال الصالحة يغفل عنه معظم المسلمين، ومعصية كبيرة كبيرةً يقترفها الناس لجهلهم وهم لا يشعرون، إن حديثنا اليوم عن صلة الرحم.
أيها الأخوة الكرام؛ لقد أوصى الإسلام بصلة الرحم، ونهى نهياً شديداً عن قطيعتها، فمن مبادئ الإسلام الاجتماعية تمتين العلاقات بين الأقارب، وأولى الناس بذلك الأقربون رحماً، فلهم حق الأخوة بالإسلام ولهم حق القرابة.
1- العيد وصلة الأرحام
صلة الرحم خلق إسلامي رفيع، دعا إليه الإسلام وحض عليه، فهو يربي المسلم على الإحسان إلى الأقارب وصلتهم، وإيصال الخير إليهم، ودفع الشر عنهم، يقول الله تعالى في ذلك: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء: 36].
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ قَالَتْ الرَّحِمُ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟، قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ فَهُوَ لَكِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله)
وجعلت صلة الرحم من كمال الإيمان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)
وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصدقة على الأرحام بقوله: (إِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَإِنَّهَا عَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ: صَدَقَةٌ، وَصِلَةٌ)
وأولى الأرحام بالصلة الوالدان، ثم من يليهم من الأهل والقرابة.
وقد أعد الله تعالى الأجر الكبير والثواب الجزيل لمن يصل رحمه، فإن من أعظم ما يجازي به الله تعالى واصل الرحم في الدنيا أن يوسع له في الرزق ويبارك له في العمر، قال عليه الصلاة والسلام: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)
أما قطيعة الرحم فهي كبيرة من كبائر الذنوب، وقد رتب الله العقوبة والطرد من رحمته لمن قطع رحمه، قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 23].
وقد قال علي بن الحسين لولده: "يا بني لا تصحبن قاطع رحم فإني وجدته ملعونا في كتاب الله في ثلاثة مواطن، الموطن السابق، وقوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}، ولعل الثالث قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}".
وليس أعظم من أن قاطع الرحم تعجل له العقوبة في الدنيا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ)
أما في الآخرة فإنه يحرم من دخول الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ)
عباد الله: ما أفضل من يوم العيد من أن يتقرب المسلم فيه لربه بصلة رحمه، ابتغاء لمرضاته وعظيم ثوابه، وإزالة لما قد يقع في النفوس من شحناء، فالمبادرة بالزيارة والصلة وإن كانت شاقة على النفس ولكنها عظيمة القدر عند الله.
وقد يتعذر البعض بأنه يصل رحمه وقرابته ولا يجد منهم مثيل صلة، بل يجد من الجفوة والصدود ما يصرفه عن صلتهم، فيقطع الصلة برحمه، يقول نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم عن ذلك: (لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا)
وأخرج عبد الرزاق عن عمر موقوفا "ليس الوصل أن تصل من وصلك، ذلك القصاص، ولكن الوصل أن تصل من قطعك".
وهذا ما أمر الله به نبينا صلى الله عليه وسلم، لما أنزل الله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا جبريل؟)، قال: إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك.
وقد يقول آخر: إن قرابتي يؤذونني ويشتمونني ويقاطعونني -وهذا شائع وكثير في واقعنا المعاصر- فهل أصلهم؟!!
والجواب عند نبيك صلى الله عليه وسلم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقَالَ: (لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ)
قال الإمام النووي: "معناه كأنما تطعمهم الرماد الحار، وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم، ولا شيء على هذا المحسن، بل ينالهم الإثم العظيم في قطيعته، وإدخالهم الأذى عليه".
وقيل: معناه إنك بالإحسان إليهم تخزيهم وتحقرهم في أنفسهم لكثرة إحسانك وقبيح فعلهم من الخزي والحقارة عند أنفسهم كمن يسف المل. وقيل: ذلك الذي يأكلونه من إحسانك كالمل يحرق أحشاءهم.
فحري بنا أن نتفقد أرحامنا في هذه الأيام المباركة أيام العيد بالزيارة والصلة والسؤال والصدقة وإصلاح ذات البين، ولا يتعذر أحد بانشغاله، فلا أقل من أن يصل أحدنا رحمه بمكالمة تزيل ما علق في النفس، وتدحر الشيطان، وتفتح أبواب الخير، فالعيد فرصة عظيمة لفتح صفحة جديدة مع أرحامنا.
2- الخلافات والخصومات والشحناء سببٌ لرفع الرحمات
عباد الله: طهارة القلب من الأمراض الاجتماعية أمرٌ حث عليه ديننا الحنيف؛ ولقد امتدح الله أقوامًا بأنهم يدعونه تعالى أن يطهِّر قلوبهم ويسلِّمها من البغضاء والشحناء فقال: {ٱلَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإيمَـٰنِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10].
وأخبر سبحانه أنه لا نجاةَ يوم القيامة إلا لمن سلِم قلبه، وسلامةُ القلب تقتضي طهارتُه من الغلِّ والشحناء والبغضاء، يقول جل من قائل: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88-89].
كما أنه سبحانه أتمَّ النعمة على أهل الجنة بأن نزعَ ما في قلوبهم من الغلّ وجعلهم إخوانًا، ذلك أن الغلَّ يُشقي صاحبه ويتعذَّب به، يقول سبحانه عن أهل الجنة: {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ} [الحجر: 47].
وبيَّن سبحانه أنّ من مقتضيات التقوى حصولَ ذلك الصلاح في ذات البين وطهارة القلوب وسلامتها، فقال سبحانه: {فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} [الأنفال: 1].
أيها المسلمون: إنَّ سنةَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامرةٌ بالنصوص المؤكِّدة على أهمية طهارةِ القلوب وسلامتها من الغلِّ والشحناء والبغضاء والخصومات، يُسأل عليه الصلاة والسلام: أيُّ الناس أفضل؟ فيقول: (كلّ مخموم القلب صدوق اللسان)، فيقال له: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ فيقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هو التّقي النقي، لا إثم ولا بغي ولا غلَّ ولا حسد)
ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا)
بل إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (لا تدخُلوا الجنةَ حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا)
ويقول عليه الصلاة والسلام: (ألا أخبركم بأفضلَ من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟) قالوا: بلى، قال: (إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)
لذلك أخبرنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أحاديث كثيرة أن الشحناء والبغضاء والخصام سبب لمنع المغفرة والرحمات والبركات، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)
وبين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ذلك يحلق الحسنات بل الدين كله فقال: (دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَالكُمْ لَكُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ)
فبادر أنت بالخير إذا أعرض عنك أخوك وكن أنت الأخير، فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ)
فهيا إلى تنقية قلوبنا من الشحناء والبغضاء والحقد والحسد، وليحل مكانها التراحم والتواصل والحب، ولنفتح صفحة جديدة بيضاء نقية مع المتخاصمين والمتشاحنين؛ حتى تُرفع الأعمال إلى الله؛ وتتنزل الرحمات؛ ولا تحجب بسبب الخصام والشحناء؛ ويعاهد كل واحد منكم ربه أن يخرج من هذا المسجد في هذا اليوم (يوم العيد) ويبدأ هو بالمصالحة والعفو والصفح؛ ليكون أفضل الناس وأخيرهم عند الله.
3- العيد ووحدة الأمة الإسلامية
لا شك أن الغرب وأعداء الإسلام -وعلى رأسهم اليهود- يتألمون حينما يروا وحدة العرب والمسلمين، فهذه الوحدة وهذا الاجتماع والتضامن والاعتصام يقلق مضجعهم ويجعلهم ينظرون إلى المسلمين نظرة حقد وحسد، وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم بذلك حيث قال: (إِنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ آمِينَ)
وتدبرت في هذه الثلاث فوجدت العلة واحدة وهي: الوحدة والاجتماع في كل، وهذا بلا شك يغضبهم ويحزنهم ويسوءهم.
إن المسلمين في الشرق والغرب يتجهون في الصلوات الخمس اليومية، وفي العيدين؛ وفي فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، رغم اختلاف الألسنة والجنسيات والألوان، يجمعهم الدين الإسلامي الحنيف، وهذا ليعلم المسلم أنه لبنة في بناء كبير واحد مرصوص، فالمسلمون يتعلمون وحدة القبلة، ووحدة الأمة في الهدف والغاية، وأن الوحدة والاتحاد والتضامن ضرورة في كل شؤون حياتهم الدينية والدنيوية، وهذا الذي حمل اليهود على حقدهم وحسدهم للوحدة الإسلامية في بلادنا، فسعوا إلى تمزيق وحدة المسلمين بكل ما لديهم من سبل وطرق.
إنه يؤسفني ويحزنني أن يتحد الغرب ويسمون أنفسهم الولايات المتحدة، ونحن لا أقول دولاً بل جماعات وأحزاب وفرق شتى، ولقد زار أحد المسلمين معظم دول العالم فتعجب من وحدة الغرب واجتماعه وتفرق المسلمين واختلافهم فأنشد قائلاً:
تجولت في طول البلاد وعرضها وطفت بلاد الله غربا ومشرقا
فلم أر كالإسلام أدعى لوحدة ولا مثل أهليه أشد تفرقا
لا شك أن التفرق ضعف والتنازع شر، والأعداء يعتمدون على قاعدة (فرق تسد) وقد نجحوا إلى حد ما في زرع الشحناء والبغضاء وإثارة الفتن، وربنا عز وجل حذرنا من ذلك فقال سبحانه: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
إنَّ الأمة الإسلاميَّة والعربية متى اجْتمعتْ واتَّحدتْ وتضامنت، لَم تستطعْ أُمَّة مَهْمَا كانتْ قوَّتها النَّيْل منها؛ لأن يدَ الله مع الجماعة، ولأنها مع اتِّحادها مَحمية بربِّها، وهذا ما عُرِف على مَرِّ السنين، فما قَوِيَتْ أُمَّة مُتفرقة مُشَتَّتة، وما ضَعُفَتْ أُمَّة اجْتمعتْ وتكاتَفَتْ وارتبطتْ بربِّها.
لذلك أراد حكيم أن يعطى أولاده درساً في ليلة من ليالي الشتاء الباردة حين أحس بقرب أجله، فاجتمع أولاده حول سريره، وأراد أن يوصيهم بوصية تنفعهم قبل وفاته، فطلب منهم أن يحضروا حزمة من الحطب، وطلب من كل واحد منهم أن يكسر الحزمة، فلم يستطع أي واحد منهم أن يكسرها، أخذ الحكيم الحزمة، وفرقها أعواداً، وأعطى كل واحد من أبنائه عوداً، وطلب منهم كسر الأعواد وهي متفرقة، فكسر كل واحد منهم عوده بسهولة. فقال الأب الذي هو الحكيم: يا أبنائي إياكم والتفرقة، كونوا كهذه الحزمة متحدين، حتى لا يقدر عدو على هزيمتكم.
كونوا جميعاً يا بني إذا اعترى خطب ولا تتفرقوا آحـــادا
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت أفرادا
أيها المسلمون: إن يوم العيد هذا فرصة عظيمة للتواصل والتواد والتراحم والتضامن والاتحاد بين المسلمين بعضهم البعض؛ فإذا كانت صلة الرحم الصغرى محصورة في النسب والقرابة؛ فإن صلة الرحم الكبرى ممدودة ومتسعة لتشمل جميع المسلمين بما بينهم من روابط الإخوة والمحبة مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}؛ قال الإمام الفخر الرازي في تفسيره لهذه الآية: "إذا كان الله قد عبر بالأخوة التي هي من النسب، دون الإخوان التي من الصداقة، ففي ذلك إشارة إلى أن ما بينهم، ما بين الأخوة من النسب، والإسلام كالأب".
قال قائلهم:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
وقال الإمام السعدي: "وفي الآية عقد عقده الله بين المؤمنين، أنه إذا وجد من أي شخص كان في مشرق الأرض ومغربها. يؤمن بالله وملائكته وكتبة ورسله واليوم الآخر، فإنه أخ للمؤمنين، أخوة توجب أن يحب له المؤمنون ما يحبون لأنفسهم، ويكرهون له ما يكرهون لأنفسهم، وأن المسلمين كلهم كالفرد الواحد وكالجسد الواحد؛ تسعد الأعضاء كلها بسعادته وتحزن لحزنه".
فعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)
أيها المسلمون: ألا فلنحتد ولنتضامن جميعاً من أجل بناء مجتمعنا، من أجل بناء وطننا، من أجل بناء حضارتنا، بعيدين عن التفرقة، عن التشرذم، عن التحزب، عن التشتت، حتى نحقق آمالنا، ويعلو بنياننا، ونبلغ منانا، فنكون جميعاً أدوات بناء لا أدوات هدم!!
ومتى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبني وغيرك يهدم
نسألُ الله أن يَجمعَ شَمْلنا وقلوبَنا على طاعته، وألا يجعلَ في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا.
http://shamkhotaba.org