مقدمة:
إن مما يميز أمة الإسلام وأبناء الإسلام عن غيرهم من أمم الأرض وأبنائها، هو أنهم يلتزمون أحكام شرعهم وهدي إسلامهم، ويتمسكون به في كل أحوالهم، في السراء والضراء، مع وجود سلطة تراقبهم أو بعدمها، وذلك بفعل وتأثير تقواهم مراقبتهم لله، وخوفهم منه، ورغبتهم بنيل رضوان الله، إيمانا منهم وإحسانا.
ولئن كان الصانع في البلاد الغربية يلتزم بجودة العمل والصناعة لوجود أجهزة وسلطات للمراقبة فإن الصانع المسلم واجب في حقة التزام الجودة سواء أوجدت السلطة المراقبة لعمله أم لم توجد. عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه).
ما الذي يمنعك من سرقة جزء من أرض جارك حيث لا كاميرات مراقبة، ولا وجود لأحد في المكان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتطع شبرا من الأرض ظلما، طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين).
ما الذي يمنع الشاب من فعل الفاحشة وامرأةٌ قد أغلقت أبواب غرفتها وهيأت له نفسها وتدعوه إلى ذلك كما حصل مع نبي الله يوسف عليه السلام، {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23].
هذه الرفعة وهذا السمو هو ما يعرف بالإحسان، الذي قال عنه النبي المصطفى والرسول المجتبى صلوت ربي وسلامه عليه: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)
فإذا كان المؤمن ذا ضميرٍ حيّ، يقِظ، يُحاسِبُ نفسه قبل أن يُحاسَب، ويزِنُ أعمالهُ قبل أن توزن عليه، يقول ماذا أعمل؟ ولماذا أعمل؟ ولِمَن أعمل؟ فإذا فعل شيئًا يقول: ماذا عمِلْتُ؟ ولماذا عملتُ؟ وكيف عملْتُ؟ ولِمَن عملْتُ؟
هذا الإحسان -وهو ما يسميه البعض بالضمير- شعورٌ إنسانيُّ باطنيُّ يجعلُ المرءَ رقيباً على سلوكه، ولديه الاستِعدادُ النفسي ليميزَ الخبيثَ من الطيب في الأقوال والأعمال والأفكار، الضميرُ الحي يمثل للمسلم جهازَ إنذار دقيق، يميز به البرَّ من الإثم، والصالح من الطالح، والنافع من الضار، وفي هذا يقول النبي الأكرم والرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم: (البر ما سكنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس، ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون).
ومن المهم أن نعلم المجتمعات البشريّة لا ترقى ولا تسْعد بِسَنّ القوانين، وإصدار القرارات، وإن كان هذا لا يُسْتغنى عنه أبدًا في كلّ مجتمع، إنَّما تَسْعَدُ المجتمعات وترقى بِوُجود الضمائر الحيّة، والقلوب السليمة، قال بعضهم: "العدل ليس في نصّ التشريع، وإنّما هو في ضمير القاضي"، فحينما رأى عمر بن الخطاب راعيًا ومعه شِياه، وقال: بِعْني هذه الشاة وخّذ ثمنها؟ فقال: ليست لي، فقال: قلْ لصاحبها إنّها ماتت أو أكلها الذئب! فقال: والله إنَّني لفي أشدّ الحاجة إلى ثمنها، ولو قلتُ لِصاحبها أكلها الذئب لصدَّقني، فإنّي عندهُ صادقٌ أمين، ولكن أين الله؟
وصحوةُ الضمير والشعور بمراقبة الله دليل الإيمان، فيُصبح المؤمن ويُمسي مُراقبًا لِرَبِّه، ومُحاسبًا لِنَفسه، مُتَيقِّظًا لأمره، متدبِّرًا لِعَاقبَتِهِ، لا يظلم، ولا يخون، ولا يتطاوَلُ، ولا يستكبرُ، ولا يجْحَدُ، ولا يدَّعي ما ليس له، ولا يفعلُ في يومه ما يخافُ أن يُحاسبُ عليه غدًا، ولا يعملُ في السرّ عملاً يستحي عنه في العلانيَة.
إذا ما خلوْتَ الدَّهْر يومًا فلا تقل خلَوْتُ ولكن قلْ عليَّ رقيب
ولا تحسبّن الله يغفل ســــاعةً ولا أنّ ما تُخفيه عنه يغيب
ولكن عندما تخبو جذوة الضمير وتضعف قواه فمن يُغذِّيه ويقويه؟ إنّه الإيمان، الإيمان أعظمُ مددٍ له، وأقوى مُولِّدٍ له، عقيدة المؤمن بالله جلَّ جلاله، وعقيدةُ المؤمن بالحِساب الحتْمِيّ تجعل الضمير أو القلب بنشاط وصَحْوةٍ دائمة، اعْتقادُ المؤمن أنّ الله معه حيثما كان، في السَّفر، وفي الحضَر، في السرّ والعلن قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92-93].
{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36].
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].
{وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61].
{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 1-4].
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].
ومن أرْوَعِ ما قيل في هذا المقام: "اجْعَل مراقبتَكَ لِمَن لا تغيب عن نظره إليك لحظة، واجعَل شُكرك لِمَن لا تنقطعُ نِعَمه عنك، واجْعَل طاعتَكَ لِمَن لا تستغني عنه، واجْعَل خُضوعكَ لِمَن لا تخرجُ عن مُلكِهِ وسُلطانه".
وإن مما هو أسوأ من الضعف هو موت الضمير وانعدامه، فإذا غابَ عن المجتمعات أصبحَ أفرادُها أشباحًا بلا أرواح، وربما ترقَّت ببعضِ بنِيها إلى أن يكون شياطين في جُثمان إنسٍ.
عندما يموتُ الضميرُ تبرز الأثَرَةُ وحبُّ الذات، ويُصبِحُ منطقُ الأفراد والمُجتمعات: عليك نفسَك، لن تُقدِّم أو تُؤخِّر، ماذا عساكَ أن تصنَع؟ لستَ كفيلاً على بني آدم.
عندما يموتُ الضميرُ يُقال: دَع ما لله لله، وما لقيصرَ لقيصرَ. عندما يموتُ الضميرُ يُؤمَّنُ الخائنُ، ويُخوَّنُ الأمين، ويُصدَّقُ الكاذِبُ، ويُكذَّبُ الصادق.
عندما يموتُ الضمير يستأسِدُ الحَمَل، ويستنوِقُ الجمَل، وتنطِقُ الرُّويبِضَة، ويتَّخِذُ الناسُ رُؤوسًا جُهَّالاً فيضِلُّوا ويُضِلُّوا.
وعندما يموتُ الضميرُ يُمكنُ للظالِمِ أن يدُكَّ شعبًا كاملاً فلا يُبالِي، يستصرِخ الشعب ويستغيثُون ويُنادُون، ولكن لا حياةَ لمن يُنادَى.
عندما يموتُ الضميرُ يعلُو الظلمُ، ويخبُو العدل، ويكثُر الشُّحُّ، ويقِلُّ الناصِح، وتُستمطَرُ الآفاتُ والعُقوبات، ويُهدَمُ البُنيان لبِنَةً لبِنَةً، ولاتَ ساعة ترميمٍ.
ربما بعض الناس ماتت ضمائرهم، والبعض نامت ضمائرهم، وآخرون تعفَّنت ضمائرهم، وهناك مَن باع ضميره، ونحن نرى أصنافًا من هؤلاء اليوم، نرى المسؤول الذي باع ضميره، والإعلامي الذي باع ضميره، والقاضي باع ضميره، والعالِم باع ضميره، والموظف باع ضميره، والمعلِّم الذي باع ضميره باعوا ضمائرهم ثمنًا بخسًا.
{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
إن مما لا شكّ فيه أن الأمةَ بمجموعها وهي تكتوِي بلَهيبِ الصِّراعات والنَّكَبَات والعُدوان والحُروب التي أكلَت الأخضرَ واليابِسَ أحوجُ ما تكون إلى الضمير الصادق الذي لا غِلَّ فيه، الضمير المشفِق الناصِح الذي يُقدِّمُ مصلحةَ مُجتمعِه وأهلِه على مصلَحَته الشخصيَّة، مستشعرا مسؤوليته أمام الله، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته) قال: وحسبت أن قد قال: (والرجل راع في مال أبيه ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته).
وهؤلاء كلهم استووا في الاسم لكن المسؤولية اختلفت، والإنسان تكون مسؤوليته بقدر السلطة التي يتولاها، فليحذر الإنسان مِن تولي وظيفةٍ ليس قادرا عليها، فهذا أبو ذر الغفاري يطلب من النبي أن يوليه إمارة، فيقول له: (يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها).
فالذي يتولى أمور الناس ينبغي أن تكون فيه قوة ليقف في وجه المفسدين الأقوياء، وليؤدي حق الضعفاء، وليعمل ما ينبغي من خدمة الصالح العام.
وإن مما ينبغي أن يكون عليه حالُ من يلي أمور الناس، أيا كانت مرتبته وأيا كانت أن يكون منتبها إلى مدى إخلاصه في عمله وقيامه بالواجب وفي مقدمة ذلك الإحسان إلى الناس، فنبينا عليه الصلاة والسلام دعا ربه فقال: (اللهم، من ولي من أمر أمتي شيئا فشقّ عليهم، فاشقُق عليه، ومَن ولي من أمر أمتي شيئا فرَفَقَ بهم، فارْفُق به).
فالمسؤول الذي يُوقع الناس في المشقة بالإساءة إليهم ويمنعهم من حقوقهم ويحمّلهم ما لا يطيقون يستحق غضب الله تعالى وعقابه.
وقد جاء الوعيد الشديد لذاك المسؤول الذي يمتنع من استقبال الناس، وبالتالي تضييع حقوقهم، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (من ولاه الله عز وجل شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم، وخلّتهم وفقرهم، احتجب الله عنه دون حاجته وخلته، وفقره).
وليفكر أي مسؤول في حاله إذا عُزل أو أُحيل على التقاعد، وقد أشار نبينا عليه الصلاة والسلام إلى هذا المصير بقوله: (إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة).
فالمتولي لمناصب المسؤولية ومنها الإمارة كالطفل الرضيع ينتفع بما يصل إليه من منافع وملذات، فإذا عُزل أو تقاعد أو مات صار يتألم ويتحسّر ويبكي كالطفل الذي يُمنع من الرضاع، فالسعيد من تولى المسؤولية بنصح وإخلاص، ورفقّ بالناس، ويّسر وبشّر. فكان بذلك جديراً برحمة الله وعفوه ورضاه.
http://shamkhotaba.org