مقدمة:
الظّلم محرّمٌ في كلّ زمانٍ ومكانٍ، لكنّه في الأشهر الحُرم أشدّ تحريماً من غيره، قال قتادة رحمه الله: "إنّ الظّلم في الأشهر الحُرم أعظم خطيئةً ووزراً من الظّلم فيما سواها، وإن كان الظّلم على كلّ حالٍ عظيماً ولكنّ الله يعظّم من أمره ما يشاء".
1- إنّ لله خواصّ في الأزمنة والأمكنة والأشخاص
إن الله تعالى هو الخالق العليم والمدبِّر الحكيم يختار ما يشاء من الأمر والخلق، ويُفَضِّل ما يشاء عمَّا يشاء، فقد فضَّل القرآنَ على سائر ما أنزل من الكتب على أنبيائه عليهم الصّلاة والّسلام، وفضَّل من سُوَرِهِ بعضَها على بعضٍ، كما فضَّل سورة الفاتحة على غيرها من السّور، وفضَّل آية الكرسيّ على ما سواها من الآيات البيّنات، وفضَّل من الذِّكر والدّعاء والاستغفار بعضَهُ على بعضٍ، كما في أحاديثَ كثيرةً منها: (أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الحَمْدُ لِلَّهِ)، ومنها: (سيّد الاستغفار أن تقول: اللهمّ أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرّ ما صنعت، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنّه لا يغفر الذّنوب إلّا أنت).
وهكذا فَضَّل بعضَ الأشخاص على بعضٍ، حتّى الأنبياء فاضَلَ بينهم، كما في قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة:253].
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء:55].
وفضَّل من الليالي ليلة القدر: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3].
ومن الأيّام في الأسبوع يوم الجمعة: (خير يومٍ طلعت عليه الشّمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أُدخل الجنّة، وفيه أُخرج منها).
وفي السَّنَة يوم الحجّ الأكبر: (أفضل الأيّام عند الله يوم النّحر، ثمّ يوم القَرَّ).
وفضَّل البقاع بعضَها على بعضٍ، وأفضلُها على الإطلاق البلد الأمين: (والله إنّك لخير أرض الله، وأحبّ أرض الله إليَّ، والله لولا أنّي أُخْرِجْتُ منك، ما خرجت).
وإنّ مما خصَّ الله سبحانه بمزيد فضلٍ من بين الشّهور؛ الأشهر الحُرُم، والّتي ذكرها الله تعالى في كتابه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التّوبة:36].
2- من تعظيم المؤمن لربّه أن يُعظِّم ما عظَّمه
المؤمن الصّادق هو الّذي يعظّم ما عظّمه الله؛ فيعظّم شعائر الله ويمتثل الأوامر ويجتنب النّواهي ويبتعد عن كلّ ما يضرّه ويؤذيه من قولٍ أو فعلٍ، يُسارع إلى الخيرات ويفعل الصّالحات.
وإنّه كلمّا كان العبد لربّه أتقى، كان لشعائره أكثر تعظيماّ، كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب} [الحجّ:32].
فقد نُهينا عن سبّ الدّهر تعظيماً لخالقه والمتصرّف المطلق فيه، أخرج البخاريّ ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسبّ الدّهر، وأنا الدّهر أقلّب الليل والنّهار).
وأُمرنا بتعظيم الأشهر الحرم لأنّ الله تعالى عظّمها، ففي الصّحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في خطبته يوم النحر: (إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّموات والأرض، السّنةُ اثنا عشر شهراً، منها أربعةٌ حُرُمٌ، ثلاثةٌ متوالياتٌ: ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم، ورجبٌ شهر مضر الّذي بين جمادى وشعبان).
وسمّيت هذه الأشهر الأربعة بالأشهر الحرم لعِظم حُرمتها وحُرمة الذّنب فيها، فلنعظّمها ولنعظّم حرمات الله فيها وفي سائر العام، وقد بيّن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعظم بيانٍ في حجّة الوداع؛ فقرّر حُرمة الزّمان وحُرمة المكان وحُرمة الدماء والأموال والأعراض، قال صلّى الله عليه وسلّم في معرض خطبته الطّويلة: (إنّ دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، وستلقَون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا لا ترجعوا بعدي ضلّالاً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت؟ ألا ليبلّغ الشّاهد منكم الغائب، فلعلّ من يبلّغه يكون أوعى له من بعض من يسمعه).
والمسلم مطالَبٌ بتعظيم حرمات الله على الدّوام، لكنّها في هذه الأشهر الحرم تتأكّد أكثر.
يقول القرطبيّ رحمه الله: "خصّ الله تعالى الأربعة الأشهر الحرم بالذِّكر ونهى عن الظّلم فيها تشريفاً لها وإن كان منهيّاً عنه في كلّ زمانٍ".
قال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما: "اختصّ الله أربعة أشهرٍ جعلهنّ حرماً وعظم حرماتهنّ وجعل الذّنب فيهنّ أعظم وجعل العمل الصّالح والأجر أعظم".
وقال كعب رضي الله عنه: "اختار الله الزّمان فأحبّه إلى الله الأشهر الحرم".
3- الأشهر الحُرم بين المغنم والمغرم
الأشهر الحرم بمحطّاتها المختلفة فرصةٌ كبيرةٌ للتّأثير والتّغيير، وإذا تمّ تعظيمها كما أراد الله عزّ وجلّ يمكن أن تُحدث انقلاباً أخلاقيّاً إيجابيّاً كبيراً في المجتمعات المسلمة.
ومن حُرمة هذه الأشهر أنّ الأعمال فيها مضاعفة الجزاء، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ، لذلك أكّد النّهيَ عن الظّلم فيها؛ فقال: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}، والظّلم هنا يشمل المعاصي كلّها؛ كبيرها وصغيرها، بترك الواجبات وفعل المحرّمات، ممّا يتعلّق بحقوق الخالق والمخلوق، وكلّها ظلمٌ للنّفس، لأنّها هي الّتي تُعاقَب بجريرة ما كسبت، ولا يضرّ اللهَ شيئاً، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44].
وقال: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة:57].
والظّلم والمعاصي محرّمة في سائر الشّهور والأيام، ولكن خصَّ هذه الأربعة بزيادة التّحريم وتأكيده، وتشديداً للنّهي عمّا وقعت فيه الكفّار من انتهاك حرمتها، لأجل ذلك كانت مضاعفة الجزاء.
قال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما: "يريد: تحفَّظوا على أنفسكم فيها واجتنبوا الخطايا، فإنّ الحسنات فيها تُضاعف والسّيّئات فيها تُضاعف".
وقال قتادة رحمه الله: "إنّ العمل الصّالح والأجر أعظم في الأشهر الحرم، والذّنب والظّلم فيهنّ أعظم من الظّلم فيما سواهنّ، وإن كان الظّلم على كلّ حالٍ عظيمٌ، ولكنّ الله يعظّم من أمره ما شاء كما يصطفي من خلقه صفايا".
ونظير هذه المضاعفة كثيرٌ، كما قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:30].
لأنّهنّ في حُرمةٍ اكتسبنها من بيت النّبوّة والعلم، فوجودهنّ فيها مظنّة علمهنّ بحدود الله تعالى، ومظنّة الخشوع والحضور والاحتراس. ومن ذلك حرمة المسجد الحرام، فمجرّد إرادة الظّلم فيه يُعاقب عليها: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحجّ:25].
أيّها المسلم: اجعلها (الأشهر الحرم) مدرسةً لك تتعود فيها حبس نفسك عمَّا لا يرضي ربّك سبحانه من الأقوال والأفعال، وحتّى الخواطر، وصَبّر نفسك على فعل الصّالحات ومصاحبة الصّالحين الّذين يدعون ربهم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].
http://shamkhotaba.org