مقدمة:
نريد أن تصفو قلوبنا بعد هذا الكدر الذي أفرزه واقعنا المرير، فإنَّ أساس قضية الأخوة هو صفاء القلب لله، هذا الصفاء الذي يثمر طمأنينة الفؤاد وراحة البال، وهدوءَ الضمير، فلا نرتقب خوف الغدر وحسدَ الأعين وأذى الأيدي وكيدَ القلوب وحقدَ النفوس، إنها ظلال الحب في الله، لا أخوة المصالح وصداقة المنافع التي شاعت في هذا العصر، نحتاج إلى أخٍ كالمرآة الصافية، المؤمن مرآة أخيه، يقيل كلٌ منا عثرات الآخر، يدافع عني وأدافع عنه من ورائه، يقيمني وأقيمه، يعينني وأعينه، فأين هذه الأخوة؟!!
تعالوا بنا –أيها المؤمنون– نعيد بناء صرح الأخوة الشامخ، تعالوا نداوي تلك الآفات؛ فإن نسيجنا الأخوي يحتاج إلى إصلاح وتجديد وصيانة، فتلك الروابط التي كانت تجمع قلوب الأخوة قد بَليت، والحاجة ملحة إلى إعادة إقامتها من جديد.
1- عظمة الدين بأن ربطنا برابط متين (الأخوة)
لقد وضع ديننا الحنيف نظاماً لتعامل أبنائه فيما بينهم، بحيث يثمر مزيداً من الترابط والتآلف؛
لذا جمع الله بين الإيمان والأخوة في آية جامعة، فقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].
إن الأخوة في الله نعمة امتن الله بها على المسلمين الأوائل، فقال سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].
وقال سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال 62- 63].
فربط الله سبحانه وتعالى أبناء هذا الدين برابط الأخوة الإيمانية التي هي وحدها القادرة على جمعهم، وإذا قامت الأخوة على غير الإيمان والتقت على المصالح الدنيوية والمنافع الشخصية فإنه تورث العداوة والبغضاء مع أول صراع على الدنيا يبدو وفي أول تنافس على المغانم وابتغاء المصالح يظهر.
2- أهمية الأخوة الصادقة
وقد يسأل سائلٌ فيقول: لماذا الأخوة؟ والجواب: إننا ندعو إلى الأخوة لإقامة كيان المجتمع المتماسك المتآخي من جديد، لأننا في عصر تقطعت فيه كثيرُ من الصلات الاجتماعية، عصرٌ استُذل فيه المسلمون، وبلغوا من العجز والوهن إلى حد لا يحسدون عليه، عَصرُ الفوضى والغُثائية، عَصْرُ الشتات والفُرقة والعداوات.
فالأمة المسلمة عموماً اليوم -كما تعلمون-، تعاني من تشتتَ صفها، حتى طمِع فيها الضعيف قبل القوي، والذليل قبل العزيز، والقاصي قبل الداني، وأصبحت الآن قصعة مستباحة، والسبب الرئيسي هو أن العالم الآن لا يحترم إلا الأقوياء، ولكننا الآن أمةُ ضعيفة، لأن الفرقة قرينة للضعف والخذلان والضياع، والقوة ثمرة طيبة من ثمار الألفة والوحدة والمحبة، فما ضعفت الأمة بهذه الصورة المَهينة المخزية إلا يوم أن غاب عنها أصل وحدتها وقوتِها، ألا وهو: الأخوة في الله بالمعنى الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، تلكم الأخوة التي حولت الجماعة المسلمة الأولى من رعاة غنم إلى سادة وقادة لجميع الدول والأمم، تجلى هذا الواقع المشرق المضيء المنير يوم أن آخى النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء بين الموحدين في مكة، على الرغم من اختلاف ألوانهم وأشكالهم وألسنتهم وأوطانهم، فآخى بين حمزة عمِّهِ القرشي، وسلمانَ الفارسي، وبلالٍ الحبشي، وصهيبٍ الرومي، وأبي ذر الغِفاري، وكأني بهؤلاء القوم يهتفون بهذه الأنشودة العذبة الحلوة:
أبِي الإسلامُ لا أبَ لِي سواهُ إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم
3- فوائدها وأهميتها
هذا ولنعلم يا عباد الله أن للأخوة الصادقة ثمراتٍ يانعة، منها:
أ- السعادة وحلاوة الإيمان: لقوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الأيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)
فحينئذ يستشعر لذةَ الطاعةِ وتحملَ المشقةِ في رضا الله ورسوله.
ب- أن يُحيطه الله برحمته ويقيه من شدائد يوم القيامة وكربه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)
ومن نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، فمن أدى حق الأخوة أحاطه الله بعنايته ورعايته.
ت- نيل الأمن يوم لا ظل إلا ظل عرش الرحمن: في السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه)
ث- أن يُرزق العبد محبة الله: قال الله في الحديث القدسي: (وجبت محبتي للمتحابين فيّ)
ج- زيادة الدرجات في الجنة: لما أخرجه أحمد والحاكم وصححه عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنه قال لما قضى رسول الله صلى الله عيه وسلم صلاته، أقبل علينا بوجهه وقال: (يا أيها الناس، اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله)، فجاء رجل من الأعراب من قاصية الناس وألوى بيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله! ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله! انعتهم لنا؟ فسُرَّ وجه رسول الله لسؤال الأعرابي، فقال صلى الله عليه وسلم: (هم أناس من أفناء الناس ونوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يصنع الله لهم منابر من نور يوم القيامة، يجلسهم عليها، فيجعل وجههم نورا، وثيابهم نورا، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
4- نماذج مضيئة
ولو قلّبنا صفحات تاريخ أمتنا العظيمة في هذا الأمر لوجدنا نماذج رائعة، ضربت أطهر الأمثلة وأنقاها حيث بلغت بمعاني الإخوة شأنا عظيماً.
فهذا فتح الموصلي يأتي إلى منزل لأخ له كان غائبا، فيأمر جاريته فتخرج صندوق المال فيفتحه ويأخذ حاجته، فلمّا حضر وأخبرته الجارية بذلك، فقال: إن صدقت فأنت حرة لوجه الله، سرورا وفرحا بما فعل!!!
وقد أهدى أحد الصحابة رضوان الله عليهم لأحد إخوانه رأس شاة، فبعثه الأخ إلى رجل ثان، وبعثه الثاني إلى الثالث، وهكذا حتى عاد إلى الأول، بعد أن تداوله سبعة!!
وقد جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم علينا عبد الرحمن بنُ عوف رضي الله عنه، وآخى النبيُ صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، وكان كثير المال، فقال سعْد بن الربيع: قد علمتِ الأنصارُ أني من أكثرها مالا، سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان فانظر أعجبَهُما إليك فأطلقها حتى إذا انتهت عدتها تزوجتها، فقال عبد الرحمن بن عوف: "بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلني على السوق".
وثبت عن أبي بكر رضي الله عنه في حديث الهجرة، حيث طلبوا أهل غنم فأعطوهم لبنا فأخذه أبو بكر رضي الله عنه وناوله النبي صلى الله عليه وسلم ليشرب، فقال أبو بكر: "فما زال النبي صلى الله عليه وسلم يشرب حتى رويتُ، ارتوى أبو بكر قبل أن يشرب".
ونقرأ أيضاً أنه كان على مسروق دين ثقيل، وكان على أخيه خيثمة دين، فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهو لا يعلم، وذهب خيثمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم! يا الله ما أطهر هذه النفوس وما أزكاها، وما أصدق أخوتها في الله سبحانه وتعالى.
إن أخاك الحق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك
ومَن إذا ريب الزمان صدعك شتت فيه شمله ليجمعك
ولا زالت هذه الأمة ولّادة لم ينضب فيها معين الإيمان والأخوة الصادقة، ولو اطلعت إلى ثورة شعبنا العظيم لوجدت أصدق الأمثلة في ذلك فما كان يطيب لأهل بلدةٍ عيشٌ ولا يهنأ له بال إذا مسّت يدُ الإجرام غيرها من البلدات فجسّدوا بحقٍ أخوّة الجسد الواحد الذي إذا مسّ الضر منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى كما قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثلُ الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحمى)
وانطلقت منهم صيحات تأكيد ذلك: واحد... واحد... واحد... الشعب السوري واحد نعم إنهم كلٌ واحد في وجه الظلمة الذين عاثوا في الأرض الفساد.
والواجب علينا العودة إلى ذلك الصفاء وتلك الروح الأخوية الإيمانية فتجتمع الكلمة وترصّ الصفوف ونعود كما أرادنا الله إخواناً.
هذا ولا يفوتنا أن نشير إلى أدبٍ رائعٍ ووصيةٍ كريمةٍ من النبي صلى الله عليه وسلم تبثُّ عبير الأخوة وتنشر الودّ والألفة بين أبناء المجتمع المتآلفين...المتآخين فيقول صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ)
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا إخواناً متحابين، وأن تنصرنا على عدونا نصراً عزيزاً عاجلاً غير آجل.
http://shamkhotaba.org