البركة: النعمة المفقودة
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الخميس 9 نوفمبر 2017 م
عدد الزيارات : 5068
مقدمة:
إننا في عصر يصح أن يوصف بأنه عصرُ سرعةٍ وتقنيةِ ورقميةٍ.
لكن: هل هو عصرُ فضيلة؟! هل هو عصرُ طمأنينة؟! هل هو عصرُ خيرٍ وبركة!؟
كلُّ هذه المخترعات والاكتشافات والعلوم عاجزةٌ عن أن تجلبَ سعادةً أو طمأنينة.
 فحضارةُ هذا العصر جعلتِ الإنسانَ يصنعُ ويبتكرُ... لكنها عجزت عن أن تجعلَه يطردُ شبحَ القلقِ والاكتئاب؛ أو أن تجعلَه يشعرُ بطمأنينةِ نفسِه.
والسرُّ في ذلك كله: أنها حضارةُ مادةٍ، حضارةٌ بهيميةٌ، لا حضارةَ قيمٍ وأخلاق؛ هي حضارةُ الجسد، فقد وفَّرتْ كلَّ السبلِ لراحة الجسد، لكنها جلبتْ كلَّ أسبابِ الشقاءِ للنفس والروح.
إنها باختصار: حضارةٌ ممحوقةُ البركة، فقد يملك الرجلُ المالَ وأسبابَ السعادة، لكنْ لا يشعرُ بأنّ الله بارك له فيه، فليس العبرة فيما تملك، إنما العبرة أن يبارك الله فيما تملك.
وتأملوا: في أنه قد يكون دخلُ شخص ما أو كسبُه قليلا، لكن يبارك الله له فيه، فيمنع عنه الأمراضَ والبلايا، فينعَمُ بقليله؛ وآخرُ قد يكون ما يُحصّله أضعافَ هذا، لكنه لا ينعم به، ولا يبارك الله له فيه، فيشقى لكثرة المصائب والأمراض والرزايا، إما في نفسه أو أهله أو ولده... فيصبح الكثيرُ في يديه قليلا... فانظروا كيف نَعِمَ ذاك بقليلٍ لما كان فيه بركة... وتعب وشقيَ هذا مع كثرةٍ لكنها بلا بركة!!
ألم تتأملوا: قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فانظروا إلى السر في قوله: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ}، فلم يقل: لفتحنا عليهم الأرزاق، بل قال: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ}، وانظروا إلى خصوص كلمة: {بركات} وذلك إشارة إلى أنّ تمام النعمة ليس بمجرد كثرةِ الأرزاق، ولكنّ تمامَ النعمةِ بالبركة في الأرزاق.
إنّ البركة إذا دخلتْ في عملٍ جعلته مثمراً ولو كان بسيطاً قليلاً؛ والبركةُ إنْ فُقدت من العمل، جعلته عقيماً وإن كان كثيراً عظيماً.
إقرؤوا في سِيَرِ مَن بارك الله في أعمارهم وأعمالهم، كيف أنتجوا ما تعجَزُ عنه أعمارنا مجتمعة، إنها البركة.
البركةُ كثرةُ الخيرِ، البركةُ سدادٌ في الرأي... البركةُ توفيقٌ في القصد... البركةُ طمأنينةٌ في النفس... البركةُ عافيةٌ في الجسد... البركةُ كلُّ ذلك، بل أكثر وأكثر.
ألم يقل نبي الله عيسى عليه السلام حين تحدّث بنعمة الله عليه: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ}، ألم يقل زكريا عليه السلام لما دعا ربه أن يرزقه الذرية: {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}، فلم يسأله الذرية فقط، بل سأله الذرية الطيبة، أي المباركة.
كم من أمةٍ قويةٍ غنيةٍ، لكنها تعيش في شِقوة، مهددة في أمنها، تخشى أن تُقطَّعَ أوصالُها، يسودُها قلقٌ، يهدّدها انحلالٌ؛ قوةٌ في خوف...ومتاعٌ بلا رضا...ووفرةٌ من غير صلاح... حاضرٌ نَضِرٌ، ومستقبلٌ مظلمٌ.
البركةُ من الله كثرةُ خيرِه واحسانه إلى خلقه، وسعةُ رحمته؛ البركةُ فيوضُ الخيرِ الإلهيِّ وثبوتُه ودوامُه.
 قال أهل العلم: "ولما كان فضلُ الله لا يُحصى ولا يُحصر، ويأتي للإنسان من حيث لا يحسّ ولا يحتسب، قيل لكل ما يشاهَد منه زيادةٌ غيرُ محسوسة، هو مبارك أو فيه بركة"، والعكس كذلك صحيح.
فالخير كله من الله وإليه وبيديه، فربُّنا سبحانه له كلُّ كمالٍ، ومنه كلُّ خيرٍ، وله الحمدُ كلُّه، وله الثناءُ كلُّه، تبارك اسمه، وتباركت أوصافه، وتبارك فِعالُه، وتباركت ذاته.
 فالبركةُ كلُّها منه وبيده، لا يتعاظَمُه شيءٌ سُئلَهُ، ولا تَنقصُ خزائنُه على كثرةِ عطائه وجزيلِ نِوله؛ أَكُفُّ جميعِ العالمِ إليه ممتدةٌ وتسأله: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}، يمينه ملأى، لا يَغيضُها نفقة، سخّاءَ الليل والنهار، عطاؤه وخيرُه مبذولٌ في الدنيا للأبرار والفُجار، فله الحمد أولاً وأخيراً، ظاهراً وباطنا على خيره الجزيل وفضله العميم وبركاته الدائمة.
إنّ ربنا وضع البركةَ في كثيرٍ من مخلوقاته؛ فالماءُ طَهورٌ مبارك، وفي السُّحور بركة، وبيتُ الله مبارك، وطيبةُ الطيبة مباركة، والمسجدُ الأقصى باركه الله وبارك حوله، والقرآنُ أنزله مباركاً في ليلة مباركة... بل مِن الناس كذلك من جعله الله مباركاً، والمباركُ من الناس -كما يقول العلامة ابن القيم رحمه الله-: " هو الذي يُنتفع به حيث حل {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ}".
لعلَّ نفوسَكم تشوقت وتلهفت إلى معرفة سبيلِ تحصيلِ البركةِ من الله، فاعلموا: أنها لا تُنال إلا بالإيمان والتقوى والصلاح والعدل والرحمة والإحسان.
وانظروا بعينٍ متأمِّلة في خطابِ الله لآدم أبي البشر: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه: 123-124].
فانظروا كيف علّق المعيشةَ الواسعة المباركة على اتباع هداه، وانظروا كذلك إلى خطابه تعالى لأبي البشر الثاني نوحٍ عليه السلام: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} [هود: 48].
فالإيمان والتقوى واتباع الهدى هو الطريق إلى بركات السماء والأرض واستدرارِ الأرزاق والخيرات.
الإيمان والتقوى والصلاح والهدى قوة دافعة تنطلق لعمارة الأرض وابتغاءِ خيراتها وبركاتها، في رقي الحياة ونمائها وتطورها، في دفع الفساد والفتنة، في مسيرةٍ صالحةٍ منتِجة، تحوطها عناية الله وبركاته، ويعمُّها خيرُه وتوفيقه وعنايته؛ فبالصلاح والهدى يَفتحِ اللهُ بركات السماء والأرض، ويأكلُ الناس من فوقهم ومن تحت أرجلهم، في فيضٍ غامرٍ لا ينقطع.
إنّ المؤمن بالله واليوم الآخر لا يخاطر بدنياه ليربح آخرته، إنه بإيمانه يربح الحياتين ويفوز بالحسنين {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30].
حريٌ بالمؤمن أن ينظر ويتأمل في الآثار المباركة للدين والطاعات في حياة المسلم، بل في حياة الإنسانية، وتأملو هذا الحديث العظيم في شأن المتبايعَيْن يقول عليه الصلاة والسلام: (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِى بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) متفق عليه
يصدُقُ البائعُ في وصف سلعتِه وثمنِها، ويصدُقُ المشتري، فيبارك الله لهذا في بيعه ولذاك في شرائه.
بركاتٌ تحوطُ العبدَ حتى في بيعه وشرائه، لكنْ إنْ هو صدَقَ ربَّه.
إنَّ المعاصي تمحق البركة في المعاملات وإن بدت في عددها وكميتها متزايدةً متكاثرةً؛ فمحقُ البركةِ يفضي بها إلى قلة الانتفاع واضمحلالِ عددِها، فانظروا مثلا إلى الربا كيف يكون في ظاهره زيادة ونماء، وفي حقيقته ناقص ممحوق البركة، كما قال سبحانه: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276].
وورد في الصحيح: (إنّ الربا وإن كثُرَ فإنَّ عاقبته تصير إلى قِلّ)
وإنّ الشواهدَ متكاثرةٌ على ما للإيمان والصلاح من آثارٍ وبركاتٍ في النفس والحياة، في الزمان والمكان، في الأهل والدار.
 والمؤمنُ حين يفتحِ اللهُ له من بركاته، يكونُ أثرُهُ منه مِن الشكر لله والرضا عنه وصرفِ النعم في سبيله لا في الشر والإفساد، فيكونُ جزاؤه عليها وزيادةُ النعم والبركات أمانٌ في النفوس وطمأنينةٌ في القلوب ونفع في الممتلكات {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]. 
 

http://shamkhotaba.org