مقدمة:
تُعتبر السّيرة النّبويّة بكلّ ما تحمله في طيَاتها من مواقف وأحداث، أفضل السّير الّتي يمكن للمرء اتّخاذها نهجاً لحياته، والتعرّف من خلالها على الطّريقة المُثلى الّتي يمكن له اتّباعها إذا ما تعرّض إلى موقفٍ حياتيٍّ صعبٍ.
وإنّ سلامة الدّارين -الّتي هي مبتغى كلّ مؤمن- تكمن في اتّباع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والتّخلّق بأخلاقه، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
وإنّنا مع ذكرى ميلاده صلّى الله عليه وسلّم نستعرض قطوفاً من سيرته الزّاكية، وعرضاً لبعض أخلاقه العالية، ففي الاقتداء بها سلامةً وعزّاً للفرد والمجتمع.
1- أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم
خلق رسول الله:
فقد كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أحسن النّاس خُلقاً وأكرمهم وأتقاهم، عن أنس رضي الله عنه قال: "كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أحسن النّاس خُلقًا"
وعن صفيّة بنت حيّيٍ رضي الله عنها قالت: "ما رأيت أحسن خُلقًا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم"
وقالت عائشة رضي الله عنها لمّا سُئلت عن خُلق النّبي عليه الصّلاة والسّلام: "كان خُلقه القرآن"
وقال تعالى مادحاً وواصفاً إيّاه: {وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
عدل رسول الله:
كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أعدل النّاس، فقد استقى عدله من التّربية الإلهيّة، والأخلاق القرآنيّة، بل إنّ عدل رسول الله وسع القريب والبعيد، والصّديق والعدوّ، والمؤمن والكافر، وفي ظلال المنهج العادل للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عادت الحقوق إلى أصحابها وعلم كلّ امرئٍ ما له وما عليه، وشعر النّاس مسلمهم وكافرهم بنزاهة القضاء وعدالة الأحكام.
فهو الّذي نادى بأعلى صوته: (وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)
وأمّا في الحديث عن الرّحمة:
فقد كانت رحمته صلّى الله عليه وسلّم رحمةً عجيبةً، شملت الرّجال والنّساء، الأقوياء والضّعفاء، الأصحّاء والمرضى، الأغنياء والفقراء، الخدم والرّقيق، الإنسان والحيوان، اليهود والنّصارى، حتّى أنّها شملت قوماً خالفوا منهجه، وأنكروا الرّسالة، ورفضوا النّبوّة، وعبدوا غير الله تعالى! إنَّ هذه الرحمة لخير دليل على أنّه كان رحمةً للعالمين، بالمفهوم الشّامل الواسع لكلمة (العالمين)، قال تعالى: {وماَ أرْسْلناكَ إلَّا رحمًة للْعاَلمين} [الأنبياء: 107].
وكان من دعائه صلّى الله عليه وسلّم: (اللهم من وليَ من أمرِ أمّتي شيئاً، فشقَّ عليهم، فاشقُق عليه، ومن ولي من أمر أمّتي شيئاً، فرفق بهم، فارفق به)
وفي مقام الشّجاعة:
كان صلّى الله عليه وسلّم أشجع النّاس وأصبرهم، بل كان المثل الأعلى في الشّجاعة، فقد فرّت منه جيوش الأعداء وقادة الكفر في كثيرٍ من المواجهات الحاسمة، بل كان يتصدّر صلّى الله عليه وسلّم المواقف والمصاعب بقلب ثابتٍ وإيمانٍ راسخٍ، قال البراء بن عازب رضي الله عنهما: "كنّا واللهِ إذا احْمَرَ البأس نتّقي به، وإِنّ الشّجاع منّا لَلّذي يُحاذي به -يعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم-"
وأمّا في تواضعه صلّى الله عليه وسلّم:
فقد كان يجيب دعوة الحرّ والعبد والغنيّ والفقير، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر.
وكان صلّى الله عليه وسلّم سيّد المتواضعين، يتخلّق ويتمثّل بقوله تعالى: {تِلْكَ الدّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ} [القصص: 83].
كان أبعد النّاس عن الكِبر، فقال: (لا تُطروني كما أطرت النّصارى ابن مريم، إنّما أنا عبدٌ فقولوا عبد الله ورسوله)
محذّراً منه أيّما تحذيرٍ قائلاً: (لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال ذرّةٍ من كبر)
ومن أبرز مظاهر تواضعه صلّى الله عليه وسلّم ما نجده في تعامله مع الضّعاف من النّاس وأصحاب الحاجات؛ كالنّساء، والصّبيان، فلم يكن يرَ عيباً في نفسه أن يمشي مع العبد، والأرملة، والمسكين، يواسيهم ويساعدهم في قضاء حوائجهم، بل فوق هذا، كان عليه الصّلاة والسّلام إذا مرّ على الصّبيان والصّغار سلّم عليهم، وداعبهم بكلمةٍ طيّبةٍ، أو لاطفهم بلمسة حانيةٍ، "كانت الأمَة من إماء المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتنطلق به حيث شاءت"
زهده صلّى الله عليه وسلّم:
كان صلّى الله عليه وسلّم أزهد النّاس في الدّنيا وأرغبهم في الآخرة، خيّره الله تعالى بين أن يكون ملكاً نبيّاً أو يكون عبداً نبيّاً فاختار أن يكون عبداً نبيّاً.
كان ينامُ على الفراش تارةً، وعلى النِّطع تارةً، وعلى الحصير تارةً، وعلى الأرض تارًة، وعلى السّرير تارةً بين رِمَالهِ وتارة على كِساء أسود.
وكان ينقضي الشّهر والشّهران ولا يُوقَد في بيتٍ من بيوته نار ليطبخ، وإنّما كان أكثر طعامه التّمر، عن عروة رضي الله عنه قال: عن عائشة رضي الله عنها أنّها كانت تقول: "والله يا ابن أختي كنّا لننظر إلى الهلال ثمّ الهـلال ثـلاثة أهلّةٍ في شهرين ما أوقـد في أبيـات رسـول الله صلّى الله عليه وسلّم نارٌ"، قلت: يا خالة فما كان عيشكم؟ قالت: "الأسودان، التّمر والماء"
وربّما ربطَ على بطنه الحجر من الجوع، وبات هو وأهله الليالي طاوين، متقلِّلين من أمتعة الدّنيا ومظاهرها، عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنه قال: "كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاءاً، وكان أكثر خبزهم الشّعير"
كرم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
لقد كان كرم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لوناً جديداً لم يعرفه العرب، ولم يألفه غيرهم، فلم يكن كرمه لكسب َمحمَدةٍ أو اتّقاء منقصةٍ، ولم يكن للمباهاة أو الاستقلال، أو لاجتلاب المادحين، بل كان في سبيل الله وابتغاء مرضاته، كان في حماية الدّين، وفي مؤازرة الدّعوة، وفي محاربة الّذين يصدّون عن سبيل الله، فهو يعطى أحوج ما يكون إلى ما يعطيه، ويبذل الكثير وهو محتاجٌ إلى القليل، وكان ينفق في سبيل الله ما استطاع أن ينفق، وهو يستقلّ ما أنفق، وكان يعطى العطاء الجزيل، فلا يستكثر ما أعطى، وما سُئل عن شيءٍ قطّ إلّا أعطاه، وكان يستحي أن يردّ سائله خالي اليدين.
أتاه صلّى الله عليه وسلّم رجلٌ فسأله، فأعطاه غنماً سدّت ما بين جبلين، فرجع إلى قومه وقال: "أسلموا فإنّ محمداً يعطى عطاء من لا يخشى الفاقة".
النّبيّ الصّابر صلّى الله عليه وسلّم:
كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أصبر النّاس على الأذى، وكان حظّه من البلاء هو النّصيب الأوفر، فلا يزيده إيذاء المشركين ومضايقتهم له إلّا حماسةً لدعوته وإصراراً عليها، وكلّما أمعنوا في إيذائهم له، احتمله في ثباتٍ وجلدٍ وصبرٍ، حتّى صار أعداءُ الأمس أصدقاءَ اليوم، وأقبل المشركون على دين الله أفواجاً يحملون شعاره، ويفدونه بأغلى ما يفتدى به عزيز.
ولك أن تتخيّل أيّها المسلم أنّ كلّ لونٍ من ألوان البلاء الّذي تعيشه اليوم، بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد عاش مثله أو أشدّ منه، ولنا في رسول الله أسوةٌ وقدوةٌ.
أخرج ابن سعد عن أنس رضي الله عنه قال: رأيت إبراهيم وهو يجود بنفسه بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدمعت عينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: (تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلّا ما يرضي ربّنا، والله يا إبراهيم إنّا بك لمحزونون)
وفي مقام العبوديّة:
فقد كان صلّى الله عليه وسلّم يعرف حقّ ربّه عزّ وجلّ عليه وهو الّذي قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر على الرّغم من ذلك كان يقوم الليل حتى تتفطّر قدماه، ويسجد فيدعو، ويسبّح ويدعو، ويخشع لله عزّ وجلّ حتى يُسمع لصدره أزيزٌ كأزيز المِرجل، عن عبد الله بن الشّخير رضي الله عنه قال: "أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلّي ولجوفه أزيزٌ كأزيز المِرجل من البكاء"
وعن عائشة رضي الله عنها أن نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقوم من الليل حتّى تتفطّر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً)
2- حبُّ النبي صلى الله عليه وسلم باتباعه
هذه نبذةٌ يسيرةٌ، وقطرةٌ من بحرٍ، فليس لكاتبٍ أو محقّقٍ أو مؤرّخٍ أن يحيط بشمائل المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، أو بزاويةٍ من زوايا خصاله الفاضلة الطّاهرة.
ويجب على المؤمن أن يعرف للنّبيّ صلّى اللهُ عليه وسلّم منزلته وقدره، روى البخاريّ في صحيحه مِن حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من ولده، ووالده، والنّاس أجمعين)
وإنّ أكبر برهانٍ على المحبّة هو الاتّباع، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [آل عمران: 31].
وجديرٌ بالمسـلمين في هذا العصر وهم يحاولون تخطِّي العثرات، والنّهوض بأنفسهم إلى المعالي أن يلتمسوا نماذج حيّةً من أخلاق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وسلوكه؛ لأنّ تاريخ البشريّة لم يعرف مربّياً ومصلحاً مثله صلّى الله عليه وسلّم، كملت حياته بأنبل دروسٍ للإنسانيّة، بما اشتملت عليه أخلاقه من صبرٍ، وزهدٍ، وعفوٍ، وإباءٍ، وبرٍّ، ووفاءٍ، وصدقٍ، وإخلاصٍ، وذوقٍ اجتماعيٍّ، وخلق كريمٍ فاضل يعجز المُحصي عن إحصائه، وصدق الله الذي قال عنه: {وإنّك لعلى خلقٍ عظيمٍ}.
http://shamkhotaba.org