مقدمة:
الحياة الطيبة مطلب عظيم لكل الناس، وهي ليست عروقاً تنبض فيها الدماء ولا أعصاباً تنتقل فيها الأحاسيس فحسب، ولكنها قلوب عرفت ربها فاستغنت به عمن سواه، إنها سمو الإنسان عن حاجات جسده، والاستجابة لحاجات نفسه الخالدة دون أن ينسى حقوق الآخرين، إنها راحة بال وعافية بدن، وتوافر حاجة، وسمو مكانة، وطيب زوجة، وصلاح ذرية، إنها حياة في رحاب الإيمان، والعيش في طاعة الله الرحيم الرحمن.
1- واقع صعب قاسٍ، وأصناف الناس في نظرهم لهناءة الحياة
يعيش الناس -في بلدنا الحبيب سورية خصوصاً والعالم عموماً- أياماً عصيبة ولا شك، ظلم في الوطن وتهجير، قصف وتدمير، خذلان من الإخوة، وتنكرٌ وتعدٍّ من البعيد، وتآمر أممي لم ترَ البشرية مثيلاً له على مرّ الزمان.
يضاف لذلك ضنك العيش، وفقر ذات اليد، لتضيق على الإنسان نفسه التي بين جنبيه، بل والأرض بما رحبت.
والناس –كل الناس- ولا ريب تسعى لحياةٍ هانئةٍ وادعةٍ طيبة، وهم في النظر لهذه الحياة مختلفون وعلى كافة مستوياتهم، والكثير منهم يرى أن هذه الحياة لا تكون إلا بحيازة أرقام المال ذات الأصفار الضخمة، يعتقد أن سعادته تزيد مع زيادة كل صفرٍ منها، وهناك صنف آخر يرونها في الحصول على المناصب والجاه فيسعون إلى ذلك ويسلكون كل السبل التي توصلهم إلى هذا المقصود، يحبون من ناصرهم ومن نافق لهم، ويبغضون ويكرهون من نصح لهم وأخلص.
ثم صنف ثالث من الناس يرى أن الحياة الطيبة هذه تكون في إطلاق عنان النفس على الشهوات والملذات، حتى ولو كان في معصية الله تبارك وتعالى فتراهم يرتعون ويسرحون ويمرحون في سبيل ذلك.
2- معنى الحياة الطيبة
بعد أن رأينا تلك الأصناف واختلاف الأفهام في معنى الحياة الطيبة، تعالوا بنا نتعرّف على ما تتحصل به هذه الحياة، وما يتحصّل به انشراح الصدر، وسكون النفس، وقرَّة العين، يدلنا على ذلك مَن خَلَقَنا سبحانه وتعالى إذ يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
ها هو كلام ربنا يدلنا على الطريق الواضح أنه في أمرين، يقول سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} من لا إيمان له، ولا عمل صالح؛ فوالله إنه في عيشةٍ ضنكة، وحياةٍ نكدة، ولو مَلَكَ من القصور ما مَلَك، ولو عانق من الثراء قمم الفلك، ولو تولى المناصب وحاز الرتب ما فاق بها الأحياء ومن هلك.
وإن غير المؤمن لا سعادة له ولا طمأنينة ولا سكينة كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].
رُوِي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن جماعة من الصحابة والتابعين، أنهم فسروا الحياة الطيبة بالرزق الحلال الطيب.
وروي عن علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه أنه فسَّر الحياة الطيبة بالقناعة.
وروي عن علي بن أبي طلحة أنها فُسِّرت بالسعادة.
وروي عن الحسن وغيره من العلماء، قالوا: "لا يطيب لأحدٍ حياةٌ إلا في الجنة؛ لأن الحياة الطيبة المرادة هنا هي الحياة الطيبة في الآخرة".
ورُوِي عن الإمام الضحَّاك رحمه الله أنه قال: "الحياة الطيبة هي الرزق الحلال، والعبادة في الدنيا".
والواضح أن ذلك كله داخلٌ في مفهوم الحياة الطيبة.
وهذا ما أشار إليه العلامة الحافظ ابن كثير رحمه الله، قال: "إن الصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله، ولذا فمما تقرره هذه الآية الكريمة، وما جاء في معناها من نصوص شريفة، أن الحياة الطيبة ليست كما يسبق إلى مفهوم كثيرٍ من الناس أنها مرتبطةٌ بالمال، نعم المال وجهٌ من وجوه السعادة، لكن يمكن أن يقوم بغيرها، نعم المال وجهٌ من وجوه السعادة، لكن مع وجود نظرةٍ مستقيمةٍ متوازنة إليه؛ لأنه ربما كان المال سببًا لشقاء صاحبه، فقد يكون التاجر الذي يملك الأموال الطائلة مُصبحًا وممسيًا في شقاءٍ لا يعلمه إلا الله، فهو يكد ليجمع المال، ثم يكد ليحفظه ويحافظ عليه، فيصبح ويمسي في الشقاء والصعوبات، يُصبح ويمسي في شقاق ومنازعات، وربما أمضى حياته كلها على هذه الحال".
3- نماذج عاشت هذه الحياة
سيدنا بلال رضي الله عنه وأرضاه: يوم ذاق حلاوة الإيمان فكان يُسحَبُ على الصخور وهو يقول: "أحدٌ أحد.. أحدٌ أحد"، يُسحب على الرمال، ويُجر على وجهه وهو يقول: أحدٌ أحد؛ ولما سُئِلَ عن سبب صبره وجلده حين كان صناديد قريش يعذبونه قال: "مَزَجْتُ حلاوة الإيمان بمرارة العذاب فغَلَبَتْ حلاوة الإيمان مرارة العذاب".
إبراهيم بن أدهم: يأخذ كسرة الخبز ثم يغمسها في نهر الأردن ويقول لأحد أصحابه: "يا أبا يوسف لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم والسرور لجالدونا بالسيوف أيامَ الحياة على ما نحن فيه من لذيذ العيش، وقلَّة التعب"
فأيُّ عيش طيب يعني؟!، وأيُّ سعادة يتحدث عنها وهو يملك كسرة الخبز في يده؟!، إنه عيش الإيمان، وسعادة الرضا بما قدَّره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى معلقاً على هذا الخبر في كتابه صيد الخاطر: "ولقد صدق ابن أدهم، فإن السلطان إن أكل خاف أن يكون قد طُرح له فيه سُمٌّ، وإن نام خاف أن يُغتال".
وقد قال البعض: "مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطْيَب ما فيها"، قالوا: وما أطيب ما فيها؟ قال: "محبَّة الله والأُنْس به".
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: مضرب الأمثال في سكينة النفس، وعزيمة الإيمان، فسُجن فقال: "المأسور من أسره هواه"، وقال مرةً: "المحبوس من حُبِس قلبه عن ربِّه".
ويقول بعدها: "ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنَّتي وبستاني في صدري، أين رُحتُ فهي معي لا تفارقني، إنَّ حبسي خلْوة، وقَتْلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة". سبحان الله!
4- كيف نحصّل الحياة الطيبة؟
الإيمان واليقين وحسن التوكل على الله: قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2-3].
يقول نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان: من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً)
الرضا بما قضى الله وقدّر: قال تعالى: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145].
وقال صلى الله عليه وسلم: (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمه، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له)
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (من جعل الهموم همًّا واحدًا همَّ آخرته كفاه الله همَّ دنياه، ومن تشعَّبت به الهمومُ في أحوال الدنيا لم يُبال الله في أيِّ أوديتِه هلك)
فالرضا يكسب القلب طمأنينة وسكينة تجعل هموم الدنيا وغمومها تهون في نظر صاحبها، فيرى المنح في المحن والفرج في الشدة والسعة في الضيق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)
فهم حقيقة الوجود: فقد أراحنا الله سبحانه وتعالى من التفكير في هذا السرّ الكبير والذي زلت به العديد من الأقدام حين أجابنا عن سرّ وجودنا وخلقنا فقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].
ثم قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
فقد خلقنا الله لعبادته وإعمار الأرض بما يرضيه سبحانه وتعالى، وتحديد هذه المهمة كفيل بتحقيق هناءة الإنسان وحصوله على الحياة الطيبة.
الإحسان إلى الخلق: حثنا الدين الحنيف على حسن الخلق مع جميع الناس، وجعل من ذلك عنواناً لصحة الإيمان واستكماله، فعن أبى إدريس الخولانى عن أبى ذر قال، قلت يا رسول الله: أي المؤمنين أكمل إيماناً، قال: (أحسنهم خلقاً).
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأرشدهم إلى حسن الخلق فعن أبى ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن)
الصلاة من أعظم الأسباب لتحقيق الحياة الطيبة: فهي تشرح الصدرَ، وتُذهب ضيقه، وتُرسل في القلب نبضاتِ الطمأنينة والراحة، فلا يزال العبد كأنَّه في سجنٍ وضيق حتى يدخل فيها، فيستريح بها لا منها. تمدّ العبدَ بقوةٍ إيمانية، تعينه على مهماتِ الحياة ومصائبها، بها تزول الهمومُ والغموم والأحزان، قال تعالى في قرآنه الكريم: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَـاشِعِينَ} [البقرة: 45].
وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى.
دوامُ الذكر: فالذكر طمأنينة للقلب، أمانٌ للنفس، حفظٌ لها من الشرور. والقلبُ الممتلئ بذكر الله قلبٌ قويّ، لا يخاف غيرَ الله، ولا يخشى أحدًا إلا الله؛ لأنه يستشعر دائمًا معيةَ الله ونصرتَه، فهو سبحانه القائل في الحديث القدسي: (أنا مع عبدي ما ذكرني وتحرّكت بي شفتاه)
اللهم اجعلنا من أهل السعادة والحياة الطيبة في الدارين، وفرّج كرب كل مكروب، وانصرنا على من ظلمنا.
http://shamkhotaba.org