أهدهد ونملة يسبقانك؟!
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الخميس 1 فبراير 2018 م
عدد الزيارات : 2619
مقدمة: 
في ظل ما يمر به شعبنا الشامي البطل من أزمات ومعضلات وتخاذلات من القريب والبعيد مما يؤدي إلى شيوع ظلامية السلبية وسوداويتها تقعده عن مكارم الأمور ومعالي المبادرات، كان كلامنا اليوم عن الإيجابية التي نحتاجها في كافة مؤسساتنا ومدارسنا وأسرنا على طريق الوصول لتحقيق العبودية الحقة لربنا سبحانه وتعالى.
1- المسلم بين الإيجابية والسلبية
الإيجابية تعني أن يكون المسلم فيضاً من العطاء قوياً في البناء، ثابتاً حين تدلهم الخطوب، لا ييأس حين يقنط الناس، ولا يتراخى عن العمل حين يفتر العاملون، يصنع من الشمعة نوراً، ومن الحزن سروراً، متفائلاً في حياته، شاكراً في نعمائه، صابراً في ضرائه، قانعاً بعطاء ربه له، مؤمناً بأن لهذا الكون إلهًا قدّر مقاديره وصرف شؤونه كلها.
وهي أيضا أي الإيجابية: حالة في النفس تجعل صاحبها مهمومًا بأمر ما، ويرى أنه مسؤول عنه تجاه الآخرين، ولا يألو جهدًا في العمل له والسعي من أجله، وهي تحمل معاني التجاوب، والتفاعل، والعطاء، فالشخص الإيجابي: هو الفرد، الحي، المتحرك، المتفاعل مع الوسط الذي يعيش فيه.
أما السلبية: فإنها تحمل معاني التقوقع، والانزواء، والبلادة، والانغلاق، والكسل. 
والشخص السلبي: هو الفرد البليد، الذي يدور حول نفسه، لا تتجاوز اهتماماته أرنبة أنفه، ولا يمد يده إلى الآخرين، ولا يخطو إلى الإمام.
والمجتمع السلبي الذي يعيش فيه كل فرد لنفسه على حساب الآخرين مجتمع زائل لا محالة، كما أن المجتمع الإيجابي مجتمع راقٍ عالٍ لا شك، فالفرق بين السلبي والإيجابي هو كالفرق بين الليل والنهار، وكالفرق بين الجماد والكائن الحي، وكالفرق أيضًا بين الوجود والعدم. والدليل على هذا قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:76].
لقد سمى الله السلبي في هذه الآية: {كَلٌّ}، والإيجابي بـ: {يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}.. {كَلٌّ} أصعب من سلبي؛ لأن سلبي معناها غير فعال أما كلّ فمعناها الثقيل الكسول وقبل هذا فهو {أَبْكَم} لا يتكلم ولا يرتفع له صوت، وهذا عبء على المجتمع؛ لأن النظرة التشاؤمية هي الغالبة عليه في كافة تصرفاته، وهذا الشخص ضعيف الفاعلية في كافة مجالات الحياة، ولا يرى للنجاح معنى، ولا يؤمن بأن مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة، بل ليس عنده همة الخطوة الأولى، ولهذا لا يتقدم ولا يحرك ساكناَ وإن فعل في مرة يتوقف مئات المرات. 
وهذه الشخصية مطعمة بالحجج الواهية والأعذار الخادعة بشكل مقصود، وهو دائم الشكوى والاعتراض والعتاب والنقد الهدام، وأما الآخر فإنه {يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} فهو هنا الشخصية المنتجة في كافة مجالات الحياة حسب القدرة والإمكانية، المنفتحة على الحياة ومع الناس حسب نوع العلاقة، ويمتلك النظرة الثاقبة.. ويتحرك ببصيرة {بِالْعَدْلِ} فهو يوازن بين الحقوق والواجبات (أي ما له وما عليه) مع الهمة العالية والتحرك الذاتي، والتفكير دائما لتطوير الإيجابيات وإزالة السلبيات، هل من المعقول أن يتساوى هذا وذاك؟ لا يستوون. 
2- إكسير الأمم
بما أن السلبية هي أخطر آفة يصاب بها الفرد أو المجتمع، فهذا يعني أن الإيجابية هي أهم وسيلة لنهضة أي أمة، فمن الحقائق المسلّم بها أن نهضة الأمم تقوم على أفراد إيجابيين مميزين بالأفكار الطموحة والإرادة الكبيرة، كما أنها نجاة من هلاك الأمم والشعوب قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117]. 
ولم يقل صالحون إنما قال مصلحون.
وهناك فارق بين صالح ومصلح، فالصالح صلاحه بينه وبين ربه، أما المصلح فإنه يقوم بإصلاح نفسه ودعوة غيره. فالمسلم الإيجابي عندما تعرض له مشكلة يفكر في الحل فهو يرى أن كل مشكلة لها حل، والسلبي يفكر في أن المشكلة لا حل لها، بل يرى مشكلة في كل حل. 
المسلم الإيجابي لا تنضب أفكاره والسلبي لا تنضب أعذاره، كذلك المسلم الإيجابي يرى في العمل والجد أملا والسلبي يرى في العمل ألما. 
والمسلم الإيجابي يصنع الأحداث والسلبي تصنعه الأحداث، والمسلم الإيجابي ينظر للمستقبل والسلبي يخاف المستقبل، كما أن المسلم الإيجابي يزيد في هذه الدنيا أما السلبي فهو زائد عليها. 
إيجابية الرسول في تطلعه للمستقبل: لما اشتد الأذى على رسول الله بعد وفاة أبي طالب وخديجة رضي الله عنها خرج إلى الطائف فدعا قبائل ثقيف إلى الإسلام فلم يجد منهم إلا العناد والسخرية والأذى ورموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه فقرر الرجوع إلى مكة، قال: (انطلقت -يعني من الطائف- وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب -ميقات أهل نجد- فرفعت رأسي فإذا سحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام)، فناداني فقال: "إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك وقد أرسل لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم". ثم ناداني ملك الجبال: "قد بعثني إليك ربك لتأمرني بما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين -جبلان بمكة-"، فقال رسول الله: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً) متفق عليه.
وقد وقع الأمر كما تمناه النبي وخرج من صلب فرعون الأمة أبي جهل عكرمةُ رضى الله عنه، وخرج من صلب الوليد بن المغيرة المبشر بالنار في سورة المدثر سيفُ الله المسلول خالد بن الوليد. 
وهكذا المسلم يرى الأمل دائما غير منقطع وينظر إلى الواقع وإن اشتد عليه بايجابية وتفاؤل. وفي الحديث: (من قال هلك الناس فهو أهلكهم). رواه مسلم
فهو أهلكهم أي أشدهم هلاكاً. 
في هذا الحديث يبين صلى الله عليه وسلم عظم من قال في الناس أنهم هلكى، لأن في ذلك القول حكما على عموم الناس بالهلاك وهو أمر غيبي لا يستطيع أحد الاطلاع عليه إلا بالوحي، والوحي قد انقطع من السماء، فكان جزاؤه أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن القائل بذلك أنه أهلك الناس وأفسدهم، وهذا على رواية الرفع (بضم الكاف من أهلكهم). 
أما على رواية النصب (بفتح الكاف من أهلكهم) فمعناها أنه أهلك الناس بكلامه ذلك وقنطهم من رحمة الله تعالى. 
قال الحافظ ابن عبد البر: "هذا الحديث معناه لا أعلم خلافاً فيه بين أهل العلم أن الرجل يقول ذلك القول احتقارًا للناس وازدراء بهم وإعجابًا بنفسه، وَأَمَّا إِذَا قَالَ ذَلِكَ تَأْسُّفًا وَتَحَزُّنًا وَخَوْفًا عَلَيْهِمْ لِقُبْحِ مَا يَرَى مِنْ أَعْمَالِهِمْ فَلَيْسَ مِمَّنْ عُنِّيَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ" الاستذكار 8/549
وقال الخطابي: "معنى هذا الكلام أن لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساوئهم ويقول قد فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك من الكلام، يقول صلى اللّه عليه وسلم: (إذا فعل الرجل ذلك فهو أهلكهم) وأسوأهم حالاً مما يلحقه من الإثم في عيبهم والازدراء بهم والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه فيرى أن له فضلاً عليهم وأنه خير منهم فيهلك" معالم السنن 4/132
فانظروا إلى هذا القول فقط كيف يؤدي بالمرء إلى الهلاك والخسران، وهو مجرد قول لا مساس فيه بأموال الناس ودمائهم وأعراضهم، وكل هذا لأن قائل هذا القول نظرته للمجتمع سوداوية، لا أمل فيها. 
3- أيقونات الإيجابية في القرآن
لقد قص الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أروع القصص، سنذكر منها هنا ثلاثة أمثلة بما يشهد لموضوعنا: 
قصة مؤمن القرية: قال الله عز وجل: {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20]. 
{وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} لم يمنعه بُعد المكان أن يأتي ليبلغ دعوته، وينشر معتقده، فقد جاء من أقصى المدينة! والغالب أن من يسكن أقصى المدينة هم ضعفاء الناس وفقراؤهم ولم يمنعه ذلك من إتيان قومه لدعوتهم ونصحهم، {رَجُلٌ} ورجل هنا نكرة أي أنه من عامة الناس وليس من وجهائهم، {يَسْعَى} ولم يأتِ ماشياً! فإن ما قام في قلبه من الهمة العالية، والرغبة، في نقل ما عنده للآخرين، حمله على أن يسعى، {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} فلم يكتف بوجود ثلاثة رسل وإنما جاء بنفسه ليدعو قومه ويرغبهم في اتباع المرسلين، ثم يبين دليل صدق أنبيائهم {اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ} [يس:21].
ثم يسوق الحجج العقلية، فيقول: {وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس:22-25]. 
هذا مثال لمؤمن حمله إيمانه الحق الصادق، على أن يجهر بدعوته، صريحة، واضحة، بين الناس، ونادى بملء فيه: {إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} فقتله قومه.
والقصة لم تنتهِ عند هذا الحد! قتل الرجل وبشرته الملائكة بالجنة {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26]. 
سبحان الله! حتى بعد الموت، والفوز بالجنة، لا يزال في قلبه الشعور بالرغبة في العطاء، والنصح للآخرين، ولم يشمت بهم، وإنما تمنى أن يعلم قومه بعاقبته، لعل ذلك يحملهم على أن يقبلوا نصحه. 
قال ابن عباس: "نصح قومه في حياته بقوله: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ وبعد مماته في قوله: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}. 
إيجابية نملة: يقول تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل:18].
سليمان نبي الله هو وجيشه يمشون في الطريق وأمامهم مجموعة من النمل يسعون لطلب الرزق.. تحملت نملة واحدة مسؤولية الإنذار والتحذير وصاحت في النمل: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} واعتذرت عن سليمان وجنوده فقالت: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}. 
{قَالَتْ نَمْلَةٌ} نملة نكرة ليست معرفة! ومن ثم فأي واحد منا يتحمل المسؤولية يكون موضع تقدير واحترام لأنه يصبح إيجابياً.
قصة الهدهد: يقول تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [النمل: 20].
بعد هذا الكلام جاء الهدهد من سبأ بنبأ يقين، سمع الهدهد بأن قومًا يعبدون الشمس، بمملكة سبأ باليمن، وهو في فلسطين، أي على بعد مسافة كبيرة من اليمن، فطار إلى اليمن يتفقدهم، حتى أنه ذهب إلى عرش الملكة وعاد بالأخبار، ليصبح سببًا في هداية أمة. 
أيها الإخوة المؤمنون: إن الآفة التي أصابت الأمة حتى العقلاء الفاهمين منها هي آفة أنه واقف إلى أن يؤمر، سلبيٌ إلى أن يُحرَّك، ينتظر مَن يقول له افعل أو لا تفعل، وفي هذا كأنما احتقر عظيمًا وهبه الله إياه، فعطَّل في نفسه الذاتية، والإيجابية، والتفكير في مصير الأمة، وعطل في نفسه معنى المشاركة، واحتقر في نفسه أن يصلح ما يستطيع إصلاحه دون أن يأتيه أمر بإصلاحه، وهذه الآفة التي يقع فيها كثير من الناس حتى الملتزمون والعاملون في المجال الدعوي لله تبارك وتعالى هي التي أصابت العمل الإسلامي بشتى مفاصله  بنوع من الفتور في كثير من الأحيان، هذه هي الذاتية التي استشعرها الهدهد، فلم ينتظر إذنًا من أحد وقام غِيرةً على دين الله، قام لكي ينظر أين دين الله في هؤلاء الناس. 
4- الإيجابية في السنة
لقد حض الرسول صلى الله عليه وسلم على الاختلاط بالناس، وحضور جُمَعِهم ومجالس الذكر وزيارة المريض وحضور الجنائز ومؤاساة المحتاج وإرشاد الجاهل، واهتم صلى الله عليه وسلم بالمواقف الإيجابية والأخلاق النبيلة التي كان يتمتع بها غير المسلمين في عصره مع التأكيد على أن من الضروري أن يشترك المسلم بالعمل الإيجابي من أي جهة أتى بل و يبادر إلى ذلك، مثل حلف الفضول الذي اهتم بنصرة المظلومين والفقراء، وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا لو دعيت به في الإسلام لأجبت) السنن الكبرى/13080
والسعي في نفع الناس جميعًا كان ملازمًا للنبي صلى الله عليه وسلم حتى قبل البعثة، فقد استدلت خديجة على أن ما حصل في غار حراء لا يمكن أن يكون شرًا للنبي صلى الله عليه وسلم، 
فقالت له رضي الله عنها: "كلا والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكَلَّ وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق" الجامع الصحيح للسنن والمسانيد/148
ومعنى "تحمل الكَلَّ" يدخل فيه الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك، وهو من الكلال أي الإعياء، أما قولها "وتكسب المعدوم" تكسب غيرك المال المعدوم أو تعطيه إياه تبرعا، "تَقْري الضيف" تكرمه، يقال للطعام المقدم للضيف قِراً، "وتعين على نوائب الحق" جمع نائبة وهي الحادثة، أي ما يحدث في الناس من المصائب. 
وكما في قصة مساعدة النبي صلى الله عليه وسلم لبدوي غير مسلم ليسترجع دَيْنا له من أبي جهل رأس الكفر، فلم يمنع عدم إسلام الطرفين من بذل الجهد في عمل إيجابي.
قدم رجل من أراش (اسم قبيلة) بإبل له بمكة، فابتاعها منه أبو جهل، فمطله بأثمانها -تأخر متعمدًا-، فأقبل الأراشي حتى وقف على ناد من قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية المسجد جالس، فقال: "يا معشر قريش، من رجل يؤديني على أبي الحكم بن هشام فإني رجل غريب، ابن سبيل، وقد غلبني على حقي"، قال: فقال له أهل ذلك المجلس: أترى ذلك الرجل الجالس -لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يهزؤون به لما يعلمون بينه وبين أبي جهل من العداوة- اذهب إليه فإنه يؤديك عليه، فأقبل الأراشي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا عبد الله، إن أبا الحكم بن هشام قد غلبني على حق لي قَبِله، وأنا رجل غريب ابن سبيل، وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤديني عليه، يأخذ لي حقي منه، فأشاروا لي إليك، فخذ لي حقي منه يرحمك الله"، قال: انطلق إليه وقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قام معه قالوا لرجل ممن معهم: اتبعه فانظر ماذا يصنع، قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فضرب عليه بابه فقال: من هذا؟ فقال: (محمد فاخرج إلي)، فخرج إليه وما في وجهه من رائحة، قد انتقع لونه، فقال: (أعط هذا الرجل حقه)، قال: نعم، لا تبرح حتى أعطيه الذي له، قال: فدخل فخرج إليه بحقه فدفعه إليه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال للأراشي: (إلحق بشأنك)، فأقبل الأراشي حتى وقف على ذلك المجلس، فقال: "جزاه الله خيراً فقد والله أخذ لي حقي"، قال: وجاء الرجل الذي بعثوا معه، فقالوا: ويحك ماذا رأيت؟ قال: عجباً من العجب، والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه، فخرج إليه وما معه روحه، فقال له: أعطِ هذا حقه، فقال: نعم لا تبرح حتى أخرج إليه حقه، فدخل فخرج إليه بحقه، فأعطاه إياه، قال: ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء، فقالوا: ويلك مالك والله ما رأينا مثل ما صنعت قط، قال: ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب عليّ بابي وسمعت صوته، فملئت منه رعبًا، ثم خرجت إليه، وإن فوق رأسه لفحلًا من الإبل ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط، والله لو أبيت لأكلني. سيرة ابن هشام 1/389
كما أن الأحاديث النبوية تحثنا على هذه القيمة العظيمة، فيقول صلى الله عليه وسلم: (إذَا قَامَتْ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا)، فَسِيلَةٌ: أي نخلة صغيرة، (فإن استطاع أن لا يقوم) من محله أي الذي هو جالس فيه، (حتى يغرسها فليغرسها)، مبالغة في الحث على فعل الخير كغرس الأشجار، فكما غرس لك غيرك فانتفعت به فاغرس لمن يجيء بعدك لينتفع وإن لم يبق من الدنيا إلا القليل. 
5- واقعنا والإيجابية
إنه من البديهي والمشاهد سيطرة نظرة سوداوية على الساحة الإسلامية تروِّج إلى صعوبة إمكانية التغيير وتدعو إلى الإحباط وعدم الحماسة حيال أي مشروع نهضوي يقوم به فرد أو مجموعة، وهنا نذكر أن هذه الفكرة المغلوطة، تم دحضها في السنوات الأخيرة حينما رأينا شبابا ورجالا ونساء انتفضوا في وجه الظلم رغم كل المعوقات. 
وهنا نذكر قصة تثبت حيوية وإيجابية الشباب المسلم، حيث يحكى أن  طالبا في  كلية الزراعة المصرية في ثلاثينيات القرن الماضي، حضرته  صلاة  الظهر وهو في الكلية فأراد أن يصلي فسـأل عن  مكان ليصلي فيه لكن الجميع  أخبروه بعدم وجود  مكان للصلاة إلا قبو أو مكان صغير بالكلية، مما حدا به ذلك أن ينزل  إلى القبو فوجد فيه غرفة صغيرة بها مجموعة من الحصر القديمة والمقطعة، ووجد هناك أحد العمال يصلي  فسأله هل تصلي هنا؟ فقال له نعم حيث إنه لا يوجد أحد يصلي معي فقال له الشاب لن أصلي هنا بل سأصلي في الأعلى،
ثم انطلق الشاب بالفعل إلى الأعلى وأذن للصلاة ثم جلس فترة وسط العديد مـن النظرات الساخرة أو المتعجبة أو المتهكمة، ثم إنه بعد ذلك أقام الصلاة وصلى بمفرده.
وجاء يوم آخر وقد ذهب العامل وصلى معه وسط نظرات الجميع إلى أن وصل العدد إلى أربعة، وقد صلى معهم ذات يوم أحد الأساتذة وهنا وصل الأمر إلى عميد الكلية فأحضر الشاب وبعد التحقيق معه وصل الأمر إلى بناء غرفة ليصلي فيها من يشاء ولا يصلى وسط الكلية، وهكذا بني أول مسجد في كلية جامعية.. 
ولم يتوقف الأمر عند ذلك، حيث إن طلاب باقي الكليات طالبوا بمساجد في كلياتهم أسوة بكلية الزراعة وكان لهم ما أرادوا.
وقد أجريت تجربة في برنامج شهير على فكرة الثقة بالمجتمع وهي أن يوضع صندوق في إحدى وسائط النقل لدفع الأجرة فيه، ولما كانت الآراء قبل تلك التجربة سلبية وتتوقع عدم دفع الناس الأجرة لكن النتيجة كانت مفاجئة وهي أن 96 بالمئة دفعوا دون رقيب أو متابع.
هذا وأمثلة الإيجابية في مجتمعنا المسلم من الكثرة بحيث لا تحصى وهو من فضل الله على هذه الأمة.
6- الطريق إلى الإيجابية
بعد أن ذكرنا أهمية الإيجابية وعضدنا ذلك بالأمثلة من القرآن والسنة جاء دور الاستفسار عن كيفية الحصول على الشخصية الإيجابية، حيث إن هناك الكثير من العوامل التي تساعد على تنمية الإيجابية، وتنمية روح المبادرة داخل النفوس، والتي تساهم بصورة كبيرة في خلق شخصية إيجابية مِقْدَامَة، وهذه العوامل كالتالي: 
الوعي والمعرفة: فالمتابعة الدائمة للمجالات المختلفة تساعد الفرد على استكشاف أبعاد كثيرة من الممكن أن تكون غائبة عنه، فيساعده هذا الوعي على استكشاف فرص جديدة، ومنافذ تكون في كثير من الأحيان مبهمةً له؛ مما يساعده على اقتحامها. 
الثقة بالنفس: الكثير منا يُضَيِّع على نفسه فرصًا للانطلاق وفعل الخير؛ سواء كان هذا الخير لنفسه أو للغير؛ نتيجة لتشككهم في قدراتهم وتقليلاً من شأنهم الإيجابي عكس ذلك، فثقته بنفسه تدفعه دائمًا لاقتحام العوائق، وتخطي الصِّعاب. 
القابلية للاقتحام والمغامرة دون اندفاع وتهوّر، مع تقدير الأمور بمقاديرها: وهذه الرغبة في الاقتحام والمغامرة تدفع الفرد إلى اكتشاف آفاق جديدة للحياة، وتساهم في إنماء حصيلةِ الفرد من الحلول، فلا يقف عند عائق متعثرًا ساخطًا؛ ولكنه يمتلك حلولاً بديلةً؛ نتيجة لاحتكاكه المستمر، وخوضِه الكثير من المغامرات التي أثقلت التجربة لديه. 
القراءة والتأمل في قصص الإيجابيين ومحاكاة مواقفهم: ولا أدل على ذلك من إيجابيته صلى الله عليه وسلم وإيجابية الصحابة الكرام في شتى المواقف والأزمات. 
وهنا أهمس عند الختام في أذنك أخي الحبيب: أيعقل أن النملة والهدهد أكثر إيجابية منك؟
وأنت من أنت بما حباك الله به من مزايا وفضائل قطب الرحى فيها أنك من أمة خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، فلذلك فتقدم وكن إيجابيا في كل شؤون حياتك وتأكد أن إيجابيتك هي التي توصلك بإذن الله إلى رضى الله الذي هو سر كل سعادة.
أعد من مشرق التوحيد نـــــوراً     يتم به اتحاد العالمينـــــا
وأنت العطــر في روض المعالي    فكيف تظل محتبساً دفينا
وأنت نسيمه فاحمل شـــــذاه     ولا تحمل غبار الخاملينــا
وأرسل شعلة الإيمان شمسـاً     وصُغ من ذرةٍ جبلاً حصينا
وكن في قمة الطوفان موجــــاً     ومزناً يمطر الغيث الهتونا
 

http://shamkhotaba.org