بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين أمنا دعوته وقادة ألويته وارض عنا وعنهم يا رب العالمين
إخوتي الدعاة والخطباء وطلاب العلم الشرعي
إن جوهر الدين معرفة الله سبحانه وتعالى، ومعرفة أحكامه التشريعية، ثم العمل بها، وما لم تقم في أنحاء المجتمع الإسلامي مساجد يجتمع بها المسلمون ليتعرفوا إلى ربهم، وليتعلموا أحكام دينهم، وليقفوا على المنهج الأمثل لتطبيق هذه الأحكام، فإن الثمار المرجوة من الدين لن يقطفوها وسوف تؤول وحدتهم إلى شتات، وسوف تفرقهم الأهواء والشهوات، لذلك سارع النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منذ أن وطئت قدمه أرض المدينة وهي أول دار للإسلام سارع إلى بناء المسجد لأنه الركيزة الأولى في بناء المجتمع الإسلامي، ومن هنا كان إعمار المسجد إعماره بالبنيان، وإعماره بالصلوات، وإعماره بتعريف الناس بربهم وأحكام شريعتهم، علامة مميزة على صدق الإيمان، قال تعالى:
﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ (18)
وتعد خطبة الجمعة العبادة التعليمية في الإسلام بل هي الحد الأدنى في طلب العلم الذي هو فريضة على كل مسلم
من هنا كان لزاماً على منابر الدعوة أن تأخذ دورها في توجيه المجتمع وأن تكون الخطب قريبة من هموم الناس وألا تبتعد عن واقعهم ، فإذا ما التزم الخطباء والدعاة بتسليط الضوء على مشكلات المجتمع ووضع الحلول لها استناداً للوحيين كتاب الله تعالى وسنة رسوله فإنهم يقتربون من الناس وعندها تكون خطبة الجمعة موجهة لسلوك الناس
وتشتد الحاجة إلى المنابر في زمن المحن والأزمات والابتلاءات ، إذ غالباً ما يحدث عند كثير من الناس تشويش في الفهم للأحداث والمجريات، وكثيراً ما تساء التحليلات ، والأسوأ من هذا وذاك أن تسخر النصوص لخدمة المصالح والأهواء عمداً أو جهلاً أو انحرافاً عن قول الحق خوفاً وجبناً، وقد ينتقى من النصوص ما يناسب المتكلم وقد تفهم على ما يناسب مراده، ثم يتغافل عن نصوص غيرها قصداً وبدون قصد
وهذا ما نسمعه اليوم جلياً في تحليلات المحللين السياسيين وآراء الموالين والمعارضين، ولئن كان هذا اللغط والخلل حاصلاً عند أهل السياسة فما أهونه، لكن الطامة الكبرى أن ينتقل هذا الداء الخطير إلى أهل العلم الشرعي ويسخر الدين لخدمة الأشخاص بدلاً من أن يسخروا هم أنفسهم لخدمة هذا الدين الحق ومن هنا قال جل جلاله:
(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ )
ومن كتم الكتاب أن تهمل آياته الواضحات المحكمات ويلجأ إلى النصوص المتشابهات ثم تفسر لخدمة الأشخاص
وفي آية أخرى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا )
فصفات مبلغي الرسالة كثيرة وكلها على جانب من الأهمية من أمانة وصدق وتواضع وحب وعبادة وغير ذلك كثير، ولكنه جل جلاله اختار منها صفة واحدة يرتبط المبلغ للرسالة بها وجوداً وعدماً فيكون مبلغاً إن وجدت ولا يكون مبلغاً إن غابت إنها خشية الله تعالى وترك خشية من دونه ممن لا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ولأن الداعية قد يخشى هنا حساب المحاسبين من المخلوقين ختمت الآية بقوله تعالى: ( وكفى بالله حسيباً )
إن الناس كل الناس لا سيما الملتزمون منهم ليصغون في زمن الأزمات إلى العلماء يريدون أن يسمعوا منهم وجهة نظر شرعية وفهماً قرآنياً وإضاءة نبوية متكاملة لمجريات الأمور فإذا جاءت هذه الرؤية ناقصة أو موجهة لخدمة فئة ما فإن الناس قد تغلق آذانها عن سماع صوت العلماء ورؤية الدين الحق وهنا لا تكون المشكلة في الشرع وحاشا أن تكون ولكنها في دعاته وأدعيائه.
لذا كان لزاماً على المنابر أن تأخذ دورها في توجيه الناس في الأزمات حتى تحافظ على دورها، ولست أعني هنا أبداً أن تنجر وراء الشارع فتقول ما يرضيه وتنطق بما يناسبه ولكنني أعني أن تتجرد للنصوص الشرعية بمجملها وتفهمها بعيداً عن الضغوطات وتقدم للناس الرؤية الحقيقية لما يجري.
إن حفظ الكلمة من الدين، وكم من كلمة أودت بصاحبها وكم من كلمة رفعت قائلها وكم من كلمة هوت بمتكلمها لذلك ينبغي أن نصمت ثم نتكلم لا أن نتكلم ثم نصمت مفكرين بعواقب كلماتنا بعد فوات الأوان فالعاقل يعد كلامه من عمله فينجو
فأنتم تعلمون أن المرء يوم القيامة يحاسَب على أقواله كما يحاسب على أعماله وأفعاله، وتعلمون أن الله عز وجل يقول: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق : 18]، ولعله لا تغيب عنكم الآية الكريمة: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:24-26].
وتريكم الأيام أن رجالاً رفعهم كلامهم الرفيع، وأن أناساً وضعهم حديثهم الوضيع، والإسلام والعقل يدعوان المرء إلى حفظ الكلمة في الأوقات كلها، وهما يدعوانك إلى حفظها في الأزمات بشكل خاص.
لأن المرء ممتحَن مختبَر في الحياة وفي الأزمات، من جملة الاختبارات التي ترفعه عند الله أو تضعه: اختبار الكلمة.
ولأهمية حفظ الكلمة في الأزمات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما يرويه ابن ماجه في السنن: (( إياكم والفتن، فإن وقع اللسان فيها مثل وقع السيف)).
فالمسلم والعاقل مطلوب إليه إذا قال أن يقول الحق لا الباطل، ومطلوب منه أن يُظهر هذا الحق ويعليه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسِّن الحَسَن ويقوّيه، ويقبّح القبيح ويوهّيه.
حدث مرة أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه: اتق الله يا أمير المؤمنين. فردّ عليه آخر: تقول لأمير المؤمنين اتق الله؟! فقال عمر: دعْه فليَقلها، فإنه لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها منكم.
وأخرج البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من صدقة أحب إلى الله تعالى من قول الحق)).
ذكروا أن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قال لعمرو من مهاجر: (إذا رأيتني قد مِلت عن الحق فضع يدك في تلبابي ثم هزني، ثم قل: يا عمر، ما تصنع؟!).
إخوتي الدعاة وخطباء المنابر
لقد حرصت خلال مسيرتي في الدعوة إلى الله تعالى على أن يكون في الموضوع الواحد ؛ ركن عقدي ، وركن من النقل الصحيح ؛ كتاب وسنة مع الشرح الأصولي ، وركن من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسير صحابته الكرام ، والجوانب المشرقة من التاريخ الإسلامي ، وركن علمي يؤكد أن النقل
الصحيح يتوافق مع العقل الصريح ، وأن الذي خلق الأكوان ، وخلق الإنسان هو الذي أنزل على عبده الفرقان ، ليكون منهجاً للإنسان ، بحيث إذا طبقه لا يضلُّ عقله ، ولا تشقى نفسه ولا يندم على ما فات ، ولا يخشى مما هو آت .
وقد جعلت من القواعد المستنبطة من الكتاب والسنة، منهجاً في الدعوة ومنها: التعريف بالآمر قبل الأمر، والأصول قبل الفروع، والقدوة قبل الدعوة، والإحسان قبل البيان، والترغيب قبل الترهيب، والتيسير لا التعسير، والتفهيم لا التلقين، والتربية لا التَعرية، والتدرج لا الطفرة، والمتفق عليه لا المُختلف عليه، ومخاطبة العقل والقلب معاً، واعتماد الدليل والتعليل، والتركيز على المبادئ لا على الأشخاص، وعلى المَضامين لا العناوين.
إخوتي خطباء المنابر
المجال اليوم مفتوح لنا جميعاً لنأخذ دورنا في التربية والتعليم والتوجيه ، والناس متعطشون لسماع كلمة الحق ، فلنحرص على أن تكون مساجدنا منارات هدى مفتحة الأبواب للجميع، للصغير والكبير، فالمسجد لم يكن في عهد النبوة للصلاة فحسب، بل هو مركز علمي تربوي يجتمع فيه المسلمون على البر والتقوى ، على صلاح أمر الدنيا والآخرة.
أسأل الله تعالى أن يوفقني وإياكم للدعوة إليه على بصيرة ، وأن يرزقنا الإخلاص لوجهه الكريم.
اللهم ارحم شهداء سورية ، اللهم اشف جرحانا ، اللهم فك أسر المعتقلين ، وانصرنا نصراً موزراً عاجلاً يا أرحم الراحمين
http://shamkhotaba.org