مقدمة:
الخَطْبُ اليومَ عيّن الخُطَبَ.. والحَدَثُ حدّدَ الحديث.
حديثُنا اليوم عن غوطةِ دمشقَ وفسطاطِ المسلمين، ومنبتِ الأبطال.
نعم هنا مصنع الرجال.. هنا الأطفال أبطال.. هنا خنساوات الأمة.. حيث ينظر العالمُ كلُّه، يتفرج ويشجب ويستنكر.
لقد استأسد الكلبُ والدبُّ عليهم فما تركوا سلاحاً إلا وجربوه فيهم، قنابل ارتجاجية تخترق الملاجئ والمخابئ التي يحتمي بها أطفالٌ ونساءٌ ومدنيون أبرياء ما جنوا ذنباً.
كيف يستطيع إنسانٌ في هذه الأيام أن يتجاوز هذه الفظائع في عصرٍ يُدّعى أنه عصرُ الإنسانية والحقوق!!
وفوقَ ذلك كلِّه، ومما يزيد الألمَ والمرارةَ أن ترى غدرَ القريبِ وخذلانَ البعيدِ!
1- مجازر الغوطة وصمةُ عارٍ في جبين الإنسانية
نساءٌ وأطفالٌ لم يحملوا حتى الحجر، نثرتْ صواريخُ الغدرِ حجارةَ منازلهم، وتشظّت تحت الركام أجسادُهم؛ ترى الأذرعَ مبتورة، والأجسامَ تحت ركام المنازل مقبورةً، في صوٍر تُنبئ عن مقدارِ خواء نفوسِ مرتكبيها من الإنسانية والُمثل، وتجُّرد أفعالهم من الشيمة والنبل.
أطفالٌ أصبحوا عبارةً عن أرقام، ذكرى بجوار ذكرى، وحكايةٌ بجوار حكاية، ألمٌ بجوار ألمٍ..
أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، حكاماً ومحكومين، صغاراً وكباراً ونساء ورجالاً: اعلموا أنّ ما يحصل اليوم في تلك الديار مِن مآسٍ وآلام أمرٌ يجبُ رفعه، ومنكرٌ فضيعٌ يجب إزالته بشتى الوسائل والطرق، وهو عارٌ في جبين كلِّ مسلمٍ تقاعس عن أداء الواجب، أو قصّر في النصرة مع قدرته واستطاعته؛ وكلُّ مَن قصّر عن نصرة إخوانه بأيّ نوعٍ مِن أنواع الإعانة وهو قادرٌ لهو آثمٌ إثماً عظيماً، ومفرِّطٌ تفريطاً عريضاً، يُخشى عليه من عاقبة تقصيره.
قال صلى الله عليه وسلم: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ)
2- وبلغتِ القلوبٌ الحناجرَ
بلغ الكرب بالصحابة يوم الأحزاب منتهاه، وبلغت قلوبهم حناجرهم، حتى أن الله وصف الموقف وصفاً يبين مدى خطورة ما أحاط بالمؤمنين، كالخطر الذي يحيط بالمسلمين اليوم من كل مكان حتى بلغت قلوبنا الحناجر من هول ما يجري، قال الله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10-11].
نظروا إلى الأحزاب وقد انقطعت الأسباب ونفذت الحيل، حتى أنهم جاؤوا إلى رسول الله وقالوا: يا رسول الله لقد بلغت القلوب الحناجر فماذا نقول؟ فقال لهم رسول الله قولوا: (اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا).
ورسولُ الله يجأر إلى الله ويتضرع: (يا رب يا مجري السحاب ويا منزل الكتاب ويا سريع الحساب اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم).
عندما علم الله إخلاصهم وصدقَ نياتهم، أنزل السكينة عليهم، وأرسل جنوداً لم يروها على أعدائهم، وجاءت الملائكة تكبّر في معسكرات الكافرين، فتفرقوا بعد اجتماع، واختلفوا بعد اتحاد، وخالف الله بين قلوبهم، فأرسل الله عليهم ريحاً من عنده فخلعت خيامهم، وأكفأت قدورهم، حتى غارت الخيل بعضها على بعض، حتى كان الرجل منهم يقول: يا بني فلان يا بني فلان: النجاة النجاة، ويخرجوا ويطيروا ويهربوا..
قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب: 9-13].
هكذا يا عباد الله، هكذا هي سنة الله عند اشتداد الكرب، وهكذا يكون المؤمنون عندما يعظم الخطب، صدقاً وإخلاصاً، وصبراً واطمئناناً، وثقة وتوكلاً، وعلما بسنن الله.
3- النصر من الله وحده
أيها المحاصرون، أيها المظلومون: مَن كان يعتمد وينتظر أن يأتيه النصر من الشرق أو الغرب فليعلم أن العالم من حوله اليوم عالمٌ خلا من القيم والرحمة والإنسانية، وإنّ الله سبحانه أيأسنا من ذلك كله، فقال جلّ جلاله: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126].
ومَن كان ينتظر النصر والمدد والفرج من الله، فإنّ الله بشرنا بدنوّ ذلك فقال: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
فعلى من نتوكل وإلى من نلجأ؟ على من خذلنا وغضّ الطرف عن أنهار دمائنا التي سُفكت، أم نعتمد على من بيده نصرنا وعزنا وهو أصدق من وعد؟
ما أحوجَنا إلى تمثّل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (اللهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْته أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنْ عَافِيَتُك هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُك، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إِلَّا بك).
ربما شكى البعض الدمار والخراب، والجوع والحصار، والخوف.
فتذكروا أيها الصابرون الصامدون أن خير الخلق صلى الله عليه وسلم ربط على بطنه الشريف الحجارة من شدة الجوع، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: "ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الهِلاَلِ، ثُمَّ الهِلاَلِ، ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارٌ"، فَقُلْتُ يَا خَالَةُ: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتْ: "الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ، كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَلْبَانِهِمْ، فَيَسْقِينَا"
وتذكروا كيف أن الصحابة رضوان الله عليهم شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخوفَ على أنفسهم، فقال أحدهم يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا فيه السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تغبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيهم حديدة).
وإنْ كنا نشكو الحصار فقد حوصر خير الخلق ومعه من وصفهم بأنهم خير القرون في يوم الخندق، وحوصر قبل ذلك في شعب أبي طالب، لكنه مع الجوع والخوف والحصار يوم الأحزاب بشر النبي صلى الله عليه وسلم صحابته والأمة من بعدهم بفتح الشام، فأبشروا ببشرى الله لكم.
إنّ الحديث عن أطراف دولية، والتزام بتعهدات، وتدخل لإنقاذ الشعب السوري وفك الحصار، ما هو إلا تضليل إعلامي؛ فالحرب صليبية بتنسيق أمريكي روسي.
لن نعتمد على شرق أو غرب سنقاتل بما نملك من سلاح وعتاد، معتمدين على جبار الأرض والسماء، وحاشاه جلّ جلاله أن يخذلنا.
إنّ أقرب وأسرع وأعظم الفتوحات تُنالُ بصلاح النية، فهذه أمُّ المدائن فُتِحت بصلاح القلب، قال تعالى: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} [الفتح 18-19].
4- التوجيه الرباني عند الابتلاء والمحن
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42].
إنّ البأساء والضراء سنةُ الله في الأمم، لكنّ الله وجه هذه الأمة لما ينبغي عليها فعله عند الشدة وتزاحم المحن، وبهذا امتازوا عن الأمم، فوجههم بقوله: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام: 43].
وحذّرهم مِن أن يُعرضوا في أحوج ما يكونون إلى هذا التضرع والتذلل لربهم مِن أن تقسو قلوبهم، فقال مستنكراً أن يكون هذا حال مَن كان أضعفَ ما يكون وأحوجَ ما يكون إلى نصرِ ربه ومولاه {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ}، ثم بيّن عاقبة ذلك إن حصل: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 43-44].
يقول ابن القيم-رحمه الله-: "فاحذر كل الحذر من إظهار التجلد عليه، وعليك بالتضرع والتمسكن، وإبداء العجز والفاقة والذل والضعف، فرحمته أقرب إلى هذا القلب من اليد للفم".
ومن هنا كان تضرُّعُ الأنبياءِ والمرسلين عليهم السلام والتجاؤهم إلى الله سمةً بارزةً وحالةً ملازمةً إذا نزل بهم البلاء واشتد عليهم الكرب.
هذا المصطفى عليه صلوات الله وسلامه أشدُّ ما يكون تضرعاً وقتَ الحروب والأزمات، ففي غزوة بدر الكبرى أكثر من التضرع إلى الله والإلحاح بالدعاء إليه سبحانه مما لاينتهي منه العجب، ففي الحديث الصحيح عن عُمَر بْن الْخَطَّابِ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً فَاسْتَقْبَلَ نَبِىُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: (اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِى مَا وَعَدْتَنِى اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِى اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ تُعْبَدْ في الأَرْضِ)، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ. وَقَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ كَذَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّى مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ} فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلاَئِكَةِ.
وعلى ذلك دأب الصحابة مِن بعده، فانظروا إلى صنيع عمر رضي الله عنه عام الرمادة، يصف ذلك عبدُ الله بن عمر رضي الله عنهما فيقول: كان عمر بن الخطاب أحدث في عام الرمادة أمراً ما كان يفعله، لقد كان يصلي بالناس العشاء، ثم يخرج حتى يدخل بيته، فلا يزال يصلي حتى يكون آخر الليل، ثم يخرج فيأتي الأنقاب، فيطوف عليها، وإني لأسمعه ليلة في السحر وهو يقول: "اللهم لا تجعل هلاك أمة محمد على يدي".
5- رسالة إلى الأبطال المجاهدين والمرابطين
أيها المجاهدون: لا يُقعدكم عن الجهاد قوةٌ للعدو ولا وقفٌ للدعم ولا وصايةٌ من الخارج، ليكن شعاركم: أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي، ألا فحرّكوا جبهاتكم، وأشغلوا عدوكم، وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، ولا تضعفوا في طلبهم وابتغائهم.
إخوانكم في غوطة دمشق وفسطاط المسلمين يستنصرونكم ويستنفرونكم، وقد تعوّدوا منكم مسابقتهم في انتصاراتهم.
ألا لا تجعلوا أعداء الله يستفردون بهم فينتهون منهم ليبدؤوا بكم، واعلموا أن الله يقول: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72].
ألا لا تُسلموا إخوانكم لمجرمين يستأصلوا شأفتهم، هيا انفروا إلى ساحات العزِّ فعدوّكم اليوم يهابكم.
لا تنظروا إلى المناطقيات التي قتلتنا، والمسميات التي أخّرت نصرنا.
لقد اجتمع على إخوانكم مَن بأقطارها رغمَ اختلافِ مللهم ونحلهم، أفلا تجتمعون أنتم ودينكم واحد؟!
فيا أهل الشام.. جمِّعوا قواكم.. شُدُّوا من أزر بعضكم.. افتحوا جبهاتكم.. أروا الله من أنفسكم خيراً.
أيها المجاهدون الأبرار: يا أبناء الشام:
حثالةُ البغي صالت فأين عهدُ الحواسم
نسوا بأنكم أباةٌ تذودون ذود القشاعم
نسوا بأن أجدادكم وطئت بالخيل عرش الأعاجم
نسوا بأن نساء الشام أنجبن رجالاً كخالد وأبي عبيدة والقعقاع والعباس وحمزة.. وأنّ راية الفاروق لن تهزمها رايةُ أبي لؤلؤة المجوسي ولا راية الروس ولا غيرهم بحال..
لن يستويَ الطرفان من أي وجه كان..
إنّ الله متمُّ نوره ولو كرهوا.. هذا وعدُ ربنا.. فورب السماء والأرض إنه لحقٌ مثلما أنكم تنطقون، إنه لحق لأن الله جل شأنه قال: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21].
إنه لحق لأن الله تعالى قال: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحونَ} [الأنبياء: 105].
فاغزوهم كما يغزونكم.. صولوا عليهم كما يصولون عليكم.. نالوا منهم كما ينالون منكم.. ولستم سواءً.. قتلاكم بإذن الله في الجنة، وقتلاهم في النار وبئس القرار، {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء 104].
6- الواجب اليوم تجاه أهلنا في غوطة دمشق
إننا اليوم أمام أكلحِ فصلٍ في تاريخ هذه الأمة، وسط تنكرٍ من القريب والصديق!
فما الواجب علينا تجاه أمة من المسلمين تحاصر بالموت والقتل والخوف والدمار!؟
الواجب على الأمة كلها المناصرة بالدعاء والتثبيت وإظهار التلاحم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ).
وقال: (المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ).
الواجب على كل من له كلمة أن يبذلها ويوصلها إلى أقصى ما يمكنه أن يُبلغها.. الواجب على العلماء والمجامع العلمية توعية الأمة بما يجب عليهم من المناصرة، وأن يحثّوا الدول والمؤثرين على ما يخفف من الشر عن هؤلاء المظلومين.
الواجب على المجاهدين وقادتهم المسارعة إلى التوحد ونبذ الخلاف، فَمِن تفرقهم تسلط عليهم عدوُّهم، {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
وصف الذهبيُّ معنَ بن زائدة بقوله: أمير العرب أبو الوليد الشيباني أحد أبطال الإسلام وعين الأجواد يوصي أبناءه عند وفاته بقوله:
كونوا جميعا يا بني إذا اعترى خطب ولا تتفرقوا آحادا
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسّرا وإذا افترقن تكسرت آحادا
وإنّ ما ظفر به أعداء الأمة مِن سطوٍ واستيلاءٍ لا يرجع إلى خصائص القوة في أنفسهم بقدرِ ما يعود إلى آثار الوهن في صفوف أصحاب الحق.
قال صلى الله عليه وسلم: (وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْن)، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: (حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)
وفي هذا يقول الشاعر:
ألم تر أن جمع القوم يخشى وأن حريم واحدهم مبـاح
إنّ الجهاد في سبيل الله ونصرة المحاصرين يجب بالنفس والمال والرأي والكلمة، قال تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه} [النور: 41].
وقال سبحانه: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 84].
قال صلى الله عليه وسلم: (جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ).
وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا).
إنّ جهاد الكلمة لا يقلّ وجوباً وأهميةً عن الجهاد بالنفس والمال، وكان حسان بن ثابت يجاهد المشركين بالشعر؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنّ روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله).
عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: (إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله)، وقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (هجاهم حسان فشفى واشتفى).
من الجهاد في سبيل الله استخدامُ وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي صوتاً وصورة وكلمة؛ لنصرة المستضعفين وإغاثتهم وتحريض الأمة على مواجهة عدوها؛ قال صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم).
إنّ ترك الجهاد ولو بالكلمة خشيةَ العدوِ نفاقٌ عمليٌ، وتركُهُ رغبةً عنه واستخفافاً بوجوبه نفاقٌ قلبيٌ، ومَن مات لم يجاهد ولم ينو الجهاد مات على شعبةٍ من نفاق.
قال صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق).
7- إياكم ثم إياكم من الشائعات والإرجاف
الإشاعة نوع من الكذب: قال صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع).
السعي بالشائعة من الإرجاف: والإرجاف هو الخوض في الباطل وذكر الفتن وإشاعة الكذب بقصد خلق الفتنة وإحداث الاضطراب بين الناس؛ وهو من فعل المنافقين، قال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّك بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَك فِيهَا إلا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [الأحزاب:60-61].
فكم مِن دماء سُفكت، وكم مِن جيوش هُزمت، وكم من نكبة حلّت، وكم من فتنة أوقِظت، وكم من أعراض انتُهكت، وكم من بيوت هُدمت... كلُّ ذلك بسبب إشاعةٍ يسعى بها الناسُ جهلاً وحُمقاً، فتبلغ ماتبلغ من الخطر والضرر في المسلمين.
قال سيد قطب رحمه الله تعالى عند كلامه على قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ}: "والصورة التي يرسمها هذا النص هي صورة جماعة في المعسكر الإسلامي، لم تألف نفوسهم النظام، ولم يدركوا قيمة الإشاعة في خلخلة المعسكر، وفي النتائج التي تترتب عليها وقد تكون قاصمة؛ لأنهم لم يرتفعوا إلى مستوى الأحداث ولم يدركوا جدية الموقف وأن كلمة عابرة وفلتة لسان قد تجر من العواقب على الشخص ذاته وعلى جماعته كلها ما لا يخطر له ببال، وما لا يتدارك بعد وقوعه بحال! أو –ربما–لأنهم لا يشعرون بالولاء الحقيقي الكامل لهذا المعسكر، وهكذا لا يعنيهم ما يقع له من جراء أخذ كل شائعة والجري بها هنا وهناك وإذاعتها حين يتلقاها لسان عن لسان سواء كانت إشاعة أمن أو إشاعة خوف فكلتاهما قد يكون لإشاعتها خطورة مدمرة"
8- بعد الصبر العافية وبعد الكرب الفرج
بعد الجوع سيأتي الشبع، وبعد الظمأ يأتي الري، وبعد المرض عافية، وبعد الفقر غنى، وبعد السجن والحصار حرية بإذن الله، فلسوف يصل الغائب ويُفك العاني وينقشع الظلام، فيا أيها المؤمن كلما رأيت الحبل يشتد ويشتد فاعلم أنه سوف ينقطع، فمع الدمعة بسمة ومع الخوف أمن ومع الفزع سكينة وكله بأمر الله وتقديره فسلم إليه واعبده وتوكل عليه، فصبراً يا أهل الغوطة، يا سكان فسطاط المسلمين يوم الملحمة، قال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120].
لقد أصاب رسول الله وأصحابه يوم الشعب ما أصابكم فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، عن قيس قال: سمعت سعد رضي الله عنه يقول: "إني لأول العرب رمى بسهمٍ في سبيل الله، وكنا نغزو مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى إن أحدنا ليضعُ كما يضعُ البعيرُ أو الشاةُ ما له خِلْطٌ، أي لا يختلطُ بعضه ببعضٍ من شدة جفافه".
ويروي لنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه معاناته من شدة الجوع -وكان أحد المحاصرين بالشِّعْبِ-، فيقول: "كُنَّا قَوْماً يُصِيبُنَا ظَلَفُ الْعَيْشِ بِمَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشِدَّتُهُ، فَلَمَّا أَصَابَنَا الْبَلَاءُ اعْتَرَفْنَا لِذَلِكَ وَمَرَنَّا عَلَيْهِ وَصَبَرْنَا لَهُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ بِمَكَّةَ خَرَجْتُ مِنَ اللَّيْلِ أَبُولُ، وَإِذَا أَنَا أَسْمَعُ بِقَعْقَعَةِ شَيْءٍ تَحْتَ بَوْلِي، فَإِذَا قِطْعَةُ جِلْدِ بَعِيرٍ، فَأَخَذْتُهَا فَغَسَلْتُهَا ثُمَّ أَحْرَقْتُهَا فَوَضَعْتُهَا بَيْنَ حَجَرَيْنِ، ثُمَّ اسْتَفَفْتُهَا وَشَرِبْتُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ، فَقَوِيتُ عَلَيْهَا ثَلَاثًا".
وقد صبروا على البرد كذلك، يحدثنا أنس رضي الله عنه فيما يرويه البخاري عما حصل معهم في غزوة الخندق، قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداةٍ باردةٍ، فلم يكن لهم عبيدٌ يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النَّصبِ والجوع قال:
اللهم إنَّ العيشَ عيشُ الآخرة فاغفرْ للأنصارِ والمهاجرة
فقالوا مجيبين له:
نحنُ الذين بايــــــعوا محمــــــداً على الجهادِ ما بقينا أبداً
http://shamkhotaba.org