مقدمة:
لقد كثر الحديث عن تأخر النصر، ورغم كثرة التضحيات وضخامة المأساة وفظاعة المحنة، ورغم شلالات الدماء المنهمرة وأزيز القنابل المدمرة وهدير الطائرات والقنابل لمدن شامنا الحبيب، ويرافقها دعوات المشايخ والأمهات والثكالى والمظلومين وتضرعات المسلمين في شتى بقاع الأرض بأن ينصر الله أهل الشام ويفرج عنهم ومع ذلك تأخر النصر، وهنا لا بد من البحث عن الأسباب ومنها بل من أخطرها وأعظمها الخيانة.
1- خطورة الخيانة
إن أمتنا الإسلامية تمرُّ في هذا الزمان بمحَنٍ عظيمة ونوازلَ شديدة ونكَبات متلاحقة، ساهم فيها بشدة تعرّض الأمة لخيانات متعدّدة، تارة من أعدائها، وتارات -وهو أنكى- من أبنائها.
يُخادعني العدو فلا أبالي وأبكي حين يخدعني الصديق
نعم، كل الخيانة قاسية ومريرة، لكن الأقسى أن يخونك من تتوقّع منه العون، وبالخيانة أسقطت دولة الخلافة الإسلامية، فتمزقت أوطان المسلمين إلى بلدان وأقاليم، وأقام أعداؤنا في كلّ موطن وإقليم سلطانًا مواليًا لنفوذهم، ينفذ سياستهم بالترغيب والترهيب والحماية، ثم عمدوا إلى الدين والحق فحاصروه في نفوس أتباعه، وضيقوا الخناق عليه في كل مكان، واضطروا أهله إلى النجاة بأنفسهم أو تحمّل صنوف العذاب والبلاء، وبالخيانة تم غزونا فكريًا، فلم يستطع الغرب أبدًا أن يغزونا فكريًا ولا أن يهزم أرواحنا حتى حين هزم جيوشنا، لكن تكفّل بالمهمة الخونةُ من أبناء جلدتنا، وصدق الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204].
بسلاح الغدر والخيانة، ذلك السلاح الذي تجرعت الأمة وتتجرع بسببه المرارات، وعن طريقه فقدت الأمة أعظم قادتها وخلفائها ممن أعجَزَ أعداءَها على مر التاريخ، فالرسول سَمَّته يهود، وعمر قتله أبو لؤلؤة المجوسي، وعثمان قتلته يد الغدر، وعلي وغيرهم ممن أغاظ أعداء الله وأذاقهم صنوف العذاب والهوان في ساحات النزال، وفي بئر معونة قُتِلَ سبعون من خيار الصحابة، لأجل هذا جاء التحذير من الخيانة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
والخيانة متى ظهرت في قوم فقد أذنت عليهم بالخراب، فلا يأمن أحد أحدًا، ويحذر كلُ أحد من الآخر، فلا يأمن صديق صديقه، ولا زوج زوجه، ولا أب ولده، وتترحل الثقة والمودة الصادقة فيما بين الناس، وقد جاء في الأثر: "لا تقوم الساعة حتى لا يأمن المرء جليسه"، وينقطع المعروف فيما بين الناس مخافة الغدر والخيانة.
ومن قصص العرب أن رجلاً كانت عنده فرس معروفه بأصالتها، سمع به رجل فأراد أن يسرقها منه، واحتال لذلك بأن أظهر نفسه بمظهر المنقطع في الطريق عند مرور صاحب الفرس، فلما رآه نزل إليه وسقاه ثم حمله وأركبه فرسه، فلما تمكن منه أناخ بها جانبًا وقال له: "الفرس فرسي وقد نجحت خطتي وحيلتي"، فقال له صاحب الفرس: "لي طلب عندك"، قال: "وما هو؟" قال: "إذا سألك أحد: كيف حصلت على الفرس؟ فلا تقل له: احتلت بحيلة كذا وكذا، ولكن قل: صاحب الفرس أهداها لي"، فقال الرجل: "لماذا؟!" فقال صاحب الفرس: "حتى لا ينقطع المعروف بين الناس، فإذا مرّ قوم برجل منقطع حقيقة يقولون: لا تساعِدوه لأن فلانًا قد ساعد فلانًا فغدر به"، فنزل الرجل عن الفرس وسلمها لصاحبها واعتذر إليه ومضى.
2- ذم الخيانة في الكتاب الكريم والسنة المطهرة
الخيانة أمر مذموم في شريعة الله، تنكرها الفطرة ولا تقبلها حتى الحيوانات العجماوات، الخيانة كلمة تجمع كل معاني السوء الممكن أن تلحق بإنسان، فهي نقض لكل ميثاق أوعقد بين إنسان وخالقه أو إنسان وإنسان أو بين الفرد والجماعة.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال:58].
وقال سبحانه: {وَأَنَّ اللّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:52].
وقرن الله جل وعلا بين الخيانة والكفر في قوله جلّ وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38].
والخيانة من سمات النفاق، فالخائن بالضرورة منافق، وإلا فكيف سيُخفي خيانته إلا بالنفاق؟! قال النبي: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان).
والخيانة مذمومة حتى مع الكفار، حتى مع الخونة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك).
وفي القرآن الكريم قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال: 58].
وجاء عثمان بن عفان بعبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى النبي، وكان النبي قد أهدر دمه، فجاء به حتى أوقفه على النبي فقال: يا رسول الله، بايِع عبد الله، فرفع رأسه، فنظر إليه ثلاثًا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: (أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففتُ يدي عن بيعته فيقتله؟!)، فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك، قال: (إنه لا ينبغي لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين).
فالمصطفى عليه الصلاة والسلام لم يرضَ أن يتَّخذ الخيانة وسيلة حتى في حقِّ كافر محارب لله ورسوله، فما مدى جرم أولئك الذين لا تكون خيانتهم إلا في مسلمين؟! كيف بالذين لا تكون خيانتهم إلا في حق مؤمنين موحدين، لا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة؟!
3- وجود الخيانة في كل زمان ومكان
الخيانة موجودة في كل الأمم في وقت السلم، وتشتد في الحرب، ولم يسلم منهم زمان دون زمان ولا مكان دون مكان، بل لم يسلم منهم أفضل زمان بوجود أفضل رجل ورجال، زمن النبي وصحابته الكرام، فكيف بمن بعده؟!
في أُحُد خرج رسول الله في ألف من أصحابه، حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد انخزل عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس، وقال: "أطاعهم وعصاني!" يقول: "ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس؟!".
ولما خرج رسول الله إلى تبوك لمقابلة الروم وكان في الجيش بعض الخونة المنافقين فقاموا يرجفون ويخوّفون المسلمين، فقال بعضهم: "أتحسبون جِلادَ بني الأصفر -أي: الروم- كقتال العرب بعضهم بعضًا؟!" والله لكأنا بكم غدًا مُقرَّنين في الحبال.
فالخيانة سلاح قديم عرفته الحروب البشرية، واستخدمته الدول والجيوش في حروبها؛ وذلك لإضعاف جبهة أعدائها وتفكيكها تمهيدًا للسيطرة عليها وإحراز النصر، وصور الخيانة متعددة، منها ما هو متعلق بالحاكم لأمته، أو أعوان الحاكم، أو أفراد من الشعب لبلدهم، ولقد عهدت الحكومات لأجهزة مخابراتها بمهمة تتبع من تعتبرهم خونة، ولكن دائمًا كان سلاح الخيانة يخفى؛ لأن طبيعة استخدامه تفرض سريته؛ ولذلك فإنه سلاح ربما يكون أخطر وأهم من الأسلحة النووية، وأقل كلفة، ونتائجه حاسمة.
ومع ذلك كله فإن الخونة يدفعون ثمناً باهظاً جراء خيانتهم، ليس أعظمه حياتهم التي تبقى في مهب الريح وبلا قيمة عند من خانوه: الوطن والأمة، أو من خانوا لأجله: المستعمر والعدو، فقبل أن يدفع الخونة حياتهم ثمناً لخيانتهم يموتون آلاف المرات وهم يرون كرامتهم تُنتهك وتُداس بالأقدام من العدو الذي مدّوا أيديهم إليه بالخيانة قبل الصديق الذي باعوه بثمن بخس.
لنتصفح أوراق التاريخ ونسأل: ماذا كان مصير العملاء عبر التاريخ؟ هل مجّد التاريخ عميلاً واحدًا؟ هل أقامت الدول لعملائها نُصباً تذكارية أو سمت شارعاً أو مرحاضاً عاماً باسم أحد عملائها؟ هل احترمتهم شعوبهم أم أنهم رموا في مزبلة التاريخ بعد انتهاء صلاحياتهم؟
العميل يبقى ذليلاً قميئاً ولو وضعوا على رأسه كل تيجان العالم، ويبقى صغيراً حقيراً مهما نفخوا في أوداجه وجعلوه رئيساً أو وزيراً.
هل يتذكر الناس من كان يحكم ليبيا إبان الاحتلال الإيطالي الفاشي؟
ولكن جميع العرب ومعظم المسلمين يتذكرون الشهيد عمر المختار.
إذن لن تعجز الأمة أن تعرف عدوها من اليهود والنصارى والمشركين، ولكن من الصعب عليها أن تعرف الخونة المنافقين لتلوّنهم وكذبهم واتباعهم كل طريق ملتوية وخسيسة، والله جل وعلا يقول: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
4- أنواع الخيانة
خيانة العقيدة: وعقيدتنا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعدم تحقيق لا إله إلا الله في النفس وفي الغير وأنت مسلم خيانة لله، تعطيل فرائض الله أو تعدي حدوده أو انتهاك محارمه وأنت مسلم خيانة لله.
أن يكون المسلم مطية لأعداء الله في تنفيذ مخططاتهم وما فيها من دمار للبلاد والعباد أو دليلاً لهم على عوراتها خيانة، قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10].
موالاة أعداء الله خيانة: تروي كتب السيرة أن حاطب بن أبي بلتعة عندما تجهز النبي لفتح مكة أرسل رسالة لقريش مع امرأة يُعِلمهم بسير النبي، وجاء الوحي إلى رسول الله يخبره بالخبر، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا علي)، قال: لبيك يا رسول الله، (يا زبير)، قال: لبيك يا رسول الله، (انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه)، وذهبا كالسهمين مسرعين، ووجدا تلك المرأة تُنيخ راحلتها، فاقترب الزبير وقال: أي أختاه معك رسالة فأخرجيها، قالت: ما معي شيء، قال عليّ: يا امرأة، إنّ الذي أرسلنا ما كذب قطّ، وهو صادق فيما يقول، أخرجي الرسالة، قالت: ما معي شيء، قال: والذي نفسي بيده، إما أن تخرجيها، وإما أن أجردك من ثيابك حتى أراها، صاحت بكل صوتها وهي مشركة: لا، إياك أن تجرّدني، فأنا عربية حرة لا أتجرّد من ثيابي.
يا الله، إن في شوارعنا من يتجرّد من ثيابه، لقد تجردوا وتزينوا وتسفهوا، وللخنا باعوا واشتروا، ثم يقولون: هم عرب.
قال: سنجردك من ثيابك، قالت: لا بل أُخرِج الرسالة، قال: أخرجيها، قالت: أديرا وجهيكما، وكشفت وأخرجت الرسالة وسلّمتها، وعاد الشابان إلى الجيش، هنالك فتح الرسول الرسالة وقرأها عليّ: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، إن النبي قد جاءكم بجيش لا قبل لكم به فخذوا حذركم.
عقدت محكمة ميدانية، جيء بحاطب، (يا حاطب ما هذا؟)، بكى حاطب وأشهَد الله أنه لم يفعل ذلك خيانة، إنما له أهل ضعاف، أراد أن لا تقتلهم قريش إذا سمعوا أن الجيش قد جاء، فأرسل الرسالة ليحافظ على أهله، فقال عمر: "يا رسول الله، هذا رجل كذاب، دعني أضرب عنقه"، قال: (إنه قد شهد بدرًا، وما يُدرِيك لعل الله أن يكون قد اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟!)، وفي رواية: (فقد وجبت لكم الجنة).
ويُنادي حاطب وهو ينظر إلى المسلمين: "والله ما خنتُ الله ورسوله، والله ما نويتُ ذلك ولا خطر لي ذلك".
نحن الآن من أجل أرصدةٍ في بنوك اليهود من أجل جاهٍ نطلبه من الكافرين نخون أمة المسلمين بأجمعها، وأنزل الله تعالى براءة لحاطب، فقال له: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1].
يا حاطب، إن عدوك هو عدوي، وإن عدوي هو عدوك، أنت مؤمن يا حاطب، من هنا عاد حاطب إلى صفوف المؤمنين، وصار الصف بلا خيانة.
أيها المسلمون: إن أناساً اليوم باعوا دينهم بدنيا غيرهم، وباعوا أرضهم وعرضهم، لم تؤلمهم مناظر الشهداء من الأطفال والنساء والشيوخ، ولم تحرك أشجانهم مآسي الأسرى والأسيرات، هم اليوم موجودون بين صفوفنا، ينقلون أخبارنا وأخبار مجاهدينا للعدو، يقبضون بضعة ليرات ويزرعون العبوات ويرصدون تحرك القادة وطلاب العلم والعاملين في ثورتنا، هؤلاء خانوا الله ورسوله والمؤمنين، كم قتلوا من أبرياء، وكم يتموا من أطفال، وكم رملوا من نساء، وكم بيت أدخلوا عليه المآسي والأحزان، والله إن لم نقف صفاً في كشفهم وفضحهم فسنبقى ندفع فاتورة الألم، والله إن من يعرفهم أو يشتبه فيهم ولا يخبر عنهم القضاء وأهل الاختصاص فهو خائن مثلهم، إن وجود هؤلاء الخونة بين صفوفنا لهو السبب في ضعفنا وشق صفنا وتأخرنا وتمكن عدونا منا؛ ولهذا كانت عقوبة الجاسوس في الإسلام القتل، حتى يرتاح من العباد والبلاد، ويأمن الناس على دمائهم وأعراضهم وأموالهم.
هؤلاء خانوا الله قبل أن يخونوا عباده، ولكن الله سيمّكن الصادقين منهم، قال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:71].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الانفال:27].
http://shamkhotaba.org