توظيف خطبة الجمعة في معالجة الاختلالات الفكرية خطاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنموذجاً (2)
مقدمة:
نتابع في هذا المقال النموذج الثاني من نماذج من الاختلالات الفكرية:
مشكلة الشر: هي معضلةٌ فكريةٌ فلسفيةٌ عقديةٌ، تعد من أهم المشكلات التي رافقت البشرية منذ أن وجد الإنسان على ظهر الأرض إلى أيامنا هذه، وربما إلى قرونٍ قادمةٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وتتلخص هذه المشكلة في صعوبة التوفيق بين وجود الله تعالى، وبين وجود هذا العالم المليء بالشرور، لذلك كانت، وما زالت، أكبر مدخلٍ للملحدين -على مر الدهور- في نفيهم وجود الخالق سبحانه وتعالى.
كثيراً ما يردد الملحدون أنّ حياة الإنسان مملوءة بالبلايا والمحن، والرزايا والفتن، والعاهات والآفات والأمراض والأسقام والحوادث والحسرات، حتى إنّ الأطفال الذين لا ذنب لهم يتعرضون في هذه الحياة الدنيا لليتم والبرد والجوع وسوء المرقد والعمى والأوجاع، مع أنّهم لم يفعلوا ما يستحقون عليه تلك المصائب؟ والبهائم كذلك، لماذا تعاني الآلام وتلقى المشاق وتنتهي إلى الذبح؟
فيتساءل هؤلاء الملحدون عن الشر: ما هو؟ ومن خلقه؟ ولماذا خُلق؟ وهل هناك إلهٌ خالقٌ للكون حقاً؟ وإذا وجد، هل هو قادرٌ قدرةً مطلقةً؟ فإذا كان الإله الخالق قادراً قدرةً مطلقةً، فلماذا هو غير قادرٍ على محو الشر كلّه ليعيش البشر بهناءةٍ وسعادةٍ؟ وإذا لم يكن قادراً قدرةً مطلقةً، فكيف يكون إلهاً كاملاً؟، سبحانه وتعالى عما يشركون.
ولا نكون مبالغين إن قلنا إن مسألة وجود الله في ضوء مشكلة الشر هي أكثر المواضيع التي يتجادل فيها الناس في الغرب على اختلاف ثقافاتهم، وهي كذلك من أكثر الشبهات التي يثيرها ملحدو بلادنا العربية والإسلامية.
وفي ثورتنا السورية المباركة، يتساءل كثيرون عمّا جرته هذه الثورة من شرورٍ وبلايا على الناس الآمنين، وما سببته من دمارٍ للعمران والاقتصاد، وأهم من هذا كله، آلة القتل التي تحصد الأطفال والنساء والشيوخ كل ساعةٍ.
لقد نسي هؤلاء أو تناسوا أن الخير والشر شيئان متضادان، ولكنهما متممان لبعضهما ضمن كلٍّ متكاملٍ.
وإذا ما اختفى أحدهما فإن الآخر سيختفي أيضاً تاركاً وراءه فراغاً؛ فالرحمة التي هي فضيلةٌ عظيمةٌ، لا يمكن أن توجد إلا إن كان هناك معاناةٌ. والشجاعة لا توجد إلا إن كان هناك مواجهةٌ للخطر، يقول الجاحظ رحمه الله: "فخير الخير ما كان ممزوجاً، وشر الشر ما كان صرفاً، ولو كان الناس يصلحون على الخير وحده لكان الله عز وجل أولى بذلك الحكم"
بناءً على ما سبق ينبغي لأهل العلم من الخطباء والدعاة أن يبيّنوا للناس بين كل حينٍ وآخر أنّ الشرور الموجودة في هذا الكون لا بدّ أن تكون عاقبتها خيراً، وعلى الإنسان ألا ينظر للشرور نظرةً متشائمةً ما دامت مآلاتها خيراً في النهاية، والله تعالى يخبرنا أنه ربما يصيب قوماً بعذابٍ ليكون رادعاً لهم عما هم فيه من الصدود والغفلة، فيقول عزّ من قائل: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ] [الأعراف: 94].
ويكفينا في هذا المقام أن نذكّر بقصة النبي الكريم يوسف عليه السلام كم تعرّض في حياته لمحنٍ ومصائبَ، أولها رمي إخوته له في الجبّ، وبعد ذلك العبودية والفتنة والمحنة والسجن، ولكن بعد هذا الظلم الذي قاساه هذه السنين الطوال صار إلى ما صار إليه من الملك والتمكين والعزة.
وعليهم بعد ذلك أن يربطوا الناس بالآخرة لتمتد بصائرهم إلى ما بعد هذه الحياة الدنيا، إذ أنّ الشرور التي تصيب الإنسان في الدنيا ستكون عاقبتها في الآخرة ثواباً عظيماً من الله تعالى لعباده الذين صبروا على ما أصابهم، فمن اعتقد بوجود حياةٍ خالدةٍ بعد الموت، فإنّ هذا من شأنه أن يخفّف عنه وقع الشدائد والنوازل، ما دام هناك جزاءٌ حسنٌ ينتظرهم يوم القيامة.
ومهما يكن من أمرٍ، فإننا نعلم جميعاً أنّ كثيراً من المصائب والبلايا ترجع إلى آثام بني آدم، وباستقراء تاريخ الأمم نجد أنّ ما من أمةٍ آمنت بالله واستجابت لرسله إلا رتّب الله تعالى على إيمانها نتائج ماديةً من تمكينٍ في الأرض وبناءٍ للحضارة أو وفرةٍ في الرزق والمال أو الغلبة على الأعداء أو غير ذلك من متعٍ دنيويةٍ، وما من أمّةٍ كفرت بالله وكذّبت رسله إلا عاقبها الله بأصنافٍ شتّى من العذاب.
والدليل على ما سبق قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا * مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 78، 79].
والمعنى: أن ما أصاب العبد من حسنةٍ أي من نصرٍ ورزقٍ وعافيةٍ فمن الله، حتى أعماله الصالحة فهي بتوفيقٍ وهدايةٍ وتيسيرٍ من الله، وما أصاب العبد من سيئةٍ أي من ذلٍّ وخوفٍ وهزيمةٍ وجوعٍ ومرضٍ (فمن نفسك) أي بذنوبه وخطاياه، فـ"من" في هذه الآية سببيةٌ. أي الجميع بقضاء الله وقدره، وهو نافذٌ في البر والفاجر.
إن الله تعالى أقام مظاهر الكون كلها على أساس تعلّق الأسباب بمسبباتها، فلا يحدث شيءٌ في الكون إلا وله سببٌ أدّى إلى حدوثه. ولكنّ الإنسان كثيراً ما يقصر هذا القانون على الأسباب المادية البحتة التي أدرك سببيتها، ويرفض السببية القائمة على الأسباب المعنوية البحتة. والسؤال هنا: ما الذي يجعل الإنسان يعترف بقانون السببية هنا، وينفيه هناك، ما دام الكون وحدةً مترابطةً، وما دام خالق الكون قد أخبرنا - عن طريق الوحي- أن مصيبةً ما قد حدثت لأمةٍ نتيجة معصيةٍ ارتكبت أو مخالفةٍ وقعت؟
إنه لا دليل سوى الجهل والهوى.
وعلى الرغم من كل ما سبق، فإنّ البشر لن يصلوا بحالٍ من الأحوال إلى إدراك حِكم الله تعالى في أفعاله، فإذا كانت بعض الخلائق لا تستطيع إدراك حكمة وحقيقة ما تفعله الخلائق الأخرى، لاختلافها في رتبة الخليقة، وحتى لو كانا في المرتبة نفسها، فكيف سيفهم ويدرك عبدٌ ذليلٌ ضعيفٌ حكم الله تعالى في أفعاله في الكون؟
ومهما كانت الفجوة شاسعةً وكبيرةً في العلم والمعرفة بين مخلوقٍ وآخر، فإنّ هذا الفرق لن يصل أبداً إلى درجة الفرق بين علم الخالق وعلم المخلوق.
إنّ الطفل الصغير قد لا يفهم حكمة والديه في عقابه على خطأٍ ما، فكيف يفهم هذا الإنسان الجاهل الضعيف حكم الله تعالى في أفعاله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].
وإذا كنا نقرّ لأهل التخصص في تخصصهم، وهم من البشر، دون أن نناقشهم فيما يقولون ويقررون كالأطباء والمهندسين وغيرهم، وذلك لأن مستوانا التعليمي لا يسمح لنا بفهم كل ما يذكرونه، أفلا نقرّ للعليم الخبير الذي لا يغيب عن علمه شيءٌ بأنّ ما يتصرف به في شؤون خلقه -ونحن لا نفهمه- أنه هو الحكمة والصواب؟
إنّ الإنسان لقصور فهمه وقلة علمه يحسب الخير شراً والشر خيراً؛ فالله تعالى سمّى المال والولد فتنةً، فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28].
في حين أن الإنسان يراهما نعماً خالصةً، ويجهل كذلك أين يكمن الخير، وأين يكمن الشر، فنظرته محصورةٌ وضيقةٌ، وكثيراً ما ينظر للأمور من خلال نفسه ومصالحها، ويجعل مصلحته الشخصية محوراً لتقييم ما يحدث من خيرٍ أو شرٍّ، فعندما يرى أن هذه الحادثة أو تلك عادت على شخصه أو ذويه بالإضرار، ينبري من فوره إلى وصفها بالشرور والآفات، وسبب هذا أنه ينظر إلى هذه الظواهر من منظارٍ خاصٍّ، ويتجاهل غيرَه في هذا العالم.
ومن القصص التي يظهر فيها الكلام السابق جلياً قصة "الإفك" التي تُرى على أنها شرٌّ محضٌ في ظاهرها بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم وزوجه عائشة رضي الله عنها والمؤمنين، ولكنّ الحقيقة أن هناك خيراً عظيماً استتر وراء هذا الشر الظاهر، وهذا معنى قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11].
وهذا الخير حاصلٌ في الدنيا والآخرة، إذ هو لسان صدقٍ لهم في الدنيا، ورفعة منازل في الآخرة، وإظهار شرفٍ لهم باعتناء الله تعالى بعائشة رضي الله عنها، حيث أنزل الله براءتها في القرآن العظيم.
ومن هنا نتبيّن أن العبرة في الأمور بعواقبها، وأن الإنسان قد يرى شيئاً يظنه خيراً فيأتيه الشر من حيث لا يحتسب، وقد يظن الشر خيراً.
ولو أنّ هذا المخلوق الضعيف الجاهل وقف على علمه الضئيل ونسبة علمه على ما لا يعلمه لرجع القهقرى قائلاً: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191].
ولو اطلع على ما في عالم الغيب لاختار الواقع، وعلم أنّ حكمة المولى فوق كل حكمةٍ، وأن العدل الإلهي موجودٌ، وأن عقله الذي يعتمد عليه في كل شيءٍ ليس شيئاً مذكوراً إلى جانب ما في هذا الوجود من أسرار.
وصدق الله تعالى إذ يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
أما من أنكر وجود الله تعالى بسبب ما رآه من شرورٍ في جوانب الكون، فإنّ هذا الإلحاد في أغلب حالاته هو موقفٌ نفسيٌّ وليس موقفاً عقلياً، وإن كان هؤلاء الملحدون يحاولون أحياناً إلباس إلحادهم لبوس العلم مستخدمين عباراتٍ وألفاظاً توهم أغلب القراء من العوام أنها أدلةٌ علميةٌ، والحقيقة أنه ليس للإلحاد أي دليلٍ، غير مجرد سفسطاتٍ وتخيلاتٍ تقوم في رؤوس أصحابها فقط، فهو ليس إلحاداً عقلياً يرتدي أدلةً علميةً.
لكنه إلحاد اليأس نتيجةً لوجود شرورٍ في هذا العالم لم يدركوا حكمة وجودها.
وهذا النوع من الإلحاد، هو قريبٌ من فعل أولئك الذين يعبدون الله على حرفٍ، فكثيرٌ من الناس مَن يؤمنون ويكفرون وفق ما يصيبهم من عسرٍ ويسرٍ، حتى من بين المؤمنين أنفسهم نجد من يجتهدون في الطاعة حال اليسر ويقصّرون في العسر، يقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11].
إنّ وجود الله تعالى حقيقةٌ أزليةٌ ثابتةٌ لا تقبل الجدل، وإن وجود الشرور بأنواعها لا تنتقص من هذه الحقيقة الكبيرة التي تتفرع عنها بقية حقائق الكون، لذلك نجد أنّ من علماء المسلمين من استدل بوجود الشر في الكون على وجود الله تعالى، كالإمام أبي منصور الماتريدي -رحمه الله تعالى- الذي يقرر أن وجود الشر في العالم برهانٌ ساطعٌ على أنّ هذا العالم لم يكن بنفسه، بل بصانعٍ صنعه، فلو كان العالم وجد بنفسه من غير صانعٍ لانتفى الشر، لأن مَن كان وجوده بنفسه لا يرتضي لنفسه إلا أحوالاً هي أحسن الأحوال، وصفاتٍ هي خير الصفات، فثبت من وجود الشر في العالم أنه لم يكن بنفسه.
على الرغم مما سبق، فإن اللادينيين –عموماً– يتفاخرون بأنهم أسعد الناس على الإطلاق، ولكن الواقع يشير إلى غير ذلك، فالبحوث العلمية الحديثة تثبت أن الملحدين هم أكثر الناس يأساً وإحباطاً، ولذلك نجد أن أعلى نسبةٍ للانتحار كانت بين الملحدين واللادينيين، الذين يعيشون بلا هدفٍ ولا إيمانٍ، فقد أكدت الدراسات العلمية المتعلقة بالانتحار أن أكبر نسبةٍ للانتحار كانت في أكثر دول العالم إلحادًا، من جهةٍ أخرى تؤكد الدراسات العلمية أيضاً على أن للتعاليم الدينية دوراً كبيراً في خفض تلك النسبة، وأن هذه التعاليم أقوى ما يمكن أن تكون في الإسلام، وخاصةً إذا علمنا أن الدين الإسلامي حرّم الانتحار، وعدّه من الكبائر التي تستوجب غضب الله تعالى.
ولدى تأمل قول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ} [طه: 124].
نعلم أن المعرض عن ذكر الله تعالى هو دائماً في البلاء؛ قلقٌ في السرّاء، قنوطٌ في الضرّاء، ولذلك لا نعجب حين نسمع أن قوانين بعض الدول الأوربية أباحت ما أسموه بـ "قتل الرحمة " وهو قتل الميؤوس من شفائه، أو الذي يعاني معاناةً كبيرةً، وذلك بإرادته واختياره.
إنّ الله تعالى لم يخلق شيئاً ما في هذا الوجود إلا لحكمةٍ، وهذه الحكمة هي وجه حسنه، ولهذا لم يُضف الشر إلى الله وحده، ولهذا أيضاً قال الرسول صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح فيما رواه عنه عليّ رضي الله عنه: (والخيرُ كلُّه في يديك، والشرُّ ليسَ إليك).
أي إنّك لا تخلق شراً محضاً، بل كلّ ما تخلقه فيه حكمةٌ، هو باعتبارها خير، ولكن قد يكون فيه شرّ لبعض الناس، فهذا شرّ جزئي إضافي، وأما الشرّ الكلّي أو المطلق، فالربّ منزه عنه، وهذا هو الشرّ الذي ليس إليه.
وثمة أقوال أخرى في شرح هذه الجملة النبوية؛ منها: أنّ الشر لا يُتقرب به إليك، وقيل إن الشر لا يصعد إليك، إنما يصعد إليك الكلم الطيب والعمل الصالح، وقيل إن الشر لا ينسب إليك أدباً، فلا نقول يا خالق الخنازير، وإن كان خالقها.
أما كثرة الموت الناجم عن الحروب، ومنها الثورة السورية التي نحياها الآن، فهو ضررٌ واقعٌ على كل حالٍ، فحياة الكائن المحدود تنتهي بالموت لا محالة، ولا فرق بين موت الألوف معاً وموت الآحاد متفرقين، من حيث حقيقة الموت.
وتجدر الإشارة هنا أنّ الحروب غالباً ما يكون سببها أطماع بني آدم المادية وشهواتهم النفسية ورغبتهم العارمة في حب السيطرة والعلو والاستكبار في الأرض، وليست شراً نازلاً على الناس من السماء لا يستطيعون له دفعاً، فكيف يُعترض على الله ورحمته وقدرته وعدله ما دام بنو آدم هم أنفسهم من يشعلون الحروب ويقتل بعضهم بعضاً، ويدمرون وسائل العيش؟ ألم يُقتل أكثر من ستين مليوناً من البشر في الحربين العالميتين الأولى والثانية؟ هل كان سبب قتل هؤلاء طاعوناً أو فيضاناً أو زلزالاً، أم إنها اليد البشرية الآثمة التي تحولت إلى آلة دمارٍ وتخريبٍ للحياة والأحياء جميعاً؟
ومن هنا يصبح اعتراض بعضهم على حكمة الله تعالى بما يرونه من حال البشر من صراعاتٍ وحروبٍ اعتراضاً لا معنى له، إذ هو ناشئ عن جشع البشر وعدم التزامهم أوامر الدين، فأمريكا -مثلاً- تدفع لمزارعيها تعويضاتٍ حتى يمتنعوا عن زراعة القمح لكي تحتفظ بسعره عالياً، والبرازيل تلقي البنّ في البحر حتى لا تنخفض أسعاره.
فهل يقول عاقل: إن ما تفعله أمريكا والبرازيل يتناقض مع حكمة الله وكمال ربوبيته؟
من صفات الله عز وجل: أنه يدبر الأمر، يقول الله تعالى في محكم تنزيله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5].
فهو سبحانه وتعالى يدبر الأمور ويصرفها كما يشاء بقدر منه عز وجل لحكمٍ يعلمها سبحانه وتعالى، تسير أمور العالم كله وفق إرادته عز وجل لا تحيد يمنةً ولا يسرةً عمّا قدره الله سبحانه وتعالى وكتبه في اللوح المحفوظ، فإذاً ليس في هذا العالم وما يحدث فيه من خيرٍ أو شرٍّ، من نصرٍ للمسلمين أو هزيمةٍ، من رفعةٍ لهم أو ضعةٍ عليهم، إلا وهي حادثةٌ بتقدير الله سبحانه وتعالى.
الملحدون وأمثالهم يريدون عالماً لا شرّ فيه ولا نقص، عالماً لا موت فيه ولا مرض ولا ألم، إنهم يريدون أن يكونوا آلهةً لا بشراً، أو على الأقل يريدون الحياة جنةً فيها ما تشتهيه أنفسهم من خيرات ونِعَم. أمّا المؤمن فإنه يعلم أنّ الأمراض والآلام من طبيعة هذه الحياة الدنيا، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4].
ومعنى الآية أن جنس الإنسان مغمورٌ بمكابدة المشاق والشدائد، والتعب والمعاناة حتى الموت.
حقيقة الدنيا أنّها دار عملٍ واختبارٍ وبلاءٍ، وهذا من لوازمه أن يخلق الله تعالى الخير والشر، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35].
فقبل الحديث عن هذه المشكلة علينا أن ندرك الحكمة من وجودنا، الحكمة هي الابتلاء والاختبار، والاختبار يتضمن أسئلةً، والإجابة الصحيحة تؤدي إلى نجاحٍ في الآخرة، أما الإجابة الخاطئة فتؤدي إلى الخسران، يقول الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2].
ولقد أنبأنا الله تعالى في كتابه الكريم بأمثلةٍ من الابتلاءات التي ستصيبنا في حياتنا، فقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155].
ومن هذا المنطلق، فإن المؤمن لا يرى فيما يعانيه من آلام وما يصيبه من شرّ مشكلة، ما دام يعتقد أنه في قاعة امتحان.
ومن المعلوم كذلك أن مجرد الابتلاء ليس شراً، ولكن الشر أن نسقط في الامتحان، لأن الابتلاء لا بد حاصل: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2].
ولا بد أن يعلم المؤمن أنّ معالجة الشر والصبر عليه احتساب الأجر، يرفع صاحبه يوم القيامة درجاتٍ ومقاماتٍ عاليةً في الجنان ما كان ليحظى بها لولا البلاء والصبر عليه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 – 157].
والله تعالى مع الصابرين بعونه وتوفيقه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153].
وفوق ذلك يحوز الصابر محبة الله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:46].
ويكفينا في هذا المقام حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمرِ المؤمنِ إنَّ أمرَه كلَّه خيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاءُ شكرَ فكانَ خيراً له، وإن أصابته ضرّاءُ صبرَ فكانَ خيراً له).
http://shamkhotaba.org