مقدمة:
رمضان لم يقترب، نحن الذين اقتربنا منه، منّا من يأتيه ركضاً ومنّا من يأتيه زحفاَ، منّا من يأتيه روحاً وجسداً، ومنّا من يأتيه جسداً بلا روح!
وقد قال سلفنا الصالح: "من لم تهرول روحُهُ في شعبان، عجزتْ عن الركض في رمضان".
1- رمضان... يا خير منتظر
تستقبلُ الأمةُ الإسلاميةُ بعد أيامٍ قلائلَ شهراً من أعظم الشهور عند الله، شهرٌ تهفو له نفوسُ المؤمنين شوقاً، وتطربُ لذكره أرواحُهُم، فيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألفِ شهرٍ، شهرٌ جعلَ اللهُ صيامَهُ فريضةً، وقيامَ ليلِهِ تطوعاً، مَنْ تقرّبَ فيه بخصلةٍ من الخير كان كمن أدّى فريضةً فيما سواه، شهرُ الصبرِ؛ والصبرُ ثوابُهُ الجنةُ، وشهرُ المواساةِ.
قال أبو بكر البلخي: "شهرُ رجبَ شهرٌ للزرع، وشعبانُ شهرُ السقيِ للزرع، ورمضانُ شهرُ حصادِ الزرعِ، وعنه قال: مَثَلُ شهرِ رجبَ مَثَلُ الريحِ، ومَثَلُ شعبانَ مَثَلُ الغيمِ، ومَثَلُ رمضانَ مَثَلُ القَطْرِ"
ومنْ لمْ يزرعْ ويغرسْ في رجبَ، ولمْ يَسقِ في شعبانَ فكيف يريدُ أنْ يحصُدَ في رمضان؟!
البركةُ في البكور، والتاجرُ الحَذِقُ الحريصُ الناجحُ ينهضُ قبل غيرِهِ لجنيِ الأرباحِ وإدراكِ الفلاح، وكلُّنا يعلمُ أنّ الناسَ يومَ القيامةِ يتفاضلون فيما بينهم بعمل يومٍ بل ساعة بل ولحظة؛ وحسرةُ القيامةِ لا تعدلها حسرةٌ، والفوزُ فيه أو خسارتُهُ لا يعدلها شيءٌ، ولا يستطيعُ العبدُ تداركَ ذلك، فإنّ يومَ القيامة هو اليوم الآخِرُ الذي لا يومَ ولا عملَ بعده، فإما جناتٌ عرضُها السماواتُ والأرضُ -جعلنا الله وإياكم من ساكنيها-، وإما نارٌ حاميةٌ والعياذ بالله.
فيا أيها المشمرون، ويا أيها السالكون إلى رضوان الله وجناته: مَنْ سبقَ منكمُ اليومَ إلى الخيرات كان السابقَ لغيره غداً في درجات الجنات، ومَنْ تقدّمَ اليومَ في الصفوف الأولى تقدّمَ يومَ القيامةِ ناحيةَ الحوضِ ليكون أوّلَ مَنْ يحظى برؤية سيدِ البشرِ صلى الله عليه وسلم.
كُنْ من السابقين ولا تتأخرْ عن عظيمِ فضلِ اللهِ ورحماته في هذا الشهر العظيم، وإياك أنْ تكن من المتأخرين وقد حذرك حبيبُك َمحمدٌ صلى الله عليه وسلم فقال في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ).
يؤخرهم ربهم عن دخول جنتِهِ، وإنْ دخلوا يؤخِّرُهم في الدرجات، فكيف يطيقُ قلبُ المؤمنِ هذا الحرمانَ؟!
2- انسحبْ مِنْ صنفِ الغافلين، واحذرْ مكيدةَ الشيطانِ في شعبان
لقد أبان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنّ شهرَ شعبانَ شهرٌ يغفلُ فيه الناسُ، فقال كما في حديث أسامةَ بنِ زيدٍ رضي الله عنهما: (ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ).
فهل ترغبُ أيها المؤمن أنْ تكون من صنف الغافلين؟ أم ستمضي عكسَ التيارِ؟ هل تخرق هذه القاعدةَ وتكون المبادرين؟ إنْ معظم الناس –كما بيّن الحديث- كسالى نيامٌ فهل تكون أنت المنتبه اليقظ؟ كلنا يعلم أنّ الناس ستزدحم -وهنيئاً لهم هذا الازدحام- على أبواب الرحمات في رمضان ويسابقون في أعمال الخير المختلفة، ولكن حريٌّ بنا أن نكون ممن يستغلُّ ما بقي من شهرِ شعبانَ لدخول رمضان على أفضل حالٍ ونكونَ فيه من الفائزين.
وهنا علينا الانتباهُ جيداً لمكيدةٍ شيطانيةٍ خطيرة، وهي أنّ الشيطان يغزو قلوب العباد في هذا الشهر-شعبان- بضرورة أخذ فترة راحة، ويتم تعويضها في شهر الخير والبركات!! ويفتح على الإنسان بابَ التمنّي على مصراعيه، فشهر رمضان سيتم فيه التعويض! ولكن من لم يستعد قبل رمضان لفعل الخير سيفاجأ بقدوم الشهر غداً وبالسرعة انقضاء الأيام والشهور، فسرعان ما سينقضي الشهرُ المرتقبُ -رمضان- ويضيع على المرء خيرُ الشهور، والبركات العظيمة فيه... فانتبه لذلك يا عبد الله وبادر بالأعمال الصالحة في استقبال هذا الشهر الفضيل وعوّد نفسك الخيرات قبل دخوله.
3- خطوات الاستعداد
وربما لسائلِ أن يسأل فكيف يكون الاستعداد لرمضان فيما بقي من هذا الشهر؟
وإليك أهم خطوات الاستعداد هذا:
المحافظة على الفرائض: فالفرائض أساس والنوافل حرّاس: وقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ).
والفرائض قسمان: تركٌ للمحرمات: أكل الحرام -النظر لحرام- المشي للحرام، وفعلٌ للواجبات: من صلاة وزكاة وصلة أرحام وبر للوالدين.
فكن وقّافاً عند حدود الله، محافظاً على فرائضك، فهذه من أعظم الاستعدادات.
أكثرْ من قراءة القرآن: من الآن، وقد ورد عن سلمة بن كهيل قولُهُ: شهرُ شعبان شهر القرّاء، وكان حبيبُ بن أبي ثابت يقول: إذا دخل شعبان قال: هذا شهرُ القراءِ. وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته -دكانه- وتفرّغ لقراءة القرآن.
وليكنْ في بالك هذا العام وأنت تقرأ القرآن بنية الاستكثار من الحسنات أن تقرأه بنية التدبر والخشوع والخروج بفوائدَ عمليةٍ مما تقرؤه، فنحن أهل القرآن لدينا هذا الكنز والعطاء العظيم يُصلح حالنا ومآلنا قطعاً، وصدق ميمون ابن مهران إذ قال: "لو صلُح أهلُ القرآن صلُح الناس!".
سلامة الصدر وإصلاح ذات البين: عن معاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (يطّلع الله على خلقه في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن).
ومِنْ هذا الحديثِ نفهمُ خطورةَ الشحناءِ والبغضاء التي تحُلُّ في مجتمعاتنا اليوم -ويا للأسف- وضيفُنا المنتظرُ هو فرصةٌ لإصلاح قلوبنا وعلاقاتنا كافةً لنستحق أنْ ينصرنا الله على عدونا الظالم الفاجر -جعله الله عبرةً لمن يعتبر-.
يا عباد الله الذين تترقبون شهركم العظيم، يقول نبيكم محدثاً عن أفضل الناس فيقول في الحديث الذي يرويه عبد الله بن عمرو قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل؟ قال: (كل مخموم القلب، صدوق اللسان)، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: (هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل، ولا حسد).
خطط جيداً لاستغلال كل لحظةٍ في هذا الشهر: إن من يعتقد أن فتوحاً مفاجئاً سيحل على المرء في رمضان يغير من حاله فهو مخطئ، لذلك فعليك أيها المسلم أن تخطط مسبقاً لاستغلال شهرك المبارك.
وها أنت ستقبل على شهرٍ ثمينٍ معدودةً أيامه، محدودةً أنفاسه، عظيمةً معانيه.... فكنْ من أحرص الناس على استغلاله ومن وفقه الله لذلك فهو الموفق.
4- من فوائد الصيام (تعوّدْ فعل الخير)
ولنعلم يا عباد الله أنّ من أهداف مدرسةِ الصومِ هذه أنْ تصل بالإنسان ليكون فعلُ الخيرِ في نفسه عادةً؛ والعادةُ هذه تحتاج لتكرارٍ ومجاهدةٍ للنفس؛ يقال في علم النفس أنك تستطيعُ تغييرَ أيِّ عادةٍ فيك أو اكتسابَ أيِّ عادةٍ تريدُ في واحدِ وعشرين يوماً، ومن هنا نفهمُ أنّ من مقاصدِ مدرسةِ الصيام التدربَّ على الطاعات والخيرات لتصبح فيما بعدُ طبعاً في الإنسان؛ وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الخير عادة، والشر لجاجة، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين).
والحديث يشير لأمرين هامين:
الامر الأول: أنّ فعل الخير يأتي بالتعود -كما ذكرنا-فمن تغيّرت فطرته أو لم يكن في أصل فطرته جواداً مثلاً فإنه يستطيع أن يصبح كذلك وهكذا سائر الصفات يستطيع الإنسان التخلق بها والوصول لمبتغاه.
ولذلك نفهم معنى قول سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام لكلب اعترض طريقه: "اذهب عافاك الله!"، فقيل له تخاطب كلباً هكذا؟! فقال: "لسان عوّدته الخير فتعوّد".
والأمر الثاني: أنّ الإنسان مولود على الفطرة، مجبول على حب الخير وفعله، وكراهية الشر وأهله، وإن فعل الشر فإنه يشعر بالضيق والمشقة وأن قد مال وعاكس فطرته.
فتكون الثمرة المقصودة في رمضان وهي قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة: 183].
وهي بشرى ساقها ابنُ القيم رحمه الله تعالى: "إنّ من ثواب الهدى الهدى بعده، ومن عقوبة الضلالة الضلالةُ بعده".
ولنفهمَ حقيقةَ مدرسةِ رمضان والتي هي تهذيبٌ شاملٌ لحياة المسلم في عاداته: (طعامه وشرابه...)، وعباداته: (صومه وصلاته وأذكاره وقرآنه....)، وعلاقاته: (مع أهله وجيرانه وأصحابه وسائر الناس...)، وقناعاته: (عن نفسه وقدراته وطاقاته وإرادته)، في سائر مجالات حياة المرء يأتي منهجُ رمضان مغيِّراً حالَ الإنسانِ لأحسن حالٍ... فطوبى للفاهمين الفائزين.
5- أرباح رمضان
تأمل معي يا عبد الله في هذه العطايا والأرباح الهائلة في هذا الشهر:
مغفرةُ ما تقدّم من الذنوب: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه).
أجرٌ بغير حساب: عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ).
شفاعة يوم القيامة: قال صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح: (الصِّيام والقرآن يَشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربّ، منعته الطّعام والشّهوة، فشفّعني فيه، ويقول القرآن: منعته النَّوم بالليل، فشفّعني فيه، قال: فيشفّعان).
ثوابٌ يفوقُ الخيالَ: عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! مُرْني بأمر آخذه عنك، ينفعني الله به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليك بالصوم، فإنه لا مِثلَ له)، وفي رواية (لا عِدلَ له).
إجابةُ الدعاءِ: أخرج البيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر).
إطفاءُ نارِ الشهوات: عن ابن مسعود قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَابًا لَا نَجِدُ شَيْئًا فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ منكُم الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ).
البعدُ عن النار: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ صَامَ يَوْماً فِي سَبِيلِ الله بَعَّدَ الله وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا).
الفوزُ بالجنة: عن أبي مالك الأشعري والترمذي عن عليٍّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ في الجنة غرفاً يرى ظاهرُها من باطنها، وباطنُها من ظاهرها، أعدّها الله تعالى لمن أطعم الطعام، وألانَ الكلامَ، وتابعَ الصيامَ، وصلى بالليل والناس نيام).
فيالفوز من وفقه الله في هذا الشهر المبارك، جعلنا الله وإياكم ممن يبلغونه ويكتبون فيه من الفائزين، ومن عتقاء هذا الشهر من النار، استجب دعاءنا يا عزيز يا غفار.
http://shamkhotaba.org