إضاءات ٌ دعويةٌ لخطيب الجمعة من خلال مناهج الأنبياء (النموذج الثالث: يوسف عليه السلام)
هو يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، ذكره الله تعالى في مجموعة الرسل الكرام الذين يجب الإيمان بهم تفصيلاً، وأثنى عليه بقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24].
ووصفه الله تعالى بالعفة والنزاهة، والصبر والاستقامة، وأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنّ الكريمَ بنَ الكريمِ بنِ الكريمِ بنِ الكريمِ، يُوسفُ بنُ يعقوبَ بنِ إسحقَ بنِ إبراهيمَ)
وسنختار من سيرة هذا النبي الكريم مشهداً واحداً؛ هو مشهد السجن وما حصل فيه من رؤيا السجينين وطلبهما إلى يوسف عليه السلام تأويلها.
أول درسٍ يجب على الدعاة والخطباء تعلمه من هذه الواقعة هو ضرورة اغتنام الفرص واستغلال الحوادث؛ فالداعي إلى الله سواءٌ كان خطيباً أو واعظاً يستغلّ حاجة الناس إليه في دنياهم لدعوتهم إلى الله سبحانه من غير منٍّ ولا أذىً، ولكن بكمال الشفقة والبحث عن مصلحة دينهم قبل مصلحة دنياهم، ويجعل الدنيا مدخلاً للدين، ويذكر ما أقدره عليه من قضاء حاجات الناس مع نسبة الفضل لله وحده. لقد علم يوسف عليه السلام أنّ دعوة الناس أثناء قضاء حوائجهم أكبر أثراً في نفوسهم من سماع خطبةٍ أو محاضرةٍ، فإنّ الإنسان أسير الإحسان.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الناس عند كلّ واقعةٍ؛ موتٍ أو خوفٍ أو حزنٍ أو معصيةٍ أو خطأٍ أو مجرد ظاهرةٍ كونيةٍ أو غير ذلك، يرشدهم ويعلمهم بأسلوبٍ حكيمٍ وتوجيهٍ رشيدٍ، فينتهز الفرصة والمناسبة لتكون النصيحة عامّةً، وهكذا يبقى الحدث وما صاحبه من توجيهٍ وتعليمٍ صورةً منقوشةً في الذاكرة تستعصي على النسيان، وهذا فيه
-إضافةً إلى ما سبق- زجرٌ للمقصرين، ومحاسبةٌ للمذنبين، وذلك بالتعريض دون التوبيخ، وبالتلميح دون التصريح، من خلال قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوامٍ).
ولقد اختار السجينان يوسف عليه السلام لتعبير رؤياهم بسبب ما رأوا فيه من علامات الصلاح {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36].
وعلى الرغم من كفرهما فقد أحبوه وانجذبوا إليه، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حال الدعاة إلى الله تعالى من أخلاقٍ حسنةٍ ترغم الناس على حبهم والثقة بهم والاطمئنان إليهم.
ومع ذلك كله، لم يكتفِ يوسف عليه السلام بما ظهر من هذين الرجلين من ثقةٍ، فقد حاول أن يزيد من هذه الثقة بقوله: {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [يوسف:37].
وهنا قبل أن يجيبهما استغل هذا الموقف ليبدأ بدعوة هذين الرجلين على الدين الحقّ، فكذلك المشتغلون بالدعوة من خطباء وواعظين، لا ينبغي أن يقتصروا في فتاواهم للناس بقدر أسئلتهم، بل يعلمونهم ما يرون أنهم بحاجةٍ إليه دون أن يسألوا.
والدرس الثاني هو الاعتناء بفقه الأولويات، وأولى الأولويات هو التوحيد؛ إذ هو أهم ما دعا إليه الأنبياء جميعهم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
إنّ الدعوة إلى التوحيد أمرٌ لا بد منه، والشرك لا هوادة ولا مداهنة في محاربته، فلا يجوز السكوت عنه مهما كانت الظروف، بل لا يجوز لمسلمٍ إطلاقاً أن يحابي أو يداهن في أمرٍ كهذا. لذلك بدأ يوسف عليه السلام بأصل الأصول؛ التوحيد، {أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُون}، والإيمان بالآخرة، {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [يوسف:37].
وهذان الأصلان ركنان عظيمان من أركان الإيمان، وهنا يعلمنا ربنا أن الحوار مع الناس والدعوة إلى الله يجب أن تبدأ بهذه الأصول العظيمة ليبنى عليها ما بعدها.
ويتابع في دعوته قائلاً لهما: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39].
مع أنهما سألاه عن رؤيا وينتظران الإجابة عن الرؤيا لكن ما كان ليجيب حتى يعلمهم ما هو أهم، فعن أنسٍ بن مالكٍ رضي الله عنهما: أنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم َمتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟)، قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ وَلَا صَدَقَةٍ وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ).
يعني ما هو الأهم الآن هل هو معرفة وقت الساعة أم الاستعداد لها؟ فصرف السائل عن الأقل أهميةً إلى الشيء الأكبر أهميةً، فهما سألا عن الرؤيا فجاءتهم الإجابة أولاً عن التوحيد.
وعندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً رضي الله عنه إلى أهل اليمن أوصاه وعلّمه أن يتدرج معهم؛ وذلك بأن يقدم الواجبات الأولى فالأولى، وأن يقدم الفرض على المندوب، فقال له: (إِنَّكَ تَأتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ).
وكي يصل الخطيب إلى هذا ينبغي أن يكون فقيهًا فيما يأمر وفيما ينهى، يعرف كيف يبدأ بما يناسب الناس، فيراعي أخلاقياتهم وأعمارهم وأوقاتهم، ويأخذهم بأسلوب التدرج إلى ما فيه الهدى والرشاد. وليعلم أنّ أمر الدعوة فيما يتصل بشأن العقيدة لا يحتمل التدرج حتى فيما يتصل به من عاداتٍ وتقاليد، وذلك لأنّ التوحيد هو الأساس الذي سيقوم عليه بناء الجماعة، ومنه ستنبثق العبادات، وعلى أساسه يقبل العمل.
ونشير أخيراً إلى أسلوب الحوار اللطيف الذي اتبعه النبي الكريم عليه السلام، فيطرح هذا التساؤل تنزلاً معهم، {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف:39-40].
هذه الآلهة من الذي سماها؟ أنتم الذين سميتموها، فكيف تعبدونها؟ إنّكم تعبدونها تقليداً لأسلافكم، وفي هذا الكلام استثارةٌ عقليةٌ لهم كي يعلموا حقيقة ما هم فيه من ضلالٍ بيّنٍ.
http://shamkhotaba.org