خطبةُ الجمعةِ ودورُها في سياقِ التغيير المجتمعي
الكاتب : خالد سراقبي
الثلاثاء 5 يونيو 2018 م
عدد الزيارات : 1798
مقدمة:
لقد أولى الإسلام الخطبة اهتماماً بالغاً، وأنزلها منزلة راقية لم تكن تحظى بها قبلُ، فهو لم يكتف بالحفاظ على الشريف النافع من ضروبها، كما أنه لم يقف عند حدِّ صبغِ هذا الفن باللون الديني وكسوته الصفة التعبدية، بل أبدع كل جديد يخدم الدعوة ويسهّل سبيل انتشارها، لتكون الخطبة إحدى أهم وسائل التبليغ والإعلام للأحكام والقواعد والعقائد الدينية التي جاء الإسلام لإقرارها.
ويكفي تشريفاً لها أنها وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم، والأنبياء من قبله بل كانت وسيلة الإعلام الأولى يوم صدع لينذر من على الصفا، ولم تزل ولاة أمور المسلمين تتناقل هذه الوظيفة على أنها تكليف لا يكون إلا للشريف حتى يومنا هذا.. 
لقد وُلد مع مولد الإسلام مجالات خطابية عديدة، كانت إقراراً بالإبداع الإسلامي وتفوُّقِهِ على كلِّ حضارةٍ، فجُعلت الخطبةُ عبادةً مفروضةً أو مسنونةً في المناسبات الدينية (الجمعة – العيدين- الاستسقاء.. الخ)، وطريقةً ناجعةً في استحثاث الهمم على الجهاد، وسبيلاً قويماً في الوعظ والارشاد، ومعالجة الاختلالات الفكرية السائدة في المجتمع  وخطب البيعة والاستخلاف والتولية وغير ذلك من مجالات لا مجال لحصرها هنا.
يمثّل فنُّ الخطبةِ في الوقت الحاضر المظهرَ الحضاريَّ للمجتمع الراقي؛ إذْ رقيُّها في التطور دليلُ تقدمِ المجتمعِ وفهمِهِ لروح العصر ومكامنِ إثارة البشر، وشاهدٌ على انتشار الثقافة فيه؛ وضعفُها دليلُ ذلٍّ وهوانٍ وتخلّفٍ وانحطاطٍ، لذلك فهي تحظى بمكانة رفيعة ومنزلة عالية ذات أولوية في أغلب المجتمعات تطويراً وتنويعاً وتقنيناً، رغم ما ظهر لها من منافسة وسائل الإعلام الأخرى. 
ومع كل هذا الرقي في العلم والازدهار في المعرفة تنوعت مجالات الخطابة بتنوع أغراضها ومقاصدها حسب متطلبات المجتمع، قضية حتمية فرضها الواقع والتطور، فظهرت الخطبة النيابية، والخطبة الثقافية، والخطبة الانتخابية، والخطبة القضائية، والخطبة العسكرية زيادة على تربع الخطب الدينية على عرش فن التأثير.. وغير ذلك.
وقد عالجت الخطبة عبر تاريخها الطويل كثيراً من المشكلات الفكرية والمجتمعية من خلال خطب منبرية كان لها الدور الكبير في حلها سواء كانت اختلالات عقدية، فكرية، اجتماعية.....
إن من أولى ما يجب أن تُصرف إليه الجهود، وتُعنى به الشعوب، ويكون شغلَ أولي النهى من أرباب العلم والقلم، هو الحفاظُ على النهج الفكري الصحيح، والعملُ على ترسيخ استقرار أركانه وحماية أمنه، ذلك أنّ الفكرَ عظيمُ الأهميةِ لكونه ينبع من ارتباطه بدين الأمة وقناعاتها واعتقاداتها، وهو الباعث لاسترداد عزها ومجدها، وله الدور الأكبر في حماية أسس الحياة ومرتكزات النجاح فيها.
والتهاونُ في قضية الأمن الفكري والإخلالُ به إخلالٌ بالأمة وحاضرها، واستخفافٌ بماضيها ومستقبلها، بل إن الأمة التي تتهاون في حماية أمنها الفكري وتشرّع أبوابها للاختراقات الثقافية هي أمة معرضة للزوال ثقافياً وفكرياً ودينياً، لكونها متأثرة منفعلة بأديان وثقافات الأمم الأخرى وأفكارها.
لذلك ينبغي على خطيب الجمعة عند تناوله لقضية الانحراف الفكري أن يؤكد على هذا الجانب، لما يحقّق من استقامةٍ في السلوك، وإيجابيةٍ في التعامل، وتزكيةٍ في الخلق.
ولما كان الفكرُ ركيزةً في الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة الإسلامية لحمايتها والمحافظة عليها، كان لزاماً على الأمة أن توفر كلَّ وسائل الحماية له والدفعِ عن حياضه.
ومن وسائل الحفاظ على الأمن الفكري للأمة:
1- توفير كل أسباب حماية الفكر الصحيح واستقامته، استناداً إلى واقع الأمة وفكرها النابع عن العقيدة.
2- رصد كل تحرك أو عمل من شأنه التأثير على سلامة الفكر واستقامته، والقضاء عليه أو منعه.
3- رسم خطط متكاملة مترابطة واعية يكون هدفها معالجة أسباب الاختلال الفكري في المجتمع.
4- أن تكون المعالجات الأمنية، مستقاة من مصادر فكر الأمة وعقيدتها، منسجمة مع واقعها.
5- العمل على تغيير الاختلالات الفكرية كضرورة ومقدمة للتغيير والتقدم الفكري.
6- الترويج الثقافي البنّاء: ونشر الفكر الصحيح إعلامياً، عبر وسائل الإعلام المتاحة مقروءة أو مسموعة أو مرئية، واستغلال المناسبات للحديث عن القيم الفكرية المشوهة، وحث الأمة للرجوع إلى القيم الفكرية الصالحة. كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة ص: (1/83)/ لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي (المتوفى: 1425هـ)/نشر: دار القلم - دمشق/ الطبعة الثانية، (1412) هـ - (1991) م
إن مادةَ الإعلام الفكرُ، وكلما كان الإعلامُ ناضجاً إنسانياً مدركاً لحقيقة الاستخلاف كان الفكر ناضجاً نامياً متوافقاً مع الفطرة البشرية وملبياً للحاجات العقل الإنساني، لذلك يجب معرفة دور الإعلام الصحيح في الحفاظ على نقاء الفكر من شوائب الاختلال وقدرته على تنقيته من الفساد والتخلف الفكري.
يُعدّ المنبرُ من أهم وسائل تغيير الأفكار، وله تأثيرٌ يوازي تأثيرَ القنوات الإذاعية، إذ يُعدّ المنبرُ منذ بداية الإسلام الواجهة الإعلامية، فقلما تجد حادثة جرت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ونادى في الناس وصعد المنبر وعلّمهم من أمور دينهم؛ وكذلك الخلفاءُ من بعده كان المنبر وسيلةً لهم لبيان البرنامج السياسي الذي سيحكم فيه، أما في عصرنا أصبح المنبر أسيراً إما بيد السلطات الحاكمة أو بآراء التيارات الفكرية التي يتبنى فكرها الخطيب، أو أن الخطيب بعيدٌ عن الواقع!
لذا لا بد من إعطاء المنبر دوره في نشر الأفكار السليمة ومحاربة الأفكار الخاطئة التي تغزو مجتمعاتنا وذلك من خلال مايلي:
أ‌- أن يتولى الخطابة المتقنون لهذا الفن وإبعاد الذين لا يملكون الكفاءة لتولي هذه المكانة.
ب‌- الابتعاد عن الألفاظ والعبارات التي تؤدي إلى تمزيق الأمة.
ت‌- أن تكون الخطبة مناسبة للواقع والظرف الذي يحيط بهذا الخطيب فلكل مقام مقال. 
ث‌- الابتعاد في الخطبة عن العصبية للتيار الفكري أو للحزب الذي ينتمي إليه الخطيب.
ج‌- تجنب الأحاديث الموضوعة في الخطبة.
ح‌- أن يكون عاملاً مطبقاً لما يقول ويعظ به.
دور الخطبة في التأثير:
بات الإعلام اليوم -بغير شك- من أكثر وسائل التأثير على الفكر البشري، أفراداً وجماعات ومجتمعات، فهو يصوغ الأفكار ويؤَطر القضايا ويشبع العقول بالمواد الفكرية التي يعرضها، لأنه يخاطب العقل مباشرة بطريقة غير صدامية ولا تهجميه كما هو الحال في الأسلوب العسكري، فيوجهه إما نحو إشباع الغرائز والشهوات، أو نحو التنمية وزيادة المهارات، لذلك لا تخفى قدرته حفاظاً أو هدماً على الفكر وسلامته.
مجالات الإعلام كثيرة، منها الصورة المرئية ومنها الكلمة الإذاعية، ومنها الخطبة، ومنها الندوات والمحاضرات والمرافعات القانونية وغير ذلك كثير.
ولما كانت الخطبة أرقى وأقدم صور التبليغ الإعلامي تأثيراً، كان الاهتمام البشري بها قديماً ومستمراً، فهي عبارةٌ عن كلمةٍ مسموعةٍ فيها من المؤثرات الإقناعية ما ليس في غيرها، بل إن كل ما سواها من وسائل الإعلام يعتمد على المؤثرات الخطابية لتحقيق هدفه وإيصال رسالته، لذلك لم يزل هذا الاهتمام والتطوير يطأ جنباتها، للاستفادة منها كفن أولاً وكوسيلة إقناع وتبليغ ثانياً.
ذلك أن الخطبة تحمل ميزات الصورة المرئية والصوت المسموع والكلمة المقروءة، فتتغلغل إلى عقلِ المتلقي، الذي قد يَقبل بوعي أو بلا وعي المواد التي تُعرض، فيحسّن ويقبّح ويجمّل ويشوّه بناءً على هذا السيل من الأفكار التراكمية التي تأتية قِبل اليمين والشمال .
إننا من خلال النظر إلى مفهوم الخطبة وأنها أيضاً عملية توجيه الأفراد بتزويدهم بالمعلومات والأخبار والحقائق لمساعدتهم على تكوينِ رأيٍ ما في واقعة محدودة أو مشكلة معينة، يظهر جلياً أننا بحاجة ماسة لإبداعٍ خطابيٍ، أو تجديد دورها في معالجة الانحراف الفكري الحاصل، وإظهار مقدار الخطر الناتج عنه على الأمة بأسرها، وذلك بالتحرك في كلِّ اتجاهٍ لمواجهته ببيانِ أو توجيهِ كل فكرٍ منحرفٍ، وإظهار عواره والمطاعن التي فيه، والتي قد تخفى على أكثر الناس. انظر: الحاجة إلى تنسيق وتكامل إعلامي تربوي بين دول الخليج العربي/بحث مقدم للاجتماع المشترك بين التربويين والإعلاميين/ ص: (2)/ د. حمود عبد العزيز البدر/ السعودية - الرياض مكتب التربية العربية لدول الخليج (1409) هـ‍.
إن الخطبة المتكاملة السليمة ترتكز على أسس تزويد الإنسان بالحقائق، وتعتمد في سبيل تبليغ رسالتها على تبيين مواضع الضعف عبر عرض مشكلات المجتمع الثقافية والاجتماعية والسياسية، من أجل الوصول إلى تكوينِ رأيٍ عامٍ متكاملٍ يعي ويدرك حقائق الحياة ومشكلاتها، ويستطيع التغلب عليها وتجاوزها. 
وبما أن خطبةَ الجمعة دورةٌ أسبوعيةٌ تحقق اتصالاً دورياً بين الخطيب والناس، فإن البداهة تحكم بقدرتها على تطوير الفكر المجتمعي وتهذيب العقل الجمعي ونقله إلى طور متقدم في خدمة الأفكار العامة الصادقة والأساسية وتحقيقها، والإرشاد إلى الغاية التي استخلف الإنسان لأجلها في هذا الكون وعمارته بطاعة الله.. وذلك عبر توضيحها للرؤية الفكرية للدين وقيمته الإنسانية.
إن الخطبة القائمة على أُسس قوية من العلم والفكر والإيمان لهي ذات فاعلية في مد المسلم بالقيم الصحيحة والحقائق القاطعة والتي تقوده نحو القضاء على المذاهب الباطلة المعادية للإسلام وللإنسان، فهي لا تكتفي بتصحيح المفاهيم العلمية الخاطئة لدى كثير من الذين بهرتهم ثقافة الغرب وقضاياه الفكرية، بل هي ذات قدرة على تقديم تقدم البديل عبر توضيح الفِكر الإسلامية المستنبطة من مصادر الإسلام والتي تنتج فهماً سليم وواعياً لطبيعة هذا الدين الحنيف.
إن عرض الخطبة للمشكلات الاجتماعية وحلولها عرضاً قائماً على البحث الحقيقي ومعرفة واقع الناس وما يحتاجون إليه سيقلص حتماً من آثار من وسائل الانتشار الفكري المضلل، الذي يصبو للآن يصوغ الفكر وفق ما يرسم له أعداء الأمة، كما يؤدي إلى تفاعل جميع طبقات المسلمين مع قضايا المسلمين.
إن الانطلاق في التصحيح يكون بمعرفة واقع المخاطبين وإدراك الجوانب التي تمسّ حياة البشر، ثم صياغة الخطاب بشكل يحاكي هذا الواقع ويعالج قضاياه من غير إفراط في التحليلات والاجتهادات الخاصة، بل يعتمد على بيان وجه القضية، والمنهج الشرعي في التعامل معها.
إن ميدان الخطيب فسيحٌ في أرضِ الفكرِ، لذا فإن تأكيدَ خطابِهِ لقيمةِ الترابط برباط الأخوة في سبيل تحقيق هدف الخطبة الأساسي بالدعوة إلى الله عز وجل سيكفل تبادل الخبرات بين أفراد المجتمع.
 

http://shamkhotaba.org