أبشروا وأمّلوا فالمستقبل لكم
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الخميس 16 أغسطس 2018 م
عدد الزيارات : 1996
مقدمة:
في زمنٍ تشيعُ فيه نفسيّةُ الانكسارِ والتشاؤم، وتخبو نفسيّةُ التفاؤلِ والعمل، ويعلو صوتُ العجزِ والوهنِ، ويكادُ يتلاشى صوتُ العزيمةِ والإصرارِ على صنع المستقبل، في زمنٍ يُتسارَعُ فيه إلى الاستسلام إلى وهْمِ المؤامراتِ والواقعيةِ المحبوكة، ويندُرُ منطقُ الثباتِ والعلوِّ بالحقِّ... عندئذٍ يصبح لازماً أن نستحضرَ منهجَ المصطفى صلى الله عليه وسلم يومَ الأحزابِ إذْ بلغتِ القلوبُ الحناجرَ وهو يقول: (الله أكبر، أُعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا، باسم الله، الله أكبر -الضربة الثانية- والله إني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا) رواه أحمد: 18694، وحسّنه ابن حجر في الفتح.
1- المعركةُ الحقيقيةُ
النصرُ والهزيمةُ بدايةً وقبلَ كلِّ شيءٍ هو انتصارُ النفوسِ أو هزيمتُها؛ فالواقعُ تصنعُهُ النفوسُ المؤمنةُ بالنصر، التي لايهُزُّها خسارةُ معركةٍ أو بعضِ معاركَ، لأنها تؤمنُ بالمعركة الفاصلة التي يعلو فيها الحق على الباطل؛ إيمانُها بالنصر بقدرِ إيمانها بالحق الذي تنافح عنها، وقوتُها مستمَدَّةٌ من قوةِ مبادئها، لذا فهي لا يَدخُلُها وهنٌ ولا عجزٌ، بل هي دائماً وأبداً معتزةٌ شامخةٌ بمبادئها؛ وشموخُها هذا هو الذي يُرهِبُ العدو ويقُضُّ مضجَعَهُ.
لذا لما خاطب الله هذه النفوس المؤمنة بالحق ودعاها لأن لا تَهِنَ ولا تخنع ذكّرها بإيمانها، فقال: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلوم إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 139، 140]، نعم فأنتم الأعلون بإيمانكم.
لذا فإن العدو يجهد دائماً لضرب ثباتِ هذه النفوس بإلقاء الشائعات وروح الإحباط بيننا.
ويقُصُّ الله علينا قصةَ فرعون وجنودِهِ لما لحقوا بموسى وقومه، فقال مَنْ ضعُفت نفوسُهم: إنا لمدركون! فقال موسى: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].
2- اليقينُ بالمستقبل
كان نبينا صلى الله عليه وسلم مطارداً من قومه، أخرجوه من بيته وبلده، ثم يحاصرونه في غزوة الأحزاب، فتجتمع قريش وغطفان وأسد وفزارة وأشجع وقبائل، وقالوا هذه هي، ضربة واحدة، هجمة واحدة، اتحاد القبائل العربية المشركة للهجوم على المدينة، وتحزبوا... {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10].
وبلغت القلوب الحناجر من الخوف والفزع، {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 11].  
ومع ذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول عند ضرب الصخرة: (الله أكبر، أُعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا، باسم الله، الله أكبر -الضربة الثانية- والله إني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا، باسم الله والله أكبر -ضرب الضربة الثالثة- الله أكبر، أُعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا).
بالرغم من اجتماع العدو وضعف العدو وقلة عددهم بالنسبة، والبرد القارس، والضرر الذي نزل بهم، والحصار، والشتاء، والظلام، وأنواع المخيفات الكثيرة، مع ذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- يعطي البشائر، بشارة تلو بشارة، ليس فقط بأن ينهزم جيش المشركين، بل بفتح ممالك كسرى وقيصر!
هذا عدي بن حاتم رضي الله عنه وكان قد فرّ من النبي -عليه الصلاة والسلام-، ثم أتاه راغباً في الإسلام، وأسلم، وجلس، فإذا برجل يأتي يشكو الفاقة -الفقر- ثم جاء آخر يشكو قطع السبيل إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فوقع في نفسه، كيف يُمكّن هذا الرجل وأصحابه منهم من جاء يشكي الفقر، وآخر جاء يشكي قطع الطريق، كيف هذا يملك ويحكم وينتصر؟
فيقول له النبي -عليه الصلاة والسلام-: (يا عدي، هل رأيت الحيرة؟)، قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها، وهذه بلد عربية عظيمة تحت ملك الفرس، قال: (فإن طالت بك حياة لترينّ الظعينة -المرأة في الهودج - ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحداً إلا الله).
يقول عدي: قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعّار طيئ -قطاع الطرق- في مكاننا هناك الذين قد سعّروا البلاد، ملئوها فسادا ًونهباً وسلباً وشراً... فقال عليه الصلاة والسلام مواصلاً: (ولئن طالت بك حياة لتفتحنّ كنوز كسرى)، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: (كسرى بن هرمز)، ثم قال: (ولئن طالت بك حياة لترينّ الرجل يُخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب مَن يقبله منه فلا يجد أحداً يقبله منه)، قال عديّ بعد ذلك: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنتُ فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم -يقول لمن حوله- حياة لتروّن ما قال النبي صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري: 3595
3- الفأل وأثره على العمل
التفاؤل والإيمان بالمستقبل المشرق المنتصر هو سلوكٌ يصنعُ به الرجالُ الأمجاد، هو نورٌ وقتَ شدةِ الظلمات، ومخرجٌ وقتَ اشتدادِ الأزماتِ، هو دقّاتُ القلبِ النابضِ.
بل إنه يمنحك قدرةً على مواجهة التحديات الصعبة والانكسارات، يرفع مناعتك ضد الإحباط، يقوي عزيمتك على الثبات والاستمرار، ففي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم-: (لا طِيَرَة، وَخَيْرهَا الْفَأْل)، قَالوا: وَمَا الْفَأْل يَا رَسُول اللَّه؟! قَالَ: (الْكَلِمَة الصَّالِحَة يَسْمَعهَا أَحَدكُمْ)، وَفِي رِوَايَة أخرى: (لا طِيَرَة، وَيُعْجِبنِي الْفَأْل: الْكَلِمَة الْحَسَنَة، الْكَلِمَة الطَّيِّبَة)، وَفِي رِوَايَة: (وَأُحِبّ الْفَأْل الصَّالِح).
وضد هذه الكلمة الحسنة أن يقول الناس: هلكنا، ولم يعد لنا طاقة، ولم يبق لدسنا قدرة على المواجهة، كل ذلك ينافي الفأل الصالح والكلمة الحسنة، فالكلمة الحسنة التي هي من الفأل الصالح منهج حياة، ومعادلة نصر.
4- الفألُ الصالحُ بصيرةٌ
المتفائلُ بالمستقبل يرى مساحاتٍ للعمل لا يراها غيرُهُ؛ فغيرُهُ يرى الجانبَ المظلمَ والعقباتِ والمثالبَ والعيوبَ، بينما المتفائلُ يرى مساحاتِ العملِ التي يمكنه أن يرتكز عليها ليناور ويتقدم.
بعد أن رفض أهل الطائف دعوته صلى الله عليه وسلم وآذوه ورجموه بالحجارة أتاه جبريل عليه السلام، فقال له: لو شئت لأطبقت عليهم الأخشبين فقال عليه الصلاة والسلام: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله). رواه البخاري: 3231، ومسلم: 1795
ومن عيون القصص التي في صفحات تاريخنا أن نور الدين زنكي -رحمه الله- وهو في حلب يخطط لفتح بيت المقدس، فمن التفاؤل صنع المنبر في حلب، وجمع النجارين وجمع حذّاق الصنّاع، فأمرهم بتحسينه وإتقانه وقال: "هذا قد عملناه ليُنصب ببيت المقدس".
فعمله النجارون في بضع سنين لم يُرَ في الإسلام مثله، لكن ما أراد الله أن يستمر نور الدين في الحياة ليشهد ذلك الموقف فمات، فأكمل الأمر من بعده صلاح الدين الأيوبي، وكتب الله على يدي صلاح الدين فتح بيت المقدس، فأّمر بمنبر نور الدين، فأُتي به من حلب ووضع ببيت المقدس.
وقد كان بين عمل المنبر وحمله إلى بيت المقدس ما يزيد على عشرين سنة!
5- التفاؤلُ بالمستقبل ثقةٌ ويقينٌ بالله
أُصيب المسلمون في أحد في أرواجهم، قُتل منهم سبعون صحابياً، كُسرت رباعية النبي -عليه الصلاة والسلام- وشُجّ وجهه، وأرهقه المشركون، وأصيب من أصيب بالجراح، وقال المنافقون: قضي الأمر وانتهى.
لكن الله قال للمسلمين المؤمنين أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 139-140].
فمهما تكاثف ليل الظلمات ومكر الأعداء، فالمؤمن يؤمن بأن الله تعالى سيتم نوره، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].
فاشدد يديك بحبل الله معتصماً     فإنه الركن إن خانتك أركانُ
كان -عليه الصلاة والسلام- وهو متوسِّدٌ البردةَ في ظل الكعبة ويقول له خبّاب: لقينا الشدة وحصل وحصل، والذي منا أُحرق، والذي منا سُجن، والذي منا عُذِّب، وهو يقول: (لقد كان الرجل في من قبلكم وذكر لهم أذىً أشد قال: وليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون). رواه البخاري: 3852
قال تعالى: {إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم} [الأنفال: 70]. 
والله عند حسن ظن عبده به.
ومن طريف ما يذكر: قال البرقي: "رأيت امرأة بالبادية وقد جاء البرد فذهب بزرع كان لها، قضى عليه كله، فجاء الناس يعزّونها- هذه امرأة مسكينة ما لها إلا هذا الزرع - فرفعت طرفها إلى السماء وقالت: اللهم أنت المأمول لأحسن الخَلف وبيدك التعويض عما تلف فافعل بنا ما أنت أهله، فإن أرزاقنا عليك وآمالنا مصروفة إليك".
يقول البرقي: "لم أبرح -ما انتهت المرأة من كلامها- حتى جاء رجل من مياسير البلد، من فضلاء الناس، فحُدث بما كان فوهب لها خمسمائة دينار، وخمسمائة دينار تساوي اليوم ما يقارب اثنين كيلو من الذهب".
وفي حادثة أخرى يقول ابن كثير -رحمه الله- في وصف قدوم التتار إلى الشام: "ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك الأراضي فساداً، وقلق الناس قلقاً عظيماً وخافوا خوفاً شديداً، واختبط البلد لتأخر قدوم السلطان -يعني سلطان المسلمين- ببقية الجيش، وقال الناس: لا طاقة لجيش الشام بلقاء التتار لكثرتهم، وتحدث الناس بالأراجيف، وتوجه الشيخ تقيّ الدين ابن تيمية -رحمه الله- إلى العسكر الواصل من حماة، فاجتمع بهم فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم، وكان الشيخ تقي الدين -رحمه الله- يحلف للأمراء والناس: إنكم في هذه الكرة منصورون، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً".
كان يتأوّل قول الله: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج: 60].
 

http://shamkhotaba.org