حُسنُ العبادة سرُّ السّعادة
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الخميس 30 أغسطس 2018 م
عدد الزيارات : 3848
مقدمة:
شهدت الأمّة أيّاماً عظيمةً مباركةً طيّبةً، أيّاماً اختصّها الله من بين الأزمنة، ولله خواصٌّ في الأزمنة والأمكنة والأشخاص، ولله في أيّامِ دهرِنا نفحاتٌ: أيّام الحجّ وأشهرُهُ، وأشهرٌ حُرُمٌ، وأيّامُ عشرِ ذي الحجّة، فقد اجتمعت فيها خيراتٌ عظيمةٌ تنافس فيها المتنافسون في الطّاعات والقربات، فمن حاجٍّ ومعتمرٍ وطائفٍ وملبٍّ وصائمٍ وقائمٍ، ومُنفقٍ في وجوه الخير من: صدقةٍ، وإطعامٍ، وأضحيةٍ؛ وبين تالٍ للقرآن ومهلّلٍ ومكبّرٍ وذاكرٍ.
1- كيف نفهم العبادة؟
ما أعظمَها من خيراتٍ تسابقَ فيه أهلُ الإيمان، ولكنّ الخطرَ المحدِقَ هو في فهم حقيقةِ العبادةِ والوقوفِ على الطّقوس الظّاهرة دون إدراكِ الهدفِ الأسمى من العبادة الّتي شرعها الله لعباده، ولذلك لا بدّ من تلمُّسِ وتتبُّعِ النّصوص الشّرعيّة الّتي أشارت بل صرّحت بالغاية الحقيقية التي شرع الله العبادات من أجلها.
نقرأ مثلاً في كتاب الله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحجّ: 37].
تأمّل قول الباري: {وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى} والتّقوى محلّها القلب، فالقضيّة ليست إنفاقاً، وليست مجردَ أضحيةٍ، بل حقيقة الأمر في صدقِ التوجّه، وصلاح القلب، وإخلاص النّيّة، وإفراد الله بالعبادة.
وكذلك نقرأ قوله عز وجلّ: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45].
نقرأ هنا في العبادة المتكرّرة في كلّ يومٍ خمس مرّاتٍ أنّ الهدف منها صلاحُ السّلوكِ وتقويمُ الأخلاقِ.
وكذلك لو انتقلنا إلى آيات الصيام لوجدنا أنّ الله تعالى حدّد الهدف من الصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
ويقول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: (مَنْ لمْ يدَعْ قولَ الزّورِ والعملَ به، فليس لله حاجةٌ في أنْ يدَعَ طعامَهُ وشرابَهُ). البخاريّ/1903
وفي الحج نقرأ حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ يقول -كما في الصحيحين-: (مَنْ حجّ هذا البيتَ، فلمْ يرفُثْ، ولم يفسُقْ، رجَعَ كما ولدتْهُ أمُهُ). البخاريّ/1819، مسلم/1350
فليس المقصودُ من العبادة مجرّدَ الحركاتِ الظّاهرةِ الّتي تمارسُها الجوارحُ دون أنْ تُؤثِّرَ في الباطن، وإنّما المقصودُ مع ذلك: عملُ القلب، من: الإخباتِ والتّذلّلِ والخضوعِ بين يدي الله عزّ وجلّ، وذلك هو روحُ العبادةِ ولبُّها.
2- حُسنُ العبادةِ سرُّ السّعادة
فأداءُ العبادةِ كما أمَرَ اللهُ بها هو سبيلُ سعادةِ هذه البشريّة بأكملها.
فالعبادةُ هي الزّمامُ الذي يكبَحُ جِماحَ النّفسِ البشريةِ مِنْ أنْ تَلَغَ في شهواتها، وهي السبيلُ الذي يحجِزُ البشريةَ عن التمرُّدِ على شرع الله تعالى.
والخللُ في أداءِ العبادةِ مُؤْذِنٌ بالخلل في هذا الكون.
فأعظمُ مقاصدِ العبادةِ حصولُ التّقوى الّتي هي الحاجز عن وقوع الإنسان في المعاصي، وهي كذلك المحرِّكُ الفعّالُ لهذه النّفس حتّى تنطلقَ من قيود الأرض، فترفرفَ في علياءِ السّماءِ، وتنطلقَ في أفعال الخيرِ بشتّى صوره.
فإذا كان مردودُ العبادةِ من التقوى والخشوع لله عزّ وجل ضعيفاً أو ميتاً، فإنّ الهدفَ الذي شُرعتْ من أجله العبادةُ لم يتحقَّقْ وبالتالي: تكون العبادةُ وكأنّها لم تؤدّ.
فعبادةُ اللهِ جلّ وعلا هي المنهجُ الّذي يحفَظُ لهذا الكون انتظامَهُ وسَيْرَهُ دونما تخبّطٍ في أيِّ ناحيةٍ من نواحي الحياة، وعلى أيِّ مستوىً من المستويات، وإنّ اختلالَ هذه العبادة اختلالٌ لنظامِ هذا الكون، وبالتّالي دخولُهُ في دهاليز الضّلال والانحطاطِ والفسادِ، على جميع الأصعدةِ الاجتماعيّةِ والاقتصاديّةِ وغيرها. 
فإغاثةُ الملهوفِ وإنقاذُ المضطرِّ في زمانِ الفاقةِ أولى وأفضلُ مِن نافلةِ الحجّ والعمرة، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رجلاً جاء إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسولَ اللهِ، أيُّ الناسِ أحبُّ إلى الله؟ وأيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى الله؟ فقال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: (أحبُّ النّاسِ إلى الله تعالى أنفعُهم للنّاس، وأحبُّ الأعمالِ إلى الله تعالى سرورٌ تُدخِلُه على مسلمٍ، أو تكشِفُ عنه كُربةً، أو تقضي عنه ديناً، أو تَطرُدَ عنه جوعاً، ولأنْ أمشي مع أخي في حاجةٍ أحبُّ إليّ مِنْ أنْ أعتكفَ في هذا المسجد -يعني مسجد المدينة- شهراً، ومَنْ كفَّ غضبَهُ ستَرَ اللهُ عورتَهُ، ومَنْ كَظَمَ غيظَهُ، ولو شاء أن يُمضيَهُ أمضاه ملأَ اللهُ قلبه رجاءً يوم القيامة، ومَنْ مشى مع أخيه في حاجةٍ حتّى يتهيّأ له أَثبتَ اللهُ قدمَهُ يومَ تزولُ الأقدامُ). المعجم الكبير للطّبرانيّ/13646
3- فهم السّلف للعبادة
خرجَ عبدُ الله بن المبارك رحمه الله في الحجّ سنةً فلقي فتاةً تقول له: أنا وأخي هنا ليس لنا شيءٌ إلّا هذا الإزار، وليس لنا قوتٌ إلّا ما يُلقى على هذه المزبلة، وقد حلّتْ لنا الميْتةُ منذ أيّامٍ، فدفع إليها نفقةَ الحجِّ، وقال: "هذا أفضلُ مِنْ حجنّا في هذا العام"، ثمّ رجع. البداية والنّهاية 10/191
وقال الحسن البصريّ رحمه الله: "يقول أحدُهم: أحُجُّ أحُجُّ. قد حَجَجْتَ، صِلْ رحماً، نَفِّسْ عن مغمومٍ، أحسنْ إلى جارٍ" الزّهد لأحمد بن حنبل/1469
وقال الإمام أحمد رحمه الله: "يضعُها في أكبادٍ جائعةٍ أحبُّ إليَّ -يعني مِنْ حَجِّ النافلة-" الفروع لابن مفلح 3/386
ذكر الإمام أبو حامد الغزاليّ في الإحياء: "أنّ رجلاً جاء يودّع بشر بن الحارث الحافيّ؛ وقال: قد عزمتُ على الحجّ فتأمُرُني بشيءٍ؟ فقال له: كَمْ أعددتَ للنّفقة؟ فقال: ألفي درهم. قال بِشرٌ: فأيُّ شيءٍ تبتغي بحجّك؟ تزهُّداً؟ أو اشتياقاً إلى البيت؟ أو ابتغاءَ مرضاةِ الله؟ قال: ابتغاءَ مرضاةِ الله. قال: فإنْ أصبتَ مرضاةَ اللهِ تعالى وأنتَ في منزلك وتُنفِقُ ألفي درهمٍ وتكونُ على يقينٍ من مرضاة الله تعالى؛ أتفعلُ ذلك؟ قال: نعم. قال: اذهبْ فأعطِها عشرةَ أنفسٍ؛ مديوناً يقضي دينه؛ وفقيراً يرُمُّ شَعَثَهُ؛ ومُعيلاً يُغني عيالَهُ؛ ومربّي يتيمٍ يُفرِحُهُ؛ وإنْ قويَ قلبُكَ تُعطيها واحداً فافعل؛ فإنّ إدخالك السّرور على قلبِ المسلمِ، وإغاثةَ اللهفانِ، وكشفَ الضرِّ، وإعانةَ الضّعيفِ أفضلُ مِنْ مائةِ حجّةٍ بعد حجّة الإسلام. قُمْ فأخْرِجْها كما أمرناك وإلّا فقُلْ لنا ما في قلبك. فقال: يا أبا نصرٍ، سفري أقوى في قلبي. فتبسّم بِشرٌ رحمه الله، وأقبلَ عليه وقال له: المالُ إذا جُمِعَ مِنْ وسخِ التّجاراتِ والشّبهاتِ اقتضَتِ النفسُ أنْ تقضيَ به وَطَراً، فأظهرَتِ الأعمالَ الصّالحاتِ، وقد آلى الله على نفسه أنْ لا يقبّل إلا عمل المتقين".
فلنتأمّلْ كيف هو الفهمُ الصّحيحُ للعبادة في ديننا، ولْنَسْعَ جاهدينَ للسّير في المسار الصحيح في فهم روح العبادات وجوهرِها، والغاياتِ الجليلةِ التي أرادها الله سبحانه مِنْ عباده في تزكيةِ نفوسِهم، وتهذيبِ خِلالهم وأخلاقِهم، حتى نحقِّقَ معنى الاستخلافِ في الأرض الّذي أراده اللهُ لنا.
 

http://shamkhotaba.org