الظلم ظلمات
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الخميس 20 سبتمبر 2018 م
عدد الزيارات : 2980
1- إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً
بين أيدينا اليومَ حديثٌ عظيمٌ جليلٌ، كان إذا حدّث به راويه أبو إدريس الخولاني رحمه الله تعالى يجثو على ركبتيه لعظمته، وكان يقول الإمام أحمد رحمه الله: "كفى أهلَ الشام فخراً هذا الحديث". وذلك لأنهم الذين رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا الحديث هو حديث أبي ذرٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، ياعبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، ياعبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، ياعبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم، ياعبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ياعبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ياعبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحدٍ مسألته ما ىنقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). أخرجه مسلم 2577
في هذا الحديث العظيم استهلّ ربُّ العزة الحديث بقوله (يا عبادي) وهذا اللقب أحسن الألقاب وأشرفها، ألم تروا كيف أنّ الله نادى نبيه في موطنِ الامتنانِ والتكريم بالعبد، وذلك حين أسرى به، فقال سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1].
فناداه بالعبد، وفي مقام التحدي قال سبحانه: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23].
ووصف الملائكة المقربين بقوله: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26].
فلا غرو أن يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: 
وممـــا زادنــي شـــرفاً وتيهاً     وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي     وأن صيّرت أحمـد لي نبيا
لذا فإنّ بدءَ هذا الحديث بقوله: ياعبادي، غايةٌ في التودد والتلطف في الخطاب، وهو إشارةٌ إلى مقتضى العبودية من الافتقار إلى الرب الخالق المدبر.
ثم قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
فقد حرّم الله على نفسه الظلم وحرّمه على عباده، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].
{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
2- الظلم أنواع ودرجات
وهذا الظلم الذي حرّمه الله له صور ودرجات، وليس هو نوعاً واحداً.
بل إن الظلم أعمُّ من ذلك وأشمل؛ فحلفُك بغير الله ظلم، وهضمُ حقِّ زوجتك ظلم، وقطعُ رحمك ظلمٌ، والتعدي على الناس ظلمٌ، والغشُّ في البيع والشراء ظلمٌ، وأكلُ حقوق الناس والتطاول عليهم ظلمٌ، بل ومساندةُ الظالم ولو بِبنت كلمةٍ ظلمٌ، والسكوتُ عن الظالم ظلمٌ.
فالظلمُ له صورٌ وأشكالٌ، وهو يوم القيامة ظلمات وظلمات، وأول درجات الظلم: 
ظلم العبد لربه: وهو أن تعبد غير الله، لأنه وضعٌ للعبادة في غير موضعها، وصرفها لغير مستحقها، لذا فكلُّ مشركٍ ظالمٌ لنفسه، كما قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 46].
وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن أعظم الذنب فقال: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك، واقرؤوا قول العبد الصالح لقمان في وصيته لابنه: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم}. صحيح مسلم 153والبخاري 4761
ظلمُ العبد لنفسه بالمعاصي والذنوب: فكل ذنب وخطيئة تقارفها ظلمٌ منك لنفسك وبغيٌ عليها، قال تعالى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229].
تغيير ما شرعه الله لعباده، وتبديل حكمه: فإن هذا من الظلم العظيم، قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45].
ظلم الإنسان لغيره من البشر: بالتعدي على أعراضهم أو أموالهم، وهذا النوع من الظلم هو أكثر الأنواع انتشاراً اليوم بين البشر، فإنه يبدأ من البيت حيث يظلم الرجل زوجته فيسيء صحبتها، وتظلم الزوجة زوجها فتخرج عن طاعته، ويظلم الوالد ولده فيضيّعه صغيراً، ويظلم الولد والده فيضيّعه كبيراً؛ ومنه ظلمُ الأخوة للأخوات بمنعها ميراثها أو عضلهن عن الزواج.
ثم يتعدى الظلمُ ويتوسع فيشمل الأقارب بقطع الأرحام، ثم يتوسع فيقع على العمال بأكل أجورهم وحقوقهم، وتتلون وتتعدد صور الظلم حتى يصبح الناس وكأنهم يعيشون في غابة، لا يقفون عن حد، ولا يعرفون حقاً، ولا يشفعُ فيه ضعفُ الضعيف لضعفه، ولا شيبةُ الكبير لكبره، ولا قلةُ حيلة المرأة لضعفها.
3- عاقبته وخيمة
أيها المسلمون: من تلبّس بأي نوعٍ من أنواع الظلم فليتحلّلْ منه اليوم، ولا يلقى أحدُكم ربَّه وفي رقبته مظلمة لأحد، فإن الظلم عظيم، وعاقبته معجلة في الدنيا، وجزاؤه في الآخرة أشنع وأنكى.
أيها المسلمون: لا يظنّ الظالم أن الله غافلاً عنه، بل هو يمهله ولكن لا يهمله، قال سبحانه: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر: 45]. 
وقال أيضاً: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].
وليتق الظالمُ دعوةَ المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب، قال عليه الصلاة والسلام: (اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). البخاري 2316 ومسلم 19
واعلموا أن الله يعجل للظالم عقوبته في الدنيا قبل الآخرة، ومن عقوبته في الدنيا: أنه يحرمه الهداية والتوفيق، قال تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 86] وهذا من أعظم الحرمان لو تأمل المتأمل!
ومن عقوبته في الدنيا: أنه لا يفلح ولا يوفق، قال سبحانه: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 21].
ومن عقوبته في الدنيا أن الظلم سببٌ للمصائب والأوجاع والأمراض والفقر وذهاب الأولاد والأموال، قال سبحانه: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَٰلِكَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الطور: 47]. والمقصود ب: دون ذلك، أي قبل موتهم.
4- صور من تقلب الظالمين
وقد رأينا كثيراً من الظالمين يُبتلون بالمصائب في الدنيا، فيذلهم الله، فتجدهم يسقطون في كل واد ولا أحد يجيبهم أو يغيثهم.
ولو جُلنا بذاكرتنا قليلاً لتذكرنا كثيراً من أحوال الظالمين ومراتعهم وما حل بهم، وحسبنا أن نتذكر وقد مر بنا أمس يوم عاشوراء كيف أن الله نجى موسى عليه السلام من بطش فرعون وظلمه وجبروته.
والقصص في أحوال الظالمين عبر التاريخ كثيرة، مليئة بالعبر؛ من ذلك لما أُهين إمامُ أهل ىالسنة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، كان الذي يسعى في سجنه وجلده أحمد بن أبي دؤاد، أحدُ الوزراء المقرّبين من الخليفة، فرفع الإمام أحمد يديه ثم قال: "اللهم إنه ظلمني فاحبسه في جسمه، وعذبه وشرده"، قالوا: ما مات حتى أصابه الله بالفالج في نصفه، أي الشلل النصفي، ودخلوا عليه وهو يخور كما يخور الثور، فقالوا: مالك؟ قال: دعوة الإمام أحمد أصابتني!
ومن ذلك ما حصل لسعيد بن جبير مع الحجاج، واستمعوا للمناظرة التي جرت بينه وبين ظالمه، دخل سعيد بن جبير على الحجاج، فقال له: ما اسمك ؟ قال: اسمي سعيد بن جبير، قال: بل أنت شقي بن كُسير، قال: هكذا سمّتني أمي، قال: شقيت أنت وأمك، قال سعيد: الشقي من شقي في بطن أمه، قال الحجاج: والله لأبدلنّك بالدنيا ناراً تلظى، قال سعيد:  لو كان ذلك عندك لاتخذتُك إلهاً من دون الله، قال الحجاج: عليّ بالعود، فأتي بعود وجارية، فاندفعت تغني ويُعزف بالعود، فبكى سعيد، قال الحجاج: أهو الطرب ؟ قال: لا والله، لكن جاريٌ سُخّرت في غير ما خُلقت له، وعودٌ قُطع من شجرة في غير ما خُلق له؛ قال الحجاج: عليّ بالذهب والفضة، فنثرها بين يدي سعيد، وقال: خذ هذا، قال سعيد: ياحجاج ! إن كنت أخذتَ هذا لتتقي به غضب الله فقد أحسنت، وإن كنت أخذتَه للدنيا فهو متاع قليل، عما قليل تفارقه ويفارقك، قال الحجاج: يا سعيد! اختر أيَّ قِتلةٍ تريد، فوالله لأقتلنّك قِتلةً ما قُتلها أحدٌ من الناس، قال سعيد وهو يتبسم: يا حجاج! اختر لنفسك أيَّ قِتلةٍ تريد أن تقتلني، فوالله الذي لا إله إلا هو لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله بمثلها يوم القيامة، قال الحجاج: خذوه إلى غير القبلة، قال سعيد: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، قال الحجاج: أنزلوه إلى الأرض، قال سعيد: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ} [طه: 55]، قال الحجاج: اذبحوه، فقال سعيد: حسبي الله لا إله إلا هو، عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، اللهم لا تسلط الحجاج على أحد بعدي.
فسمع أهلُ الإسلام بمقتل سعيد بن جبير، واهتزت له الدنيا، وقامت المساجد تصلي عليه، ولما سمع الحسن البصري بمقتله قام فدعا: يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج، فأخذ الحجاج بعد مقتل سعيد بن جبير شهراً يخور كما يخور الثور، ويقول: والله ما مرت عليّ ليلة إلا كأني أسبح في دمه، والله ما مرت علي ليلة إلا كأن القيامة قامت وقد رأيت عرش الله بارزاً للناس، وقد قتلني بكل إنسان مسلم قتلته مرة، إلا سعيد بن جبير فقد أوقفني الله على الصراط فقتلني به سبعين مرة.
5- الظالم لا يشفع فيه أحد
أيها المسلمون: هذا جزاء الظالم في الدنيا، أما في الآخرة فيُحرم شفاعة إمام المرسلين، وشفاعة من يأذن الله في شفاعته، قال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18].
ويصيب الظالمين يوم القيامة الحسرة والندامة، قال سبحانه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان: 27].
فليتذكر الظالم موقفاً أمام ربه عاضاً يديه مقطِّعاً أصابعه، منكِّساً رأسه.
ومن جزاء الظالم عند الموت تعاظم سكراته وكربته، قال سبحانه: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93].
{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ  * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم24-46].

http://shamkhotaba.org