المسلمُ يعيشُ واقعَهُ متفاعلاً مع أحداثه، مشارِكاً الناسَ همومهم، ساعياً في الخير فيما تبلُغُهُ يدُهُ، باذلاً النصحَ، لا يبخلُ بكلمةٍ أو جهدٍ أو عملٍ، فهو لا يعيشُ لنفسه في أنانيةٍ سلبيةٍ، ومن هنا نفهمُ سرَّ جملةٍ من الأحاديث التي تؤكدُ على هذا الواجب الجمعي العظيم، كقوله صلى الله عليه وسلم: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس). أحرجه البخاري:1240 ومسلم: 2162
وقوله: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم). أخرجه أحمد: 5022 والترمذي: 2507 وابن ماجه: 4032
وقوله: (المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يُسلمه). البخاري: 2310ومسلم: 2580
وهذه من أخصِّ صفاتِ الرسلِ والأنبياء، لأنّ محورَ رسالتهم السعيُ في إصلاح الناس، وتغييرِ واقعهم إلى أفضل، قال تعالى في وصف رسولنا صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:128].
بل نزل القرآن بعبارةِ الإشفاقِ مِنْ أن يموت -عليه الصلاة والسلام- من شدة الحزن والحسرة على الناس، قال سبحانه: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8].
وقال أيضاً: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6].
وقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3].
فهذا الاهتمامُ لشأن الناس والبذلُ لهم سمةٌ بارزةٌ للأنبياء -عليهم السلام-، وعلى رأسهم نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم-، وهي سمةٌ يحبها الله تعالى، فقد جاء من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قوله صلى الله عليه وسلم: (أحبُّ الناسِ إلى الله أنفعُهم للناس، وأحبُّ الأعمالِ إلى الله عز وجل سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربةً، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا؛ ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد -يعني مسجد المدينة- شهرًا، ومن كفّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه -ولو شاء أن يمضيه أمضاه- ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله قدمه يوم تزلّ الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل، كما يفسد الخل العسل). أخرجه الطبراني في الأوسط: 6026 وحسنه الألباني
وفي حثِّ ديننا على الحرص على العمل والمبادرة، وتجاوزِ معوِّقات الواقع التي قد تخيِّل للإنسان أن لا فائدة من العمل، جاء التوجيهُ العظيمُ من المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها). أخرجه أحمد: 12902 والبخاري في الأدب المفرد: 479 وصححه الألباني
قال صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ ابْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا، لو دُعِيتُ إِلَيْهِ فِي الإِسْلامِ لأَجَبْتُ). أخرجه أحمد: 1676 والبيهقي: 12110وصححه الأرناؤوط والألباني
هكذا يعلمنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نكون فاعلين في مجتمعاتنا، مبادرين بالخير، وأخبرنا أنّ أصدقَ الأسماءِ عند الله تعالى: حارث وهمام. لماذا؟! لأن الإنسان لا يخلو بمقتضى فطرته إلا أن يكون همّامًا، أي صاحب إرادة وتفكير جاد؛ أو يكون حارثاً، أي صاحب فعل، وهي كنايةٌ عن العمل، أي ليس مجرد نوايا وآمال، بل ينتقل منه إلى العمل، ليسهم في صنع واق أمته ومستقبلها.
وهذا يوسف عليه السلام لما رأى في نفسه الكفاءة والقوة والأمانة في مملكة تكاد تخلو من الأمناء، قال للملك: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55].
ولم يترك الأمور تحدُثُ، أو ينتظر غيره ليكفيه ذلك!
لذا كانت أعظمَ مزيةٍ لهذه الأمة في قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [آل عمران:110].
حيث ميَزَ هذه الأمةَ بأنها أمةٌ ذاتُ فاعليةٍ وحركةٍ في السعي لخير الناس؛ فالأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر شعارُ خيريةِ هذه الأمة، بل هو شعارُ حيويتها وفاعليتها، لو فُقد هذا الركنُ في الأمة لفقدتِ الأمةُ تميُّزَها وخيريتَها، وغَدَتْ في صورةٍ باهتةٍ!
والأمةُ إنما هي مجموعُ أفرادها، فما ذكره الله عن الأمة فإنه خطاب لجميع أفرادها، لذا فالواجب المتعين على كل مسلم أن يجعل هذه الآية شعاره في الحركة والفاعلية والإيجابية في مجتمعه.
إنَّ بعضَ الناسِ اليوم يندبون حظوظهم، ويبكونَ على أحوالِهم، ولا يتقدمون خطوةً نحو مايتعيّنُ عملُهُ! هؤلاء محبَطون في أنفسهم، ويَنشرون الإحباطَ والانهزاميةَ في النفوس، لذا حذّرَ صلى الله عليه وسلم من ذلك لما قال: (إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم). أخرجه مسلم 4884 واختلف في ضبط لام (أهلكهم) بالرفع أو النصب، فعلى الأولى كان هو المبادر بإهلاكهم بفعله هذا، وعلى الثانية فهو ساعٍ في هلاك قومه بفعله هذا.
وفي الحديث ذلك تشنيعٌ ظاهر على من يكثر من الندب واللطم من غير فعلٍ، أو مبادرةٍ لما يجب فعله.
وهذا نبيُ اللهِ يوسفُ عليه الصلاة والسلام بعد أن استشرفَ المستقبلَ وما ينطوي عليهِ مِنْ أزمةٍ مؤكَّدةٍ، تنتجُ عَنْ سبعِ سنواتٍ منَ القحطِ الشديد، استعدَّ لهذا المستقبلِ بإدارتهِ الحكيمة، فوضعَ لذلكَ منهجاً قويماً ومبادرة متكاملة، نجحَ منْ خِلاِله بفضلِ الله في تجنيبِ البلدِ كارثةً وأزمةً كادتْ تعصفُ بها، قالَ تعالى في شأنه: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}.
نموذج رائع في الإيجابية والتفاعل مع الواقع بزرع الفعل والتفاعل والتبشير بمستقبل متفائل.
وهذا نموذجٌ آخرُ بديعٌ قصّه القرآنُ الكريمُ علينا: هو نموذجُ قصةِ الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى إلى قومه، فلنسمع ما قاله القرآن في شأنه: قال الله عز وجل: {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [سورة يس:20].
ولنتأمل حال هذا الرجل الذي جاء يسعى من خلال عدة وقفات:
الوقفة الأولى: {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} فقد جاء من مكان بعيد؛ لم يمنعه بُعد المكان أن يأتي ليبلغ دعوته، جاء من أقصى المدينة! فلم يتعذّر: بأن الشُّقة بعيدة، والمسافة طويلة، والأمر صعب، بل طرح كل هذا المعوقات جانبا وبادر بالعمل
الوقفة الثانية: جاء {يَسْعَى} ولم يأت ماشياً! هذا يدل على مدى تحمسه لنصح قومه والمبادرة بفعل الخير، لذا جاء التعبير القرآني ب(يسعى) ليبرز هذا المعنى.
الوقفة الثالثة: {من أقصى المدينة} وعادةً، لا سيما في الأزمنة السابقة، لا يسكن أقصى المدينة إلا بسطاء الناس وضعفاؤهم وفقراؤهم، فلم يمنعه ما هو عليه من شظف العيش ودنو المنزلة الاجتماعية من أن يجهر بدعوته.
الوقفة الرابعة: {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} كلمة صريحةً واضحةً، صرخ بها بين ظهراني قومه، ولربما كان هذا الإنسان قبل أن يمن الله تعالى عليه بالإيمان، لا يقوى أن يرفع طرفه إلى الملأ من قومه، مما يجد في نفسه من الشعور بالذلة والمهانة، فهو ليس من علية القوم، وكما قال بعض المفسرين: أنه كان يعمل (إسكافاً) وهي مهنة بسيطة، لكن الإيمان الذي وقر في قلبه، حمله على أن يشعر بعزة الإيمان، فيصيح بين ظهراني قومه، قائلاً: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}، فالإيمان أكبر حافز على الإيجابية والمبادرة بالخير، وتقديم النصح ونفع الآخرين.
ولعل من الجيد أن نسأل أنفسنا: لماذا نتلجلج أحياناً؟ ولماذا نتلكأ؟ ولماذا نحجم؟ إن هذا ناتج عن ضعف الإيمان، وبرودة المعاني التي نعتقدها!
لكن القصة لم تنتهِ عند هذا الحد! بل يظل الإيمان الفاعل يحمل صاحبه على النصح للآخرين، قائماً، فيذكر القرآن أنه بعد أن بُشِّر بالجنة: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}، فسبحان الله! حتى بعد الموت، والفوز بالجنة، لا يزال في قلبه الشعور بالرغبة في النصح للآخرين، ولم يشأ أن يتشفى بهم، أو يجعل ذلك ذريعةً للنيل منهم، وإنما تمنى من سويداء قلبه أن يعلم قومه بعاقبته، لعل ذلك يحملهم على أن يقبلوا نصحه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "نصح قومه في حياته بقوله: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}، وبعد مماته في قوله: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}".