بالعلم ننهض ونصنع مستقبلنا
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الخميس 4 أكتوبر 2018 م
عدد الزيارات : 2318
1- شعار الأمة: اقرأ
عندما نزل الوحي بــ {اقرأ} غدَت هذه الكلمةُ منذ ذلك الحينِ شعاراً لهذه الأمة؛ لقد نزلَ الوحيُ على أمةٍ أميةٍ بهذه الكلمة ليجتمعَ وحيُ السماءِ وشعارُ العلمِ معاً، فكأنّ اللهَ يقولُ للأمة: أمتُكُم هذه عِزُّها ونهضتُها وسيادتُها بهذين: وحيٌ وعلمٌ.
وكان لنزول هذه الكلمةِ أولَ مابُدِءَ به صلى الله عليه وسلم من الوحي: بشاراتٌ ودلالاتٌ عظيمةٌ عميقةٌ.
فإنّ الذي يَنشُدُ نهضةَ ورفعةَ هذه الأمةِ بعلمٍ بلا وحي فلن يصِلَ مبتغاهُ؛ ومَنْ ينغلقُ بدينه عن علومِ الأممِ كذلك لن يصِلَ.
وكان نبيُّنا المصطفى صلى الله عليه وسلم مثالاً ونموذجاً دالاً على ذلك المغزى وتلك المعاني والدلالات.
لقد قدّس رسول الله العلم لدرجة لم تُعرف في التاريخ الماضي ولا المعاصر، ففي غزوة بدر الإسلام جعل العلم سبباً في الحرية؛ فالعلم والتعليم في نظرة رسول الله خير من قتل الأسرى، وخيرٌ من فكاكهم بالمال والثروة، فكان فكاك أسرى بدر أن يعلّم كلُّ أسيرٍ عشرةً من المسلمين القراءة والكتابة، كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم ترجماناً عملياً لمغزى مانزل به جبريل من هذه الكلمة العظيمة: {اقرأ}.
وإنَ هذه الأمةَ في ذلك الحين والزمان الذي نزل فيه جبريلُ على المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة، كانت أمةً أميةً لا توصَفُ بمعارف ولا علوم، بينما كانتْ هناك حضاراتٌ كبيرةٌ عريقةٌ، ولم تكُنْ لهذه الأمةُ أيضاً حينذاك ذات سيادةٌ أو دولة، بل كانت متنازَعةً بين إمبراطورياتٍ وعروشٍ عظيمةٍ.
وبعد بِضْعٍ وعشرين عاماً من نزول هذه الكلمةِ تنهَضُ هذه الأمةُ الأميةُ لتكْسِرَ عروشَ أعظمِ الإمبراطوريات والعروش، ثم تغدو في مساراتِ العلمِ لتضربَ بحظٍّ عظيمٍ من العلم والمعرفة، فتُخْرِجَ لنا أساطينَ عظيمةً من العلماء، ولتُحرِّرَ علوماً مبهرةً في شتى الميادين! 
نعم هذه الأمةُ الأميةُ التي كان ذاك هو حالُها، فاليومَ صارَتْ مثلاً وأنموذجاً عظيماً في تاريخ الأمم!
ورحم الله الإمام أحمد بن حنبل حين قال: "الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب، لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه".
وكما قال أحدهم: "ذوو العِلم الواسع هم مَن يَرصفون هيكل المجد".
2- نماذج لنهضة الأمم والدول
وفي تاريخنا المعاصر نرى أمماً صعدتْ من الحضيض إلى القمة، أمماً انتفَضَتْ من تحت الركام والرمم، أمماً سادَتْ وقادَتْ رغمَ كلِّ الآلامِ والمحنِ، أمماً كانت فقيرةً مقهورةً، فصارت عزيزةً منصورةً، أمماً كانت متمزقةً متناحرة، فتغيرَتْ وصارَتْ واحدةً متحضِّرةً.
ونحن إذْ نُجيل البصرَ ونتأملُ في حال تلك الأممِ والدول لكَمْ هو حَرِيٌّ بنا أن نستعيدَ ذاكرتنا التاريخية لنعرف مكامنَ عزتِنا، ونستلهِمَ مِن تاريخنا ما يدفعُنا نحو مستقبلنا.
نقفُ على تلك المعاني ونحن اليومَ في سوريا في مرحلةٍ خطيرةٍ في تاريخنا، مرحلةٍ فَتَكَتْ فيها الحربُ، وأَطَلَّ فيها المكرُ من كل جُحرٍ، ولم يبقَ مجرمٌ في العالم إلا وله فيها يدٌ ورِجلٌ!  
والسؤالُ الخطيرُ الذي يفرِضُ نفسَهُ اليومَ هو: ما المخرَجُ من هذا؟ وما الواجبُ فعلُهُ؟
ينبغي أنْ نَعْلَمَ أنه عندما تشتدُّ الظروفُ بأمةٍ فإنّ الضمان والاستثمار إنما يكون في الأجيال، فهي تبني حاضرَ الأمةِ ومستقبلَها، وهناك في تاريخنا المعاصر أممٌ صعدَتْ من الحضيض إلى القمم، دولٌ كبيرةٌ أنهكتها الحروبُ أكثرَ مما وقع علينا، ثم هي اليوم في ريادة الأمم.
ونذكُرُ من تلك النماذج من التاريخ المعاصر من الدول والشعوب التي أصابها ما أصابنا من الويلات والحروب، ونزل بها ما نزل بنا من النكبات والكروب، وحلّ بها ما حلّ بها من الأزمات والخطوب، ولكنها مع تلكم الجراح، ورغم أنفِ كلِّ سفاح، ثارت على الجهل والجاهلين، وحطمت قيود الغفلة، فإذا بها تتبوأ أعلى القمم، استطاعوا أن يعيشوا رغم الاختلاف كأخوةٍ أبطال، ورفضوا أن يموتوا متخاصمين كأغبياء جهال.
نذكر نماذج من هذه الدول والشعوب المعاصرة للعبرة والعظة: 
ها هي سنغافورا خلال أربعين عاماً بعد تحررها من الاستعمار صارت خامسَ أقوى دولةٍ اقتصادياً في العالم يقول مؤسس سنغافورة لي كوان (المعلم كما يصفه شعبه): "أنا لم أقُمْ بمعجزة في سنغافورة، أنا فقط قمتُ بواجبي نحو وطني، فخصّصت موارد الدولة للتعليم، وغيّرتُ مكانةَ المعلمين من طبقةٍ بائسةٍ إلى أرقى طبقةٍ في سنغافورة، فالمعلم هو من صَنَعَ المعجزةَ، هو مَنْ أنتج جيلاً متواضعاً يُحِبُّ العلم والأخلاق". 
وتلكم هي ماليزيا تلك الدولة التي نهضت بعد كبوتها وصارت أعجوبة آسيا، وقائدةَ نمورِ آسيا، كانت نسبةُ الأميةِ فيها تزيد عن السبعين بالمائة! صارتِ اليومَ أقلَّ مِن أربعةٍ بالمائة، واستغنَتْ بصناعاتها عن الغرب، قال قائدُ نهضتها مهاتير محمد: "التغييراتُ التي حدثت في ماليزيا لا تُصَدَّق، تحسّنَتْ حياتُنا كثيراً بسبب التعليم، أنا أسّسْتُ لشعبي منظومةً تعليميةً نجني ثمارها اليوم".
3- نهضةُ الأمم أسبابٌ وقوانينُ لا معجزات
يا أيها الأخوة: إنّ الله جل جلاله جعل لكل شيء سبباً وبنى هذه الحياة الدنيا على سننٍ كونيةٍ لا تتغيرُ ولا تتبدلُ، فقال الله سبحانه: {إِنّ اللهَ لَا يُغير مَا بِقوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} [الرعد:11].
ما الذي حدث فغيرّ أمماً ودولاً من الحضيض إلى القمة!؟
لا نقول إنه تحوُّلٌ بمعجزات نبوية ولا طفراتٍ كونيةٍ. 
إنّ العلمَ وإتقانَ العمل أهمُّ ماترتكزُ عليه الأممُ في نهضتها وفي السعي لريادتها، وفي بدايات هذه الأمة وفجرِ الوحي وأولى بشاراته بـ إقرأ مايؤكدُ ذلك ويشهدُ له.
وقد سبَقَهم في مضمار السيادة بالعلم والتعليم الأنبياءُ والمرسلون عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم، فصنعوا حضاراتٍ عظيمةً وبنوا دولاً قويةً، وقد قصّ الله علينا مِن حكاياتهم في القرآن الكريم فقال عنهم أجمعين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89]. 
وقال: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص:45].
وقد ذكر الله سليمان الحكيم العليم الذي نال السيادة المطلقة وأخذ عرش بلقيس بطرفة عين واحدةٍ، فقال عن سبب ذلك: {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَٰكَذَا عَرْشُكِ ۖ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ۚ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل:42].
ورحم الله البارودي عندما قال:
بقــوة ِ العلمِ تقــوى شـــوكة ُ الأمـمِ      فَالْحُكْمُ في الدَّهْرِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْقَلَمِ
لَوْ أَنْصَــفَ النَّاسُ كَانَ الْفَضْـلُ بَيْنَهُـمُ      بِقَطْـــرَة ٍ مِــنْ مِـــدَادٍ، لاَ بِســـَفْكِ دَمِ
فاعكفْ على العلمِ، تبلغْ شأوَ منزلة      في الفضــلِ محفـوفــة ٍ بالعــزَّ والكـرمِ
فليــسَ يجنــى ثمارَ الفــــوزِ يانعـــة      مــنْ جنــة ِ العلـــمِ إلاَّ صــادقُ الهمـمِ
وقد قدّس القرآنُ العلمَ وأعطاه المنزلة السامية والمكانةَ العاليةَ، فليس هناك في القرآن قيمةٌ أعلى من العلم، وجعلَهُ والإيمانَ سبباً في رفعة الأقوام، فقال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]. 
بل وجعل العلمَ السببَ الرئيسي في تكريم البشرية، فقصَّ لنا قصةَ التكريمِ الأولِ للعلم والتعليم، إنها قصة آدم عليه الصلاة والتسليم فقد تعلّم وعلّم {وَعَلَّمَ آدَمَ}، ثم قال عن التعليم: {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ}، ثم أمر الملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا}، فما أجلَّها مِن مكانةٍ! وما أقدسَها مِن منزلة! الملائكة يصطفّون صفوفاً على طول السماء وعرضها، في طبقات السموات العلى، ليسجدوا لصاحب العلم والتعليم!
إنّ أعظمَ استثمارٍ لنا اليومَ هو الاستثمارُ في أبنائنا، في هذا الجيل الذي بين أيدينا.
4- الواجب اليوم بعد ثمان سنوات من المحنة
إننا لم نستسلم طيلة ثمان سنوات من المحنة  العظيمة على بلدنا وشعبنا، حيث ضربَ شعبُنا أعظمَ مثلٍ في التاريخ المعاصر على مقاومة المستبد والمجرمين، وإنّ استمرارَ هذه المسيرة يكون بحسن الاستثمار في أبنائنا، لكي لا يتركوا مكاناً للظالم والفاسد في مستقبلنا، وذلك بتسليحهم بالعلم والقيم، والحرص على إتقان الصنائع وإتقانها، بل والابتكار فيها، يجب أن نستغلَّ الظروفَ التي نعيشها اليوم حيث ساد فيها بعض الهدوء، فهي فرصةٌ لنلتقطَ أنفاسَنا ونركِّزَ أكثرَ نحو العلم، فلْنوجَّهْ الأبناءَ إلى الجامعات، ولنَحُطْ صغارَنا برعايةٍ أكثرَ في مدارسهم، ولنتواصى أكثرَ وأكثرَ فيما بيننا، وليُعِنِ القويُّ الضعيفَ، والغنيُّ الفقيرَ، ولنكن جسداً واحداً لنَصنَعَ جيلاً واعياً عالماً.
ولنُركِّزْ على بناء القيم والمبادئ، فمما يميز أمتنا: أن علومها مرتبطة بمبادئ وقيم، لذا كان رسولها رحمةً للعالمين، بما جاء به من المبادئ والقيم، فليست علومُنا مفصولةً أو بعيدة عن قيمنا ومبادئنا.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةٌ، لقد جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم سنواتٍ طويلةً في مكةَ، ليس معه سلاحٌ ولا عُدّةٌ، وليس بيده سيفٌ ولا بندقيةٌ، ولكن أقام يعلّمُ الصحابة، فصاروا بعدَ العلمِ قادةً مبرّزين في الميادين.
يبني الرجالَ وغيرُهُ يبني القرى      شَتَّانَ بين قُرى وبينَ رِجال
بهؤلاء الصحب الكرام الذين أحسن صلى الله عليه وسلم تعليمعهم وتربيتهم وإعدادهم، فتح الدنيا، وأخرج البشرية من جور الأديان إلى عدل الإسلام.
أُولَئِكَ آبَائي، فَجِئْني بمِثْلِهِمْ      إذا جَمَعَتْنا يا جَرِيرُ المَجَامِعُ
فأولئك الآباء وأنتم الأبناء: 
إذا مات منــا ســـــيدٌ قام ســــــيدٌ      قَؤولٌ لما قال الكرامُ فَعولُ
لئِنْ عَرَفَ التاريخُ أوساً وخزرجا      فلله أوسٌ قادمون وخزرجُ
وإنّ كنـوزَ الغيبِ تُخفي طلائعا      صابرةً رغمَ المكائـد تَخرُجُ
ومن طلب العلمَ أيَّ علمٍ بنيةٍ صحيحةٍ كان له أجر عظيم، ولعله يناله ماورد من العظيم الجزاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ). أخرجه أبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، وأحمد (21715) وهو صحيح

http://shamkhotaba.org