1- الابتلاء مذاقات تُذاق ولا توصف
مِنْ أشواقهم إلى الله يبدؤون، وإلى مثواهم بين يديه ينتهون؛ من الله الحيِّ القيومِ تبدأُ مسيرتُهم، وإلى الله الملكِ القدوسِ ينتهي مسراهم ومعراجهم.
رغبتُهم في التعرف إليه، وشوقُهم إلى لقائه يمثّلان قَدْحَةَ الزناد، حيث تنطلق الطاقةُ المشتاقةُ في عنفوانٍ مقتدرٍ ذاهبةً إلى هناك، لا تَلوي على شيءٍ مُيمِمَةً وجهها شطرَ الطريقَ المُفضي إلى سِدرة المنتهى، غائصةً بحارَ الابتلاءاتِ متسلِّقةً جبالَ الضنى والشدائدِ والهول، مجتازةً تُخومَ المألوفِ إلى عالمٍ كلُّ ما فيه عجيبٌ وجليلٌ وباهرٌ.
وعلى الرغم من أنهم مسافرون إلى الله فهُمْ في ذات الوقتِ مسافرون بالله.
فمن حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً؟ قال: (الأنبياءُ ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجلُ على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه؛ وإن كان في دينه رقةٌ ابتُلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة).
من حكمة الباري أنه لا يبتلي عباده المؤمنين بقواصمِ ظهرٍ لا يحتملونها، بل ببلاء يتناسب مع إيمانهم؛ وقد ورد عن بعض السلف أنه حينما ينزل البلاءُ عليه لا يدعو الله بكشفه، من أجل أن يبقى متصلاً بالله جل وعلا، يتودّدُ الودودَ إلى عباده بالبلاء حتى يهبَهم منه مذاقاتٍ تُذاق ولا توصف، تماماً كطعم الفاكهة ورائحة العطر، إذْ لو طُلب منا أن نصفها لما استطعنا، ولكن نتذوقُها بطعمٍ رائعٍ، ولا نستطيعُ وصفها، وكذلكم البلاء بعد أن يرتقي بالعبد بالإيمان بالله حتى يصل إلى منزلة ما كان يحلم بها.
عندما اخترق الرمحُ ظهرَ حرامِ بن ملحان صاحبِ الكلمة الخالدة، تلقى الدم بيديه وهو يقول: "فزتُ ورب الكعبة!".
حتى أن قاتِله أسلم من هذه الكلمة، حيث أن قال: إن مما دعاني إلى الإسلام أني طعنتُ الرجلَ منهم يومئذ برمح بين كتفيه، فنظرتُ إلى سِنان الرمح حين خرج من صدره، فسمعته يقول: فزتُ ورب الكعبة! فقلت في نفسي: وما فاز؟ ألستُ قد قتلتُ الرجلَ؟
حتى سألتُ بعد ذلك عن قوله فقالوا: للشهادة، فقلت: فاز لعمر الحق؛ فكان سبباً في إسلامه.
فأشرق البلاءُ رضاً وإيماناً وسكينةً، فكان نبراساً يضيء للمؤمنين طريقهم رغم كلِّ الشدائد.
أنا جنتي وبستاني في صدري، ماذا يفعل بي أعدائي؟ حبسي خلوة، قتلي شهادة، إخراجي سياحة.
جميلٌ أن تحسن الظن بالله أن يرفع عنك الابتلاء، لكن الأجمل أن ترقى إلى أن تستمتع بالابتلاءات.
ذكر ابنُ أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه أنّ سحرة فرعون كانوا سبعين رجلاً، لما دعاهم فرعون إلى مبارزة موسى بالسحر والشعوذة ما كان لهم من همّ إلا الأجر، {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:114].
كل طموحُهم دنيوياً طينياً أرضياً، لكنْ ما هي إلا لحظات وداخلَ الإيمانُ قلوبهم، حتى جعل منهم جبالاً رواسي أمام تهديد التقطيع والتصليب، {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}، فأجابوه: {قَالُوا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} [الأعراف:125].
وقال في سورة طه: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ} [طه:71].
بعد أن ذاقوا البلاء تحولوا إلى عمالقةٍ تعلقتْ قلوبهم بالله، وتطلعت أرواحهم للآخرة.
يتودّدُ الباري إلينا بالبلاء لنتذوّقَ طعمَ القربِ، وجنى الوصال، وشرابَ الأنس.
2- الابتلاء تنقية
ما أسهل أن يقول الإنسان آمنتُ لكنْ ما أصعبَ العملَ، إنّ هذه الشدائدَ والابتلاءاتِ رغمَ كلِّ آلامها، فيها كشفٌ لوجوه الخائنين، وتمحيصٌ للمؤمنين.
ولو أعطي الناسُ بدعواهم لادعى الخليُّ حُرقة الشجيّ.
إذا اشتبكتْ دموعٌ في خدودٍ ليظهرَ مَن بكى ممن تباكى
فيها تنقيةٌ للصفِّ المؤمنِ، فيها غربلةٌ وتمييزٌ، {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:37].
عندما حدثت حادثةُ الإفكِ واتُّهمت أمُّنا الحَصانُ الرزانُ الطاهرةُ العفيفةُ، والمصفى ينتظر الوحيَ، والصحابةُ حَيارى، ونزل الوحي، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11].
بعد كل هذه الشدة تُتّهم أمُّنا في عِرضها، ويتألم الحبيب صلى الله عليه وسلم، ويحتارُ المسلمون، يقول الباري سبحانه: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [النور:11].
نعم هو خيرٌ، فقد كُشِفَتِ الوجوهُ، وأُزيلتِ الأقنعةُ، وظهر كلٌّ على حقيقته.
هذه المتضادات في الدنيا من حكمة الله: طيبٌ وخبيثٌ، صالحٌ وفاسدٌ، مؤمن وكافر.
ليتِمَّ الابتلاءُ والامتحانُ، ولأنّ الطيبَ نافعٌ ومفيدٌ، والخبيثَ ضارٌّ ومفسِدٌ مهما زادتْ كميتُهُ، ولو كُسي بشيء من المحسِّنات فلابد إلا وأن تنكشف حقيقتُهُ ويفتضحَ أمرُهُ وزيفُهُ: {قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ۚ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:100].
فبالشدائد والابتلاءات يُنقّى المجتمعُ.
3- الابتلاء تربية وتزكية
قيادةُ العالمين تحتاجُ إلى طرازٍ فريدٍ من البشر، جاء خَبّابٌ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو له العذابَ والبلاءَ: يارسول الله ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا؟
وهو متوسِّدٌ بردةً في ظلِّ الكعبة، فقال: (والذي نفسي بيده قد كان الرجلُ فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيُجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على مفرق رأسه، فيُشَقُّ باثنتين وما يصدُّه ذلك عن دينه، ويُمشَّطُ بأمشاطِ الحديد ما دونَ لحمِهِ مِنْ عظمٍ أو عصبٍ وما يصدُّهُ ذلك عن دينه، ثم قال: والله ليتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا اللهَ والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
ومَن أخَذَ البلادَ بغير حربٍ يهونُ عليه تسليمُ البلاد
إننا نحتاج إلى هذه التربية التي حوّلتِ الصحابةَ مِن رعاةٍ للإبل والغنم إلى سادةٍ وقادةٍ للدول والأمم.
التربيةُ التي أقام بها هؤلاءِ الأطهارُ الأبرارُ للإسلام دولةً مِن دمائهم وأموالهم، أقاموها وسط صحراءٍ تموجُ بالكفر موجاً، فإذا هي بناءٌ شامخٌ لا يُطاولِهُ بناءٌ.
أنجبـتَ للـدين والـدنيا عمالقـةً بالأمس كانوا رعاءَ الشاء والغنم
أحييتَ بالدين أمّيّين ما درسوا اليومَ هم سـادةُ الأعــرابِ والعجمِ
يوسفُ يتربى في السجن ليكونَ عزيزَ مصرَ؛ بلالُ يُضطهدُ ويُعذَّبُ في رمضاءِ مكةَ وعلى رمالها المحرقةِ الملتهبةِ ليصبحَ مؤذِّنَ الإسلامِ.
يا دمعـــةً مِن عين أحمدَ أشـرقَتْ أّوَ يُشتكى بالدمعة الخرساءِ
جــارَ اللئامُ وعَــذَّبـــوا أصحابَــهُ واللهُ ممتحِـــنٌ بكــلِّ بــــلاءِ
تبّتْ يـــداكَ أبا الجهالةِ لن تَــرى عزماً يخورُ لصفعةِ الجبناءِ
أَبِطــاحَ مكــةَ هل ذكـــرتِ بِلالَنا أَوّاهُ ما أوفاكِ مِــن بطحــاءِ
ضَجَّتْ رمالُ البِيدِ وازدادَ الأذى ما ذَلَّ إيمانٌ على الرمضاءِ
المحنةُ والشدةُ التي ذاقها الإمامُ أحمد فتخرّجَ فيها ناصراً للسنة!
لبث في السجن وما أدراكم ما السجنُ؟ السجنُ بيتُ الوحدةِ، وأخو القبرِ من الرضاع، يُطوى العمرُ فيه طيَّ السجلِّ للكتبِ، تقفُ فيه عقاربُ الساعةِ، فكأنّ اليومَ شهرٌ، والشهرَ سنةٌ، وكأنّ الشمسَ قد شُدّتْ بيدٍ.
لا جديدَ إلا وجهُ السجانِ إذا استلمَ نوبتَهُ، ومع كلِّ هذه الغصصِ والآلامِ يَثبُتُ الإمامُ أحمدُ ليصبحَ بطلَ المحنةِ وإمامَ السنةِ، وكان لسانُ الحالِ:
سأظلُّ معتصماً بحبل عقيدتي وأموتُ مبتسماً ليحيا ديني
ألا يكفيكم يا جلادي العالمِ عبرةً أنّ السياطَ لا تُلغي القيمَ، وأنّ المشانقَ لا تَقتُلُ المبادئ، وأنّ التعذيبَ لا يُميتُ الحقوقَ.
الحوادثُ الممِضةُ مكسبةٌ لحظوظٍ جليلة: إما ثوابٌ مدَّخَرٌ، أو تطهيرٌ من ذنبٍ، أو تنبيهٌ من غفلةٍ، أو تعريفٌ لقدرِ نعمةٍ.
http://shamkhotaba.org