حياةُ النبيِّ شعيب:
يُقال أنه ابنُ ميكيل بن يشجن، ويقال له بالسريانية يترون، ويقال أنّ جدته أو أمه هي بنت لوط؛ والثابتُ هو أنه مِن مدين الواقعةِ في أطراف الشام. في منطقة وادي شعيب في الأردن.
آمَنَ بنبيِّ الله إبراهيم، وهاجرَ معه ودَلَ معه دمشقَ, وكان فصيحاً مفوَّهاً حيث كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يسمي شعيبًا بخطيب الأنبياء لفصاحته وحلاوةِ عبارتِهِ وبلاغتِهِ في دعوة قومه إلى الإيمان.
وقد أُرسِلَ إلى أهل مدينَ برسالته ، كما جاء بالقرآن الكريم: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف: 85].
كان أهلُ مدينَ قوماً كفاراً ضالين يعبدون الأيكة، والأشجار والنباتات ، إضافةً إلى اشتهارهم بسوء الخلق، حيث كانوا يُنقصون المكيالَ والميزانَ، ولا يُعطون الناسَ حقَّهم، فدعاهم شعيبٌ إلى عبادة الله وأن يتعاملوا بالعدل.
لم تكن قضيةُ نبيِّ الله شعيبٍ قضيةَ توحيدٍ وألوهيةٍ فقط، بل إنه كذلك كان تعديلاً وتقويماً لأسلوب حياةِ الناسِ، فبدأ شعيب في توضيح أمورِ سوءِ تعاملهم قال تعالى: {وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} [هود: 84].
ولكنهم أبوا واستكبروا واستمروا في عنادهم ولم يعطوا الناس حقوقهم، فقد كان أهل مدين يَعتبرون بَخْسَ الناسِ أشياءهم نوعاً من أنواع المهارة في البيع والشراء وشطارةً في الأخذ والعطاء؛ فقال لهم نبيهم {وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85].
أخذ قومه يحاجونه بأسلوبٍ جدليٍّ تهكُّميٍّ مريضٍ، قال تعالى: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87].
كيف يتركون عبادةَ آبائهم للأشجار والنباتات، وصلاةُ شعيبٍ تأمرُهم أن يعبدوا الله وحده، أيُّ جرأةٍ من شعيب هذه!؟ لم ييأس نبيُّ الله شعيب مِن قومه، فحاول إيقاظَ مشاعرِهم بتذكيرهم بمصير مَن قبلهم من الأمم، وكيف دمّرهم اللهُ بأمرٍ منه، فذكّرهم بقوم نوح، وبقوم هود، وبقوم صالح، وبقوم لوط، وأراهم أنّ سبيلَ النجاةِ هو العودة لله تائبين مستغفرين، فالله غفور رحيم.
لكنّ كلامَ نبيِّ الله شعيب زاد قومَهُ إعراضاً وبُعداً عنه قائلين، كما حكى الله تعالى ذلك عنهم: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا...} [هود: 91].
لقد كان ضعيفاً بمقياسهم، ضعيفاً لأن الفقراء والمساكين هم فقط من اتبعوه، أما عِلْيةُ القومِ فاستكبروا وأصرُّوا على طغيانهم؛ إنه المقياسُ البشريُّ الخاطئ، ونسوا وأنكروا أنّ القوةَ بيد الله، واللهُ مع أنبياءه، واستمروا بكفرهم وتهديدهم قائلين: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91].
فقالوا له: لولا أهلُك وقومك ومن يتبعك لحفرنا لك حفرة وقتلناك ضربا بالحجارة، فعندما أقام شعيب الحجة عليهم غيّروا أسلوبهم، فتحولوا من السخرية إلى التهديد لكن شعيب تلطف معهم متجاوزا لإساءتهم إليه وسألهم سؤالا كان هدفه إيقاظ عقولهم: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّه...} [هود: 92].
لكنّ قومَ شعيبٍ وصلوا لحدٍ ضاقوا ذرعاً بشعيب، فاجتمع رؤساء قومه وقرروا الدخول بمرحلة جديدة من التهديد، فهددوه أولا بالقتل، ثم تحولوا بتهديدهم بطرده من قريتهم، فخيّروه بين التشريد، أو العودة إلى ديانتهم وملتهم التي تَعبُدُ الأشجارَ والنباتات، ولكنّ نبيَّ اللهِ شعيبٌ أفهمهم أنَ مسألةَ عودتِهِ في ملتهم مسألةٌ لا يمكن حتى التفكير بها! فكيف بهم يسألونه تنفيذها! يدعوهم إلى ملة التوحيد ويدعونه إلى الشرك والكفر؟
دخل الصراع والمكابرة بقوم شعيب بأنْ بدءوا يطالبونه بأن يُنزل عليهم العقابَ فانتقل الصراعُ إلى تحدٍّ من لونٍ جديدٍ، فراحوا يطالبونه بأنْ يُسقِطَ عليهم كِسفاً من السماء إنْ كان من الصادقين، وراحوا يسألونه عن عذاب الله، فأوحى الله إليه أن يُخرِج المؤمنينَ ويَخرُجَ معهم من القرية، وخرَجَ شعيب والمؤمنون، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُود} [هود: 94-95].
جاءتهم غمامة كبيرة أظلّتهم ففرحوا بها، وتصوروا أنها تحمِلُ لهم المطرَ، ثم فوجئوا بالغضب، وأنهم أمامَ عذابٍ عظيمٍ في يومٍ عظيمٍ أدركتهم صيحةُ جبارةٌ من السماء جعلَتْ كلَّ واحدٍ منهم يجثُمُ على وجهه في مكانه الذي كان فيه، لقد صَعَقَتِ الصيحةُ كلَّ مخلوقٍ حيٍّ، فلم يستطع أيٌّ منهم أن يتحرك أو يجري أو يختبئ أو يُنقذ نفسه، كلُّ ما استطاعه هو أن يجثُمَ في مكانه مصروعاً بالصيحة.
الخطبةُ وسيلةُ النبيِّ شعيب لمعالجة الشرك في قومه:
شعيب واحد من هؤلاء الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى، رسولٌ أرسل إلى مدين قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 84].
مباشرة وبدون تمهيد جاء الأمر الإلهي بأنه تمّ تكليفُ شعيب بدعوة قومه مدين، خطابٌ موجّهٌ إلى شعيب ليكون داعية لقومه، كما وجهه الله تعالى من قبل لهود وصالح، قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 50].
قال تعالى: {وَإِلَى ثمود أَخَاهُمْ صالحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 61].
فهذه الآيات دلتنا على أن الدعوة هي واحدة، مصدرها واحد، فهي من عند رب السماوات والأرض، ومباشرة بدأ خطيبُ الأنبياء شعيب بهذه المهمة الصعبة، مهمةِ علاجِ اختلالاتٍ أصابَتْ عقولاً تمرّست في التكبر والتمرد والطغيان، {يا قومي مالكم من غيره}.
يا سبحان الله كيف تجرأ هذا الإنسانُ المخلوقُ الضعيفُ أمام الخالق العظيم، أن يعبُدَ غيرَ اللهِ عز وجل، كيف امتُهن العقلُ والفكرُ، حتى أصبح هذا الإنسانُ مثلَ الحيوانِ لا يهُمُّهُ إلا أن يملأ بطنَهُ، ويُشبع شهوةَ فرجِهِ، {يا قومي مالكم من إله غيره}، هذه الدعوةُ لأجلها قامت السماوات والأرض، وأُرسلَ الرسلُ، ووُضع الميزانُ، وخُلقت الجنةُ والنارُ، فلا يُقبلُ أيُّ عملٍ مِن أيِّ إنسانٍ قبل أن تصِحَّ العقيدةً، عقيدةُ أن لا إله ولا مدبِّرَ ولا مسيِّرَ ولا مُنعِمَ في هذا الكون إلا الله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].
ميزانٌ واضحٌ وصريحٌ إنّ الله لا يقبل أنْ يُشرَكَ به في ملكه، فعندما تختلُّ العقيدةُ، وتنتشر العقيدة الفاسدة بين الناس، فهنا لابدّ مِن وجود خطباءَ يفقهون الواقع فهماً سليماً، يستطيعون توجيهَ خطبهم في مواجهة هذه الاختلالات التي أصابت عقولَ الناس، وهنا قد استغلَّ شعيب هذه القدرة، علماً أنه كان خطيب الأنبياء، ومباشرةً بدأ المشوار الطويل في الدعوة إلى الله، هذا الطريق الشائك المليء بالصعوبات والمخاطر.
النقاشُ الذي دار بين شعيب عليه السلام وقومه:
جاء الرد مباشرة من قبل قومه، وبدأ النقاشُ والجدلُ مع هذه العقول، قالوا: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87].
فعلى الخطيب أنْ يعلمَ أنّ هناك مَن يرفُضُ الدعوةَ، ويحاربها بكلِّ ما استطاع من قوة، فعليه أن يصبر كما صبر الأنبياء والدعاة من قبله، فهذه سنةٌ من سنن الله في الأرض.
قالوا: يا شعيبُ أصلاتك وعبادتك وما تؤمن به دعَتْكَ لأنْ نترك ما عبدنا وما عَبَدَ أباؤنا ! إنه التقليدُ الأعمى، وهو أصعبُ شيءٍ يواجِهُ الخطيبَ، وهو أنّ الناس قد اعتادوا عاداتٍ مخالفةً لشرع الله، قال تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22].
كيف نترك ما عبد أبناؤنا؟ كيف نتخلى عن عاداتنا وتقاليدنا؟ كيف نتخلى عن عبادة الشجر والحجر والبشر.
ليس هذا فحسب بل قالوا لشعيب عليه السلام: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا...} [هود: 91].
نعم يتحجج المعاندون للحق، ويضعون التبريرات لأنفسهم لكي يبقوا بعيدين عن سماع كلمة الحق، {ما نفقه كثيراً مما تقول}، فهذا ديدن الباطل يراوغ ويخادع، فهذا الاختلال الفكري الذي أصاب قومَ شعيب فهم لا يستطيعون أن يفهموا قول نبيهم خطيب الأنبياء، وذلك بسبب التكبر والغرور الذي أصابهم، والخطيب والداعية إلى الله سوف يواجه مثل هؤلاء القوم الذين استكبروا عن عبادة الله، وسيواجه مثل هذا الخلال الفكري في مجتمعه.
على الخطيب أن ْيَضرِبَ الأمثلةَ التي يفهمُها عامةُ الناس:
وبعد أن بدأ شعيب بالدعوة قام يخطب بالناس، وبدأ بتصحيح هذا الخلل الفكري الذي حلّ في قومه: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 86].
قام بمخاطبة العقول التي أصابها الخلل بما تفهمه، فبدأ بتذكيرهم بهذه النعمة التي أنعمها عليهم وهي كثرة عددهم حتى أصبحوا قوة عظيمة في العدد، فعلى الداعية إلى الله والخطيب أن يقوم بمخاطبة العقول بما تفهم، كيف لا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قام بها، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وُلِدَ لِي غُلاَمٌ أَسْوَدُ، فَقَالَ: (هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟)، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (مَا أَلْوَانُهَا؟)، قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: (هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟)، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَأَنَّى ذَلِكَ؟)، قَالَ: لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَالَ: (فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ).
هذا الأعرابي الذي لا يفهم إلا عن الأبل والأنعام، خاطبه بما يفهم، فعالج الخطأَ بكلمة فهمها هذا الأعرابي، فحلَّ الإشكال.
هذا معلم الخطباء صلى الله عليه وسلم قد استغل هذا الفن وهو فن الخطابة بحلِّ أكبر الإشكالات.
الطغاةُ والمتجبرون هم أعداءُ الأنبياء:
وهذه سنةٌ جديدةٌ من سنن الله، وهي أنّ أتباعَ الأنبياء هم الضعفاءُ والمساكينُ، وهم أولُ مَن يستجيب للدعوة، وأما السادةُ والشرفاءُ والمترفون والأغنياء فهم أوّلُ مَن يقاوم ويجابه الدعوة، وهذا أيضاً ما يواجه الداعيةَ إلى الله في دعوته، فعلى الداعية أن يكون مستعداً للمواجهة معهم، بلا مداهنة ولا محاباة، ويبدأ الصراع والمناقشات مع القوم المتكبرين، فتارةً يتوعدون الذين أمنوا بالعقاب الشديد لمن اتبع هذا الداعية، قال تعالى: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِ جَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 88-89].
خللٌ فكريٌّ أصابَ هذه العقولَ، جُنّ جُنُونُهم عندما سمعوا بالدعوة التي تحطِّمُ زعامتهم ونفوذهم، مباشرة جاء التهديد والوعيد لنخرجنّكم من قريتنا، فقالوا لهم: أَوَلَوْ كنا نكره أنْ نُشرِكَ بالله ونجعلَ له الأنداد.
خطابٌ واحدٌ وعقولٌ مريضةٌ واحدةٌ ميزةُ الطغاةِ والمتجبرين، قال قوم نوح له: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27]. وقال أيضاً: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111].
قال قوم لوط له: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56].
خطابٌ واحدٌ موجَّهٌ مِن قبل الكفار للفئة التي استعلَتْ بإيمانها وأمنت بربها: أخرجوا الذين أمنوا من القرية أبعدوهم، حتى لا يُفسدوا عقيدة الناس، أو يعودوا في ديننا دين الأباء والأجداد، إلى عبادة الشجر والحجر، وترك عبادة رب البشر.
وبعد فشل التهديد يأتي دور الكلام الجميل المنمَّق الذي يحاول فيه الذين كفروا أن يخدعوا به الناس، قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنْ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} [الأعراف: 90].
فقد يواجه الخطيبُ والداعيةُ إلى الله مَن يستطيع تطويعَ لسانِهِ في سبيل الباطل، ويُقنعُ الناسَ بأنّ ميزان الخسارة والربح هو دنيويٌّ، ويقولون للفئة التي استعلَتْ بإيمانها: لئن اتبعتم هذا النبيَّ أو هذا الداعيةَ فإنكم خاسرون، فستواجهون القتل والتشريد والعذاب والإخراج، ميزانٌ خاسرٌ في مقاييس الأرض، ولكنْ عند الله تعالى هو ميزان رابح، قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8]
أُحرِقَ أصحابُ الأخدود، عُذب أتباع الأنبياء، فاضت أرواحهم إلى السماء وبقيتْ ذكراهم إلى قيام الساعة، ويوم القيامة يُجزون الجزاء الأوفى، هذا هو مقياس الربح والخسارة، هو الميزان الرابح والوحيد ميزان الله تعالى.
ويأتي الردُّ مباشرةً من قبل خطيبِ الأنبياءِ بدون مداهنةٍ ولا دَنِيّةٍ في الدين قال تعالى: {قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89].
درسٌ خالدٌ لكلِّ خطيبٍ وداعيةٍ، لا مداهنةَ في دين الله، يقول لهم: ما هذا الكذب والافتراء الذي تريدون مني أن أفعله، وخاصة بعد أن أنجاني وأرشدني إلى طريق الحق، إلى طريق الإيمان بالله تعالى.
الإصلاحُ هو طريقُ الداعية إلى الله:
قال تعالى: {إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
والمقصود من هذا الكلام أنّ القومَ كانوا قد أقرّوا بأنه حليم رشيد، وهذه من أهم صفات الخطيب وهي أن يتصف بالحلم، ولما أقروا له بذلك لأنه كان مشهورا بين الخَلْقِ بهذه الصفة، فكأنه عليه السلام قال لهم: إنكم تعرفون مِن حالي أني لا أسعى إلا في الإصلاح وإزالة الفساد والخصومة، فلما أمرتكم بالتوحيد وترك إيذاء الناس، فاعلموا أنه دينٌ حقٌ، وأنْ ليس غرضي منه إيقاع الخصومة وإثارة الفتنة، فإنكم تعرفون أني أُبغض ذلك الطريق ولا أبحث إلا على ما يوجب الصلح والصلاح بقدر طاقتي، وذلك هو الإبلاغ والإنذار، وأما الإجبار على الطاعة فلا أقدر عليه، ثم إنه عليه السلام أكد ذلك بقوله: {وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب}، وبيّن بهذا أنّ توكله واعتماده في تنفيذ كل الأعمال الصالحة على توفيق الله تعالى وهدايته.، دعوى الإصلاح وهي إصلاح الخلل الذي أصاب عقول الناس، فالداعية يجب أن يكون همه إصلاح الفكر الذي تلوث بدرن الانحراف، أو أصاب المجتمع، فنجرف مع الشرك وعبادة غير الله.
وأهم ما يقوم به الخطيب هو أن يوظف خطبته في الإصلاح بين الناس وحلِّ مشاكلهم، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالحِجَارَةِ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: (اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ).
ويكون الإصلاح عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125].
فالخطيب يصلح بموعظته وحكمته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.
على الخطيب أن لا تخالف أقواله أفعاله:
{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88].
إنّ أخطر ما يفعله الخطيب والداعية هو مخالفة أقواله أفعاله، هكذا قالها بكل صراحة ووضوح، كيف تريدون مني أن أخالف ما أدعوكم إليه، درس واضح لكل داعية وخطيب، وجّهَهُ إليه نبي الله شعيب عليه السلام، فعلى الخطباء أن توافق أعمالهم أقوالهم، وذلك ليكسبوا ثقة الناس والأتباع، وقد ذم الله تعالى مخالفة القول للفعل، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44].
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أعظم واجبات الخطيب والداعية إلى الله، فتعطيلُ هذه الفريضة من أهم أسباب تداعي الأمم وسقوطها، قال تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُون} [المائدة: 79].
فقد ذم الله تعالى بني إسرائيل لتعطيلهم فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وأعظمُ من عدم التناهي عن المنكر نهيُ الناس عن المنكر وإتيانُهُ، فالعقوبةُ التي توعّدَهُ الله تعالى بها عقوبةٌ عظيمةٌ.
وَقالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2- 3].
قال الشاعر:
لا تَنْه عن خُلُقٍ وتأتيَ مثله عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
فمن آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون الإنسان أول ممتثل للأمر، وأول منتهٍ عن النهي.
وذكر أن ابن الجوزي رحمه الله الواعظ المشهور وهو من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله يعني ممن يقلدون الإمام أحمد، وكان واعظاً مشهوراً بالوعظ يوضع له كرسي يوم الجمعة ويلقي المواعظ، ويحضره مئات الآلاف، وكان من شدة تأثيره على القلوب أن بعض الحاضرين يصعق ويموت، من شدة تأثيره على القلوب، فجاءه ذات يوم عبد رقيق، فقال له: يا سيدي، إن سيدي يتعبني، ويشق علي ويأمرني بأشياء ما أطيقها، فلعلك تعظ الناس وتحثهم على العتق فيُعتقني، فقال: نعم أفعل فبقي جمعة أو جمعتين أو ما شاء الله ولم يتكلم عن العتق بشيء، فجاء إليه العبد، وقال له: يا سيدي أنا قلت لك تكلم عن العتق منذ زمن، ولم تتكلم إلى الآن، قال: نعم، لأني لست أملك عبداً فأعتقه، ولا أحب أن أحث على العتق وأنا لم أعتق سبحان الله فلما منّ الله عليّ بعبد وأعتقته صار لي مجال أن أتكلم في العتق، ثم تكلم يوماً من الأيام عن العتق فأثر ذلك نفوس الناس فأعتق الرجل عبده.
http://shamkhotaba.org