الشتاء ربيع المؤمن
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الأربعاء 31 أكتوبر 2018 م
عدد الزيارات : 3855
مقدمة:
علينا أن نعلم جميعا أنّ في خلق الأرض ومن عليها لعبراً، وفي خلق السماء وما فيها لمدّكراً، وأنّ مِن وراءِ تصريفِ الأحوالِ لخبراً، ولقد دعانا ربّنا لذلك فقال: {أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَـاهَا وَزَيَّنَّـاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَـاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَواسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} [ق: 6-8].
إنَّ المتأمِّلَ في هذا الكون ليزدادُ إيمانُهُ ويصِحُّ يقينُهُ ويُقبِلُ على ربه ويتوبُ مِن ذنبه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190- 191].
1- تقلُّبُ الزمانِ
أيها المسلمون: إنّ تقلّبَ الزمانِ وتصرفَ الأحوالِ مِن حرٍّ إلى قَرٍّ، ومن صيفٍ إلى شتاءٍ، إنما هو بحكمته وتصريفه، فهو -سبحانه- أعلمُ بما يُصلِحُ عباده: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216].
{فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء: 19].
إنَّ المؤمنَ ليتميزُ عن غيره بحسن صبرِهِ عند الضراء، وبجميلِ شكرِهِ عند السراء، وإنّ ما نجدُهُ ونُحِسُّهُ مِن شدةِ البرودةِ في فصل الشتاء إنما هو نفسٌ من الزمهرير، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشتكتِ النارُ إلى ربها فقالت: ربِّ أَكَلَ بعضي بعضاً، فأذِنَ لها بنفسين، نفسٍ في الشتاء ونفسٍ في الصيف، فهو أشدُّ ما تجدون من الحرِّ وأشدُّ ما تجدون من الزمهرير). أخرجه الشيخان
ما أوقعَ ذلك في نفوسِ المتقينَ! وما أشدَّ تأثيرَهُ على قلوبِ المخبتينَ! يُحِسُّون بذلك فيتذكرون الزمهريرَ، فيزيدُهم ذلك إيماناً وتوبةً وإقبالاً على رب العالمين.
وهكذا حالُ المؤمنينَ الصادقين، كلُّ ما حولَهم يُذكِّرُهُم فيتذكَّرون، وبدقيقِ صنعةِ اللهِ يتفكرون، ثم لربهم يشكُرون، ولذنوبهم يستغفرون، وعلى تقصيرهم يحزنون.
فما أحرانا معاشرَ المؤمنين أنْ نعتبرَ ونتعظَ! فمهما تكنْ شدةُ الحرِّ فليستْ أشدَّ مِنَ الحميم، ومهما تكنْ شدةُ البردِ فلن تصيرَ أشدَّ من الزمهرير: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة81].
2- غنيمة الشتاء
إنّ مصالحَ العبادِ وحياتهم لا تَصلُحُ إلا بتعاقب الحالَينِ، فاللهُ حكيمٌ عليمٌ، لم يوجِدْ شيئاً عَبَثاً ولم يخلُقْ شيئاً مَحْضاً، والشتاءُ يا عباد الله ظرفٌ يمكن تسخيرُهُ لطاعة الله، بل إنّ الواجبَ يُحتِّمُ ذلك، جاء في مسند الإمام أحمدَ مرفوعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: (الشتاءُ ربيعُ المؤمنِ، طال ليلُهُ فقامه، وقصُرَ نهارُهُ فصامه). مسند أحمد
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: "مرحباً بالشتاء، منه تَنزِلُ الرحمةُ، أما ليلُهُ فطويلٌ للقائم، وأما نهارُهُ فقصيرٌ للصائم".
وهاتان نعمتان فرَّطَ فيهما كثيرٌ منّا وهما يتيسّران في الشتاء، لِيحاسِبْ كلُّ واحدٍ منا نفسَهُ: كمْ ليلةً قامها وكمْ يوماً صامه؟ ألا ما أعظمَ تقصيرَنا! لقد كان سلفُ هذه الأمة رحمهم الله قليلاً من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، فقوي إيمانُهم وصدّقَهُ يقينُهم، فاجتهدوا وكَسَلْنا، وقاموا ونِمْنا؛ قدوتُهم في ذلك الرسولُ الأعظمُ والنبيُّ الأكرمُ عليه من ربه الصلاة والسلام، الذي كان يقومُ الليلَ حتى تتورّمَ قدماه، وكان عملُهُ دِيْمَةً على الدوام.
سُئلَ أحدُ السلفِ ما بالنا لا نقومُ الليلَ؟ قال: "كَبَّلَتْكُمْ معاصيكم".
إننا والله الذي لا إله غيره لم نُحْرَمْ صلاةَ الليلِ إلا بذنوبنا وإسرافنا على أنفسنا، ذلك الثلثُ الأخيرُ الذي تتنزَّلُ فيه الرحماتُ، وتُقسَمُ فيه الهباتُ مِن لَدُنْ ربِّ الأرضِ والسموات، باسطاً يده سحّاءَ، يَغفِرُ ذنوبَ المذنبين، ويَكشِفُ الضُّرَّ عن الملهوفين، ويُنفِّسُ كربَ المكروبين، يُجيبُ دعوةَ الداعي إذا دعاه.
كَرَمٌ وتفضُّلٌ منه نحن عنه معروضون، وبلذيذ المنام نحن مشتغلون.
لو دُعِيَ أحدُنا في كلِّ ليلةٍ في الثلثِ الأخيرِ ليُعطى مالاً لما تأخَّرَ أبداً، فما بالُنا نتخلّفُ عن أمرٍ هو خيرٌ من الذهب والورِقِ! 
لقد صَدَقَ فينا قولُ الله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * والآخرة خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16- 17].
3-الرُّخص في الشتاء
في فصلِ الشِّتاء تشتدُّ الحاجةُ إلى بعضِ الرُّخَصِ التي شرَعَها الإسلام بسماحته ويُسْره؛ ففي الشتاء -وكذا في الصيف- يُرخَّصُ للمسلم أنْ يمسحَ على الجواربِ؛ درئاً للمشقَّة، يومًا وليلةً للمُقيم، وثلاثةَ أيامٍ بلياليها للمسافِر، بشروطٍ مُبيَّنةٍ في كتبِ الفقهِ.
4-أبواب الخير في الشتاء
عباد الله: ذلك فضلُ اللهِ يؤتيه من يشاء، وأبوابُ الخيرِ كثيرةٌ ومشرَعَةٌ، لاسيما في هذا الموسم، فمن الناس مَن لا يملك ما يَدفَعُ عن نفسه ضررَ هذا البردِ، فها قد سنَحَتِ الفرصةُ لأهل الثراءِ والأغنياءِ ومحبي الخيرِ أن يتفقَّدوا جيرانَهم والمحتاجينَ مِن أقاربهم.
ومع حدّةِ البرد وقساوةِ الشتاءِ، تشتدُّ الحاجةُ وتتنوعُ، لا سيما مع حالِ كثيرٍ مِن أهلنا المهجّرين خارجَ الأوطانِ، لا سيما لمن هم في ظروف معيشية غير مستقرة، كالمخيمات، وأماكن الإيواء المؤقتة؛ وإنّ المؤمنَ ينظُرُ لمثل هذه المواسم نظرةَ مَن يرابِحُ في الأجور لِيُعْظِمها، فينافس في طرق الخير ويسارع فيها، يحدوه رضى ربِّهِ ووصلُ أولي القربى..
ويا لها من لمساتٍ حانيةٍ من بعضِ المحسنين أنْ يرسلَ إلى مدرسةٍ مِنَ المدارسِ في مدينته فيقول: ارفعوا إليّ أسماءَ الطلبةِ الفقراءِ، يريدُ أنْ يتبرعّ َلكلِّ واحدٍ منهم بثوبٍ وأحذيةٍ وغيرها من الملابس الشتوية، لقد أثلج صدورَنا وجعلنا نلهَجُ بالثناء والدعاء، ولنْ تعدِمَ الأمةُ أمثالَ هؤلاءِ، فإنّا على يقينٍ أنّ هناك الكثيرَ ممن يسمعون هذا الآن يتشوقون إلى مثلِ هذه الأعمال، ولكنهم لا يجدون مَن يعينُهم على إيصال هذه النفقات، فلنتعاون جميعاً على ذلك، ولْنرفَعْ حاجةَ مَن لا يستطيعُ رفعَها، فإنّ هناك مَن لا يسألِ الناسَ إلحافاً وهم معروفون بسيماهم، لا يَخْفَون على مَن يُريدُ البذلَ والإحسانَ.
فلْنتقِّ اللهَ جميعاً في إخواننا ولْنتقِّ الزمهريرَ ولو بشقِّ تمرةٍ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَـاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ وَلَقَّـاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً * مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} [الإنسان: 8-13]. 
 

http://shamkhotaba.org