مقدمة:
لا يكُنْ حظُّكَ من اسم الله الرقيبِ الرهبةَ فقط، فليكُنْ لك مِن هذا الاسم الميمونِ نصيبٌ من الرغبة.. الرقابةُ ضميرُ الأمةِ الحيّ. صلاحٌ للأفراد، وأمانٌ للمجتمعات..
1- مراقبة الله صلاح الفرد والأمة
إن العلاج الشافي والدواء الكافي لأمراضنا الدينية والدنيوية، يكاد ينحصر في (الرقابة) نعم الرقابة وما أدراكم ما سر الرقابة؟
إنها صلاحٌ للفرد وللأمة في كل ميادين الحياة؛ الرقابةُ بلسمٌ وترياقٌ لمشاكلنتا وأدوائنا في هذا الزمان؛ الرقابةُ هي النور الذي يبدِّدُ كلَّ ظلماتِ البغي والعدوانِ؛ إنها القوةُ الإيمانيةُ التي تلغي كلَّ خطأٍ، وتَدمَغُ كلَّ باطلٍ؛ الرقابةُ هي الضميرُ الحيُّ اليقِظُ الذي به قوامُ الدنيا والدين؛ الرقابةُ هي اللمسة النبويةُ في قولِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقِ اللهَ حيثما كنتَ).
الرقابةُ هي المقامُ العالي، والمنزل السامي الذي يبلُغُهُ المسلمُ في علاقته مع الله، ومع عباد الله، كما قال الله: {إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس:11].
هي الدرجةُ التي عناها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ).
إنّ انتشارَ الجريمةِ في المجتمع، وشيوعَ الفاحشةِ بين البشر، وانحرافَ الناسِ عن منهج الله وسنّةِ رسولِ الله، كلُّ ذلك راجعٌ في حقيقته إلى غياب الرقابة وموت الضمير.
وهذا معنى حديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خلَوا بمحارم الله انتهكوها).
آهٍ ثم آهٍ كم نعاني اليومَ مِنْ تعدٍ للحدود وخيانةٍ للعقود، وضياعٍ للحقوق وازديادٍ في العقوق!
آه وألفَ آه كم نعاني اليومَ مِنْ سرقةٍ للأموال واغتصابٍ للأعراضِ، وهتكٍ للحرمات وارتكابٍ للموبقات! والسببُ وراء ذلك فقدانُ المراقبةِ لله تبارك في علاه، وهذا ما ذكره الله تعالى عن أخلاق المنافقين في حال غيابهم عن الرقيب: {وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ} [البقرة:14].
{وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ} [البقرة:205].
ولسانُ حالِهم: {هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ} [التوبة: 127].
2- يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله
وهذه الشرذمةُ الفاسقةُ المنافقةُ من الناس لا بدَّ أنْ نقولَ لهم قولَ اللهِ الكبيرِ المتعالِ: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} أ النساء:108].
ونقولُ لكلِّ ظالمٍ جائرٍ، ولكلِّ معتدٍ آثمٍ:
إذا ما خلوْتَ، الدّهرَ، يوْماً، فلا تَقُلْ خَلَوْتُ ولكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
ولاَ تحْسَبَنَّ اللهَ يغفِلُ ساعةً وَلا أنَ مَا يخفَى عَلَيْهِ يغيبُ
من هنا كان لزاماً علينا أنْ نتكلمَ عنِ الرقابة؛ والمقصودُ مراقبةُ الخالقِ لا المخلوق، أنْ نجعلَ مراقبةَ الله حيةً في حياتنا، قائمةً في كلِّ حركاتنا وسكناتنا، أنْ تكون رقابةُ اللهِ هي الوازعَ والدافعَ لكلِّ خيرٍ نقومُ به، والزاجرَ والمانعَ عن كلِّ إثمٍ وشرٍّ نبتعدُ عنه، كما كان الرعيل الأول من الصحابة الكرام والسلف الصالح من التابعين لهم بإحسان، لقد تربوا على قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4].
كانوا يرددون أمام صغارهم: (اللهُ شاهدي، اللهُ ناظري، اللهُ معي) يُردِّدون على قلوبهم قولَ ربِّهم: {يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16].
حالُ مشاعرِهم كقول شاعرِهم:
رقيبٌ على كلِّ الوجود مهيمنٌ على الفلك الدوارِ نجماً وكوكبا
رقيبٌ على كلِّ النفوس وإنْ تلُذْ بصمتٍ ولم تجهَرْ بسرٍّ تغيَّبا
رقيبٌ تعالى مالِكُ الملكِ مُبصِرٌ به كلُّ شيءٍ ظاهرٍ أو مُحجَّبا
أيها المسلمون: على هذه المراقبة الدائمة لله، والشعورِ الدائمِ بمعية الله ربى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصحابةَ الكرامَ ومَنْ تبعهم مِن أهل الإسلام، فكنا نسمَعُ القصصَ المشرقةَ الوضاءةَ عن صفاء سريرتِهم ونقاءِ سيرتهم؛ فما قصةُ بائعةِ اللبنِ عنكم ببعيدة، عندما قالتْ أمُّها لها: أخلِطُ اللبنَ فإنّ عمرَ لا يرانا في هذه الظلمة من الليل، فكان الجوابُ من الفتاة المراقِبةِ لله: "يا أماهُ إنْ لم يكُنْ عمرُ يرانا فإنّ ربَّ عمرٍ يرانا".
وليس بغائبٍ عنكم قولُ الراعي لابن عمر رضي الله عنهما عندما قال له: قُلْ لصاحب الغنم إنّ الذئبَ قد أكَلَ الشاةَ، فقال الغلامُ المؤمنُ المراقبُ لله: "فأين اللهُ فأين الله؟"
الله أكبر كم نحتاجُ في معاملاتنا لهذه الرقابة، كم نحن بحاجة لهذه الكلمة أنْ تكون منهاجَ حياةٍ لنا، ونظامَ حكمٍ فيما بيننا، وكأنهم يُردِّدون دائماً: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى} [العلق: 14].
ولسانُ حالِهم يقول:
وإذا خلوتَ بريبةٍ في ظلمة والنفسُ داعيةٌ إلى الطغيانِ
فاستحيي مِنْ نظرِ الإله وقُلْ لها إنّ الذي خَلَقَ الظلامَ يراني
3- ثمرات المراقبة
أيها الاخوة الكرام: كلنا نعلم أنّ لمراقبة الله تعالى ثمراتٍ في صلاح الفرد والمجتمع، ثمراتٍ في الدنيا والآخرة، ثمراتٍ كثيرةٍ غيرِ مقطوعةٍ ولا ممنوعةٍ؛ فمراقبةُ اللهِ تعالى تهذِّبُ النفوسَ وتطهِّرُ القلوبَ، كما قال علامُ الغيوبِ: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41].
إنّ من ثمرات مراقبةِ الله تعالى البعدُ عن المعاصي والخطايا في السر والعلن، حتى ولو كانت طرفةَ عينٍ فإنّ المراقبَ لله يعلم قولَ الله: {يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].
إنّ من ثمار المراقبة لله أنها تطهرك من أخلاق المنافقين، وتعزِّزُ فيك أخلاقَ المؤمنين، وهذا من معاني قولِ ربِّ العالمين: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80].
من ثمرات مراقبة الله تعالى أنها تُشعِرُ العبدَ بالسكينة، وتوصِلُ صاحبَها للجنة، كما قال رب البرية: {وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:31-33].
إنّ من ثمرات مراقبة الله العاجلةِ شعور الناس بالسلام والأمان؛ مراقبةُ الله توقِظُ الضمائرَ وتقضي على الجرائم؛ مراقبةُ الله تجعَلُ المجتمعاتِ نظيفةً من الفواحش والآثام، نقيةً من الظلم والعدوان، كما قال الرحيم الرحمن: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
إنّ من ثمارِ المراقبة النافعة أنها تُنقِذُ من الخطيئة، وتوصِلُ إلى السيادة، وهذا ما كان لنبي الله يوسف يومَ: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23].
فكانت العاقبة: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54].
وأقولُ جماعاً لكل ثمرات مراقبة الله تعالى: "إنّ زوالَ كلِّ العيوب بمراقبة علام الغيوب، وإنّ نزولَ كلِّ الخيرات بمراقبة ربِّ الأرضِ والسماواتِ".
وهذا مصداقُ قول الله تعالى: {وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ} [الرحمن: 46].
أيها الأخوة المؤمنون: إنّ النفسَ أمارةٌ بالسوء والخطيئة، وداعيةٌ للهوى والرذيلة، وإنْ تُركَتْ مِن غير تربيةٍ جَرَتْ بصاحبها للهاوية، وأوصَلَتِ الفردَ والمجتمعَ إلى التهلكة، كما قال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9-12].
ولذا نصح الشاعر في معالجة النفس فقال:
والنفسُ كالطفل إنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ على حبِّ الرضاع وإنْ تَفطمْهُ ينفطِم
فاصرِفْ هواها وحاذِرْ أنْ توليه إنّ الهوى ما تولى يصمي أو يَصِم
لذا فإنّ كباحَ النفسِ عن شهواتها، ولجامَ النفسِ عن زلاتها يكون بمراقبة الله تعالى في السر والعلن، وفي السفر والحضر، لهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل الله خشيته في الغيب والشهادة؛ فالمراقبةُ لله هي العاصمةُ من المعصية، وهي الواقيةُ من الوقيعة.
مراقبةُ الله ليست فقط مانعةً من السيئات، بل هي دافعة ٌإلى الخيرات، نعم دافعةٌ لكلِّ خيرٍ وطاعةٍ، مراقبةُ الله تعالى هي التي تحرِّكُ العبدَ في ظلمة الليل ليقِفَ بين يدي الجليل ويبكي ويركَعَ ويسجُدَ، كما قال الله في وصف عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 64-65].
إنّ مراقبةَ الله تعالى تدفَعُ العبدَ ليُقدِّمَ صدقاته سراً فلا يراه أحدٌ إلا الواحدُ الأحدُ، كما قال رسول الأنام عليه الصلاة والسلام: (ورجلٌ تصدَّقَ بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تَعلَمَ شِمالُهُ ما تُنفِقُ يمينُهُ).
إنّ مراقبةَ اللهِ هي التي تدفَعُ العبدَ ليقدِّمَ أنفسَ ما يملِكُ، يقدِّمَ روحَهُ وأنفاسَهُ رخيصةً في سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله تعالى لا يرجو إلا الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218].
القارئونَ كِتَابَ اللهِ فِي رَهِبٍ والواردونَ حِيَاضَ المَوْتِ فِي رَغبٍ
جمالُ الأرضِ كانوا في الحياة وهم بعد الممات جمالُ الكتب والسير
وفي عموم الطاعات لله وعمومِ الخيرات لعباد الله تَذَكَّرْ أنك تحتَ رقابةِ الله وضمنَ معيةِ الله، قال الله مشجعاً لك على فعل الخيرات والصالحات: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48].
أيها المؤمنون: إنْ كان لمراقبة الله كلُّ هذه الآثارِ والثمارِ فهي كالشجرة الطيبة أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء تؤتي أُكُلَها كلَّ حينٍ بإذن ربِّها.
4- ما السبيل إليها؟
فما هو السبيلُ والطريقُ إلى إحياء مراقبة الله في النفوس، ونشرِها في المجتمعات؟
يكونُ ذلك ضمن هذه اللبناتِ العظامِ في بناء مراقبة العليم العلام جلَّ جلاله وتقدَّسَتْ أسماؤهُ:
اللبنة الأولى: إنّ اللبنة الأولى في بناء صرح المراقبة، هي معرفة الله بأسمائه وصفاته، فإنّ مِن بين أسماء الله الحسنى اسمُهُ الرقيبُ: {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117].
هو المُطَّلِعُ على خلقه يَعلَمُ كلَّ صغيرةٍ وكبيرةٍ في ملكه، لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، الذي يرى ويسمَعُ دبيبَ النملةِ السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة السوداء، يراقِبُ الظاهرَ والمستورَ، ويعلَمُ ما في الصدور، ويعلَمُ ويراقِبُ خلجاتِ قلبِكَ ونبضاتِ فؤادِكَ، ما من شيءٍ إلا وتحتَ رقابتِهِ وسمعِهِ وبصره:
وَهْوَ الرَّقِيبُ عَلَى الخَوَاطِرِ واللَّوَا حِظِ كَيْفَ بالأَفْعَالِ بالأَرْكَانِ
أخي المبارك: إذا علمتَ هذا فلا يكنْ حظُّكَ من اسم الله الرقيبِ الرهبةَ فقط، فليكُنْ لك مِن هذا الاسم الميمونِ نصيبٌ من الرغبة، فإنْ كان اللهُ يراقبُك ويَطَّلِعُ عليك، ولن يُضَيِّعَ لك حسنةً، ولن يُنقِصَ من أجرك حتى النية، من هنا أدعوك للعمل الصالح والفعل الناجح، وأبشرْ بقولِ الرقيبِ: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [البقرة: 272].
فبادِرْ بالأعمال الصالحات قبل أن تغادِرَ فإنّ اللهَ رقيبٌ.
هو الذي يرى دبيبَ الذَّر في الظلمات فوقَ صمِّ الصَّخر
وسامعٌ للجهر والإخفات بسمعه الواسع للأصوات
وعلمِهِ بما بدا وما خَفي أحاط علماً بالجليِّ والخفي
اللبنة الثانية: الإكثارُ من ذكر الله فإنه يُشعِرُك بمراقبته.
يا عبد الله: إنها عبادةٌ سهلةٌ يسيرةٌ؛ وكلُّ الخذلانِ في ترك ذكرِ الرحمن في كل زمانٍ ومكانٍ.
إنّ أقصرَ طريقٍ يوصلك إلى مرتبة المراقبة أنْ يَلْهَجَ لسانُكَ بذكر الله، وعندها يستحيل أن تتجرأ على معصيته وأنت قائمٌ على ذكره، وصدق القائل:
فأَشُدُّ القلبَ بخالقه والذكرُ الدائمُ يحرُسُني
إنْ ذكرَ الله يحرُسُكَ من المعاصي والذنوب، ويحميك من المثالب والعيوب، لهذا أمر الله بالإكثار من ذكره في كلِّ موطنٍ حتى عند مقارعة العدوان فقال الملك الديان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].
قال أهل العلم والإيمان: أفضلُ الطاعات مراقبةُ الحقِّ على دوامِ الأوقات.
اللبنة الثالثة: أنْ تتذكرَ قدرةَ اللهِ عليك ومراقبتَه الدائمةَ لك: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس: 61].
5- وهذه همساتٌ لكم
واعلمْ أنّ الله يُملي للظالم ولا يُهمله، فإذا أخذه فلن يُفلتَهُ؛ وهنا لا بد من نداءاتٍ لأهل الغفلة عن مراقبة الله، الذين يسعون في الأرض فساداً، ويعتدون على عباد الله في أرض الله، ويَسطُون على ممتلكات الناس ظلماً وبهتاناً، ويسفِكون الدماءَ إجراماً وعدواناً، في غفلة عن الرقيب الحسيب، ويقولون: خلِّ الحسابَ ليوم الحساب!!
لا بد من نداءاتٍ لأهل الغفلة، وحذارِ حذارِ أنْ نكونَ منهم، أو أنْ نشاركهم في غفلتهم فقد قال الله محذراً: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} [هود: 113].
أيها الظالم الآثم: إنْ لم يكُنِ المظلومُ قادراً على أخذ حقِّهِ منك، فتذكَّرْ قولَ الرقيبِ الحسيبِ: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].
احذرْ يا أيها الإنسانُ أنْ تَظلِمَ مَن لا ناصر له إلا الله، وتذكّرَ ْقولَ الشاعر:
لا تظلِمنّ إذا ما كنتَ مُقتدراً فالظلمُ مرتعُه يُفضي إلى الندَم
تنامُ عينُك والمظلومُ منتبهُ يدعو عليك وعينُ الله لم تَنَمِ
وأنت أيها المظلوم: لا تحزنْ فإنّ الله يراك ويسمَعُ نداك، وعما قريبٍ يلبي دعاك، فهو القائلُ لكلِّ مظلومٍ محرومٍ: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين).
أيها القاضي: إذا حكمتَ بهواك، وظننتَ أنّ اللهَ لن يراك، فاعلمْ أنّ القضاةَ ثلاثةٌ: اثنان منهما في النار، قاضٍ عرَفَ الحقَّ وقضى بغيره، وقاضٍ قضى بغير علمٍ، {فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} [ص: 26].
وخذها شعرية تصل إلى المشاعر الحية المراقبة لله:
إذا جار الأميرُ وحاجباه وقاضي الأرض أسرَفَ في القضاء
فويلٌ ثم ويـــلٌ ثم ويـــلٌ لقاضي الأرض من قاضي السماء
أيها التاجر: إنك عندما تُكثِرُ ثروتك بالغش والتزوير، وتزيدُ في مالك من دم الفقراء ودموع المحتاجين، اعلم بأن الله يراك، ومُطلِعٌ على سرك ونجواك، وسيحاسبك على كل قرشٍ جنيته بالحرام، وقد حذرك رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام فقال: (يا معشر التجار إنكم تحشرون يوم القيامة فجاراً إلا من بر واتقى وصدق).
فحذارِ حذارِ أيها التجار أن تكسبوا الدنيا بالمال الحرام، وتخسروا الآخرة والجنان فقد قال رب العالمين محذراً ومنذراً: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 1-6].
يا مدمنَ الذنبِ أما تستحي واللهُ في الخلوة ثانيكا
غَرَّكَ مِن ربِّك إمهالُهُ وسِترُهُ طول مساويكا
النداءات لأهل الغفلة كثيرة، فإلى كلِّ عاصٍ ولاهٍ، تذكَّرْ مراقبةَ الإله.
إلى كلِّ عاقٍ وقاطعٍ للأرحام، تذكَّرْ مراقبةَ العليم العلام.
إلى كلِّ غالٍ وسارقٍ ومحتالٍ، تذكَّرْ مراقبةَ الكبير المتعال.
إلى كلِّ ظالمٍ وباغ وطاغيةٍ، تذكَّرْ مراقبةَ ربِّ البرية.
ولتنذكر جمعياً قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1].
وأنت يا من تؤمن برقابة الله: أحسن صلاتك فالذي يراقبك الله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2].
أدِّ زكاةَ مالِكَ فالذي يراقبك الله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274].
طهِّرْ قلبَك من الغل والحقد والحسد، فالقلبُ مكانُ نظرِ الله: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
جَمِّلْ أخلاقَكَ ومعاملاتك، فالذي يراقب ألفاظك وتحركاتك هو الله: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35].
كُنْ كالصحابة في زهدٍ وفي ورعٍ القومُ هم، ما لهم في الناس أشباهُ
عُبّــاُد ليــلٍ إذا جَــنَّ الظـلامُ بهـم كم عابدٍ دمعُــهُ في الخــد أجــراه
وأُسْدُ غابٍ إذا نادى الجهادُ بهــم هبــوا إلى المـوت يَسْتجـدون لقياه
يا ربِّ فابعثْ لنا مِن مثلهم نفـراً يَشيــدون لنا مجــــــداً أضعنـــــاه
http://shamkhotaba.org