الباحث:
مقدمة:
اتُخِذَ المنبرُ بادئ ذي بَدءٍ للخطبة، حيث كان الرسولُ صلى الله عليه وسلم يرتقيه أيامَ الجمعةِ والعيدينِ لإلقاء الخطبةِ على المسلمين، إذْ إنّ الهدفَ الأساسيَّ وراءَ اتخاذِهِ له كان لأجل إيصالِ صوتِهِ وإسماعِ الحاضرينَ كلامَهُ.
إلا أنه قد ظهرتْ بعضُ الفوائدِ الأخرى للمنبر من خلال توظيفِ النبي صلى الله عليه وسلم والأمةِ بعده له كأداةٍ لخدمة أمورٍ منها:
أولاً: المنبرُ لإعلان الشرائع: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يجعلُ من المنبر منصةً إخباريةً وتبليغيةً لما يوحي الله إليه من شرائع، لكونه أقربُ إلى التبليغ، وأبلغُ في وصول الحكم إلى الأذهان، وعلى ذلك جرى عملُ الصحابةِ والخلفاءِ، ومن ذلك قضيةُ تحريمِ الخمرِ، حيث بَلّغَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم أصحابَهُ بتحريمها على المنبر، وكذلك فَعَلَ عمرُ رضي الله عنه.
فعَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قال: "كُنْتُ سَاقِي الْقَوْمِ تِينًا وَزَبِيبًا خَلَطْنَاهُمَا جَمِيعاً... فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ وَالْقَوْمُ يَشْرَبُونَ إِذْ دَخَلَ عَلَيْنَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: مَا تَصْنَعُونَ؟ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ نَزَّلَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ، فَأَرَقْنَا الْبَاطِيَةَ وَكَفَأْنَاهَا، ثُمَّ خَرَجْنَا فَوَجَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا عَلَى الْمِنْبَرِ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ وَيُكَرِّرُهَا: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]".
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: العِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالعَسَلِ، وَالخَمْرُ مَا خَامَرَ العَقْلَ".
ومثله ما روته عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ بَرِيرَةُ، فَقَالَتْ: إِنَّ أَهْلِي كَاتَبُونِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي تِسْعِ سِنِينَ، فِي كُلِّ سَنَةٍ أُوقِيَّةٌ فَأَعِينِينِي، فَقُلْتُ لَهَا: إِنْ شَاءَ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً وَأُعْتِقَكِ، وَيَكُونَ الْوَلَاءُ لِي فَعَلْتُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِأَهْلِهَا فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ، فَأَتَتْنِي فَذَكَرَتْ ذَلِكَ قَالَتْ: فَانْتَهَرْتُهَا، فَقَالَتْ: لَا هَا اللهِ إِذًا قَالَتْ، فَسَمِعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَسَأَلَنِي، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: (اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا، وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ)، فَفَعَلْتُ، قَالَتْ: ثُمَّ خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشِيَّةً، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ، فَمَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ، مَا بَالُ رِجَالٍ مِنْكُمْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ أَعْتِقْ فُلَانًا وَالْوَلَاءُ لِي، إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ).
ثانياً: إعلانُ القراراتِ الرسميةِ في الدولة: فمن على المنبر كانتِ القراراتُ الجديدةُ في الدولة تُعلَنُ، والعامةُ عبرَهُ تُخبَرُ بها، ومنه قولُ عمرَ رضي الله عنه على المنبر: "مَنْ أحيا أرضاً ميتةً فهي لَهُ وليس لمحتجرٍ حقٌّ بعد ثلاث سنين".
ثالثاً: عرضُ القضايا المهمةِ للنقاشِ والبحثِ والمشورةِ: حيث كان إمامُ المسلمينَ يرتقي المنبرَ بعد أَنْ يجمعَ الناسَ إلى مجلسِ العامة ، ليُلقيَ خطبتَهُ التي يقدِّمُ فيها قضيةً عامةً سياسيةً أو اجتماعيةً أو فكريةً أو دينيةً، تحتاجُ إلى نقاشٍ وبحثٍ أو تعاونٍ لحلِّها، فيَستعرِضُ فيها الآراءَ والأقوالَ، ليصلَ إلى نتيجةٍ ما مِنْ تواردِ الأفكارِ، كان هذا دأبَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وخلفائه الكرام.
ومِن ذلك استعذارُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن الناسِ في حادثة الإفكِ في ابنِ أُبيّ، فقد روى الشيخان عن عائشة في حديث الإفك الطويل ومنه قولُها: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَعْذَرَ يَوْمَئِذٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ: (يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي)، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ، إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ، قَالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الخَزْرَجِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا، وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الحَمِيَّةُ، فَقَالَ لِسَعْدٍ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لاَ تَقْتُلُهُ، وَلاَ تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ المُنَافِقِينَ، فَتَثَاوَرَ الحَيَّانِ الأَوْسُ وَالخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى المِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا.
ومثلُهُ مناقشةُ عمرَ رضي الله عنه لقضيةِ توزيعِ أراضي البلادِ المفتوحةِ وإقطاعِها على أفرادِ الجيشِ، ومناقشتِهِ قيادةَ الخليفةِ لجيشِ المسلمين نحوَ العراقِ بعد واقعةِ الجسرِ ومصرعِ أبي عبيدٍ الثقفيِّ، إذْ هَمَّ الخليفةُ بذلك وانتهى رأيُ العامةِ بخروج عمرَ، ورأيُ الخاصةِ بندبِ رجلٍ مكانَهُ، فأخَذَ برأي الكبراء والخاصة رضي الله عنه.
رابعاً: تعليمُ المسلمينَ الدينَ: لقد اتخَذَ الرسولُ الكريمُ صلى الله عليه وسلم من المنبر وسيلةً أساسيةً في تعليم الأمةِ أمور دينها، سواءٌ عبرَ الخطبِ الإرشاديةِ والوعظيةِ التي تأخُذُ تارةً شكلاً دورياً وتارةً أخرى شكلاً طارئاً، أو عبرَ التطبيقِ العمليِّ التعليميِّ لأحكام الدين ومبادئه.
فكان المسلمون يَعرفون أمرَ اللهِ ورسولِهِ، ونهيَ اللهِ ورسولِهِ، وأحكامَ اللهِ وشرعَهُ وقانونَهُ في كثيرٍ من الأحيان من خلالِ سماعهم إياها من النبي صلى الله عليه وسلم من على المنبر.
ويظهر استخدام المنبر كأداة ووسيلة من وسائل التعليم العملي التطبيقي في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فعن سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ قال: "قَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ عُمِلَ وَوُضِعَ -يعني المنبر- فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، كَبَّرَ وَقَامَ النَّاسُ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَرَكَعَ النَّاسُ، خَلْفَهُ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ رَجَعَ القَهْقَرَى، فَسَجَدَ عَلَى الأَرْضِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى المِنْبَرِ، ثُمَّ رَكَعَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ القَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ بِالأَرْضِ".
وبالعودة إلى حديث الإفك الذي ذكرنا فإنّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم استخدم المنبرَ لإعلام الناس بتبرئة الله عز وجل لأم المؤمنين عائشةَ وبتشريع حدِّ القذفِ، قالت عائشةُ رضي الله عنها: "فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس مسروراً فصعِدَ على المنبر فحمِدَ اللهَ وأثنى عليه بما هو أهلُهُ، ثم تلا عليهم بما نَزَلَ عليه في براءة عائشةَ".
وبقي المنبرُ وسيلةَ تعليمٍ وتفهيمٍ وإلهامٍ فيما تلا ذلك من أعصُرٍ، يقوم راقي درجاتِهِ بتفقيه المسلمينَ وتعليمهم حقائقَ دينِهم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مع ما تشتملُ خطبتُهُ على دعوةٍ للعناية بسلامة الأخلاق والآداب.
خامساً: تبليغُ الرعيةِ أخبارَ الحربِ والسِّلمِ: لطالما كان المنبرُ صاحبَ الدورِ الأكبرِ في إِحياء روحِ الجهادِ في نفوسِ أبناءِ الأمةِ، وإِشعالِ جذوةِ الحماسِ في قلوبهم لحماية الإِسلام ومقدساتِهِ وحُرُماتِهِ وأوطانِهِ، وإلهابِ المشاعرِ لنشر أو الدفاع عن عقيدة الإسلام، ووسيلةَ الإعلامِ الأقوى الداعيةَ للعمل على إزالة الطواغيت المعوِّقين لسير دعوة الحق، وذلك ابتداءً من عصر النبوة، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ رضي الله عنه بعد أن ذَكَرَ توليةَ الرسولِ لأمراء مؤتةَ قال: فأتى خبرُهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخرج فرقي المنبرَ، فحمِدَ اللهَ وأثنى عليه ثم قال: (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ لَقَوُا الْعَدُوَّ فَأَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ أَوِ اسْتُشْهِدَ، ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ جَعْفَرٌ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ أَوِ اسْتُشْهِدَ، ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ أَوِ اسْتُشْهِدَ، ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَفَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ).
إلى غير ذلك من وظائفَ يستحيلُ حصرُها ويدومُ تجدُّدُها بتجدُّدِ الزمنِ وتطوُّرِهِ، والحمد لله.
http://shamkhotaba.org