هو عِزُّكُم وسِرُّ مجدِكُمْ
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الخميس 3 يناير 2019 م
عدد الزيارات : 2264
1- ومنهم أمِّيُّونَ!
إنّ المتأمِّلَ في واقع كثيرٍ من المسلمين اليومَ ليوقِنُ أنه واقعٌ مؤرِّقٌ، إذ صلتُهُم بكتاب ربِّهم يكتنفُها هجرٌ وعقوقٌ، ولا يُبعِدُ النُّجعةَ لو قلنا: إنّ عللَ الأممِ السابقة قد تَسَلَّلَتْ إلى أمة الإسلام لِواذاً من حيث نشعُرُ أو لا نشعُرُ! واقرؤوا قول الباري جل شأنه: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78].
أي لا يعلَمون الكتابَ إلا تلاوةً وترتيلاً، بحيث لا يجاوزُ حناجرَهم وتَراقيَهم، وذلك بسبب غياب القلب، والعجزِ عن تدبُّرِ القرآنِ.
ألا واعلموا أنه ما حالَ بين تدبُّرِ القلوبِ للقرآن إلا ما امتلأتْ به من الشهوات والأمراض وحبِّ الدنيا، فإنّ كتابَ اللهِ لا يفتح كنوزَ هداياتِهِ إلا لقلبٍ سليمٍ، وعلى قدر سلامةِ القلب يكون الحظُّ من فهمه وتدبُّرِهِ، فهو نورٌ لا يجتمع إلا مع قلب منيرٍ كذلك، وهو كلامٌ طيبٌ لا يناسب إلا قلباً طيباً.
لذا كان أولَ مُعينٍ على تدبُّرِ كتاب الله والتعرُّفِ على أسراره ومراميه هو: قطعُ القلبِ عن الأدناس.
إنّ ذلك الإعراضَ عن التدبُّرِ والفهمِ لكتاب ربِّنا سببٌ -ولاشكّ- لذهاب العلم واندراسه، ولفَقْدِنا الماءَ في البيداءِ وهو على ظهورنا محمولُ!
فعلى الرغمِ من التقدمِ الملحوظ في فنون الطباعة ووسائل النشر وتقنيات التسجيل والإخراج الصوتي والمرئي فإنّا نرى الهمم متقاصرةً عن الاحتفاء بكتاب ربّنا!
روى الإمام أحمد عن زياد بن لبيد الأنصاري رضي الله عنه قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فقال: (وذلك عند ذهابِ العلمِ)، قلنا: يا رسولَ اللهِ، كيف يذهبُ العلمُ ونحن قرأنا القرآنَ ونُقرِؤه أبناءَنا، وأبناؤنا يُقرِؤونه أبناءَهم!؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (ثكلتْكَ أمُّكَ يا ابنَ لبيدٍ، إنْ كنتُ لأراكَ مِنْ أفقهِ رجلٍ في المدينة، أو ليس هذه اليهودُ والنصارى بأيديهم التوراةُ والإنجيلُ لا ينتفعون مما فيها بشيء). أخرجه أحمد برقم 17019 والحاكم في المستدرك برقم 338، وقال الذهبي: إسناده صحيح
فتأملوا هذا الحديث وانظروا ما أشبَهَ حالَنا اليومَ بحالهم من قبلُ!
وكما أخبر صلى الله عليه وسلم فهذا قرآنُنا بأيدينا ولا ننتفع من بشيء، وإنما نُزيِّنُ به البيوتَ!
2- شيَّبتني هودٌ والواقعةُ
لقد عاش نبيكم صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين عاماً، أسْفَرَ بعدها صبحُ المشيبِ، أَلَمَّ الشيبُ بلُمَّتِهِ، وهو سِمةُ عِفَّتِهِ وتُقاهُ، فترى فيه هيبتَهُ ووقارَهُ، وتشاهِدُ منه حنكَتَهُ وعنوانَ تجربتِهِ، فيا تُرى ماالذي شيّبَهُ -بأبي هو أمي- أهَمُ عيشِهِ وسعيُهُ لأجله؟ -وكثيراً ما نرى الناس قد شيّبهم الصراعُ لأجل هذا- أم صُروفُ الدُّهورِ ونوائبُهُ شيّبتهُ؟
انظروا جوابه عن نفسه، إذْ يسأله الصدّيق أبو بكر رضي الله عنه فيقول: يا رسول الله، أراك قد شِبتَ، فماالذي شيّبَكَ؟ قال: (شيّبتني هودٌ والواقعةُ وعمَّ يتساءلونَ وإذا الشمسُ كُوِّرَتْ). أخرجه الترمذي في سننه: 3297
قال ابن القيم في مدارج السالكين: "الذي شيّبَ مِن هود صلى الله عليه وسلم هذه الآيةُ، يَقصِدُ قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا}".
فما الذي في سورةِ هودٍ والواقعةِ حتى شَيَّبَتْ رأسَهُ! أليس هي بين أيدينا ونقرؤها؟ أمْ أنَّ هوداً والواقعةَ التي نقرؤها اليوم غيرَ تلك التي كان يقرؤها صلى الله عليه وسلم!
إنه الفهمُ والتدبُّرُ، إنه الفهمُ عن الله والتعقُلُ للمعاني والمرامي التي أودعها في سورِ كتابِهِ.
إنّ هذا الحديثَ ليسْتَحِثُّنا لأْن نكشِفَ اللثامَ، ونذوِّبَ الرّانَ الذي غشيَ قلوبَنا حينما تمُرُّ بنا هذه السورُ والآياتُ دون أنْ تستوقِفَنا ملِيّاً لنعلَمَ بوضوحٍ وجلاءٍ كيف شيَّبَتْ مفارقَ رأسِهِ صلى الله عليه وسلم.
يقول عبد الرحمن بنُ أبي ليلى: "دخلتُ على امرأةٍ وأنا أقرأ سورة هود، فقالت: ياعبدَ الرحمن، هكذا تَقرأُ سورةَ هود!؟ والله إني فيها منذ ستةِ أشهرٍ وما فرغتُ من قراءتها".
نعم هكذا تكون قراءة التدبُّرِ..
ولا غَرْوَ أن تقولَ امرأةٌ مثل هذا، فقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قبلها: "لا تَهُذُّو هذا القرآنَ هذَّ الشعرِ، ولا تنثروه نثرَ الدَّقْلِ، وقِفوا عند عجائبه، وحرِّكوا به القلوب، ولا يكنْ همُّ أحدِكم آخرَ السورةِ".
3- وجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ
لقد نزَلَتْ سورةُ هود بجملتها بعد سورة يونس والإسراء، كما ذَكَرَ أهلُ التفسيرِ، وهذه الفترةُ تُعَدُّ من أحرج الفترات وأشدِّها كَمَداً على نبينا صلى الله عليه وسلم، لأنها مسبوقةٌ بأقسى حَدَثينِ وأمرّهِما عليه، فقد توفيت زوجُهُ خديجةُ رضي الله عنها، وقد كانت له نعمَ الوزيرِ والمُعينِ على الحقِّ، ويجد فيها الزوجةَ والصديقَ والأخَ والناصحَ المُشفِقَ، يشكو إليها وهي معه في المحنة قلباً مع قلبِهِ، بمالها تواسيه، وبكلامها تُسلّيه، فلما فَقَدَها فَقَدَ ذلك كلَّهُ، في فترةٍ أحوج ما يكونُ إلى مثلِ ذلك، ولله الحكمةُ البالغةُ؛ وتوفي عمُّهُ أبو طالب، وكان له عَضُداً ومَنَعَةً وناصراً على قومه، فتتابعَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم النوائبُ، وشَقَّ ذلك على نفسه الشريفة، فكان نزولُ سورةِ هودٍ في مثل هذه الفترةِ تسليةً وتثبيتاً له ولمن معه من المؤمنين، وتسريةً عنه وعنهم مما يساورُ قلوبَهم من الوحشة، في مجتمعٍ يكادُ يُجمِعُ على تكذيبهم، يقول الله في هذه السورة: {وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120].
فيرى رسول الله صلى الله عليه وسلم السورةَ برمَّتها تتحدثُ عن نوح وقومه، وهود وقومه، وصالح وقومه، وإبراهيم وقومه، ولوط وقومه، وشعيب وقومه، ثم موسى مع فرعون وملأه، يواجِهُ اللاحقُ منهم مع قومه مواقفَ مشابهةٍ لما واجهه الاسبقُ منهم، ويصدُقُ في الجميع قوله تعالى في سورة يوسف: {حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].
لقد افتتح الله سورة هود بقوله: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ۚ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود:1-2]
أي إنّ هذا الكتاب الذي أُحكمت آياته فُسِّرَ مضمونُهُ بأنه ينبغي ألا يُعبدَ إلا الله في الأرض، وأنّ هذه الدعوة ما كانت بِدْعاً من الدعوات، ولا هي وليدةُ نزولها على محمد صلى الله عليه وسلم، بل هي دعوة الرسل جميعاً.
ثم بعد هذه الآية يتابع القصص، فيكونُ مِن حواراتِ نوح وقومه أن قالوا له: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27].
وكذلك تقول قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم مثل ما قال قوم نوح لنوح: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12].
{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49].
وفي ثنايا سورة هود يعترضنا قَصَصٌ هو من الأهمية بمكان، يتبيَّنُ من خلاله أُخوّةُ الدينِ ورابطتُهُ الجامعةُ، إذ يقول الله في السورة نفسها عن موقف نوح من أتباعه: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [هود: 30-29]
وذلك كما سأل أمثالُهم نبيَّنا صلى الله عليه وسلم أن يطرُدَ الضعفاءَ مِن حوله، فأنزل الله فيهم قوله: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52].
لذا كان يجد صلى الله عليه وسلم في هذه السورة أحوالاً مشابهةً لحاله وأحوال المرسلين قبله، فكان في السورة حكايةً عن مأساته ومعاناته مع قومه، وتسليةً له في مصابه.
4- وبعد تمام السرد؟
إنّ القصصَ في السورة يتتابَعُ، والنهلُ من مَعينها لا ينقضي، إلا أنّه ثمّةَ أمرٌ يحسُنُ الوقوفُ عليه، وهو أنّ الرسلَ جميعاً قد دعوا أقوامهم إلى الله، فلما لم يستجيبوا تَنَوّعَ عليهم العذابُ، فمنهم من أُرسل عليه حاصبٌ، ومنهم من أَخَذَتْهُ الصيحةُ، ومنهم من خَسَفَ اللهُ به.
وبعد تمام السرد يقول الله لنبيه: {ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} [هود: 100].
ثم يقول: {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
ثم يتجه الخطابُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم مرةً أخرى بهذا الإنذار المتضمِّنِ التحذيرَ من الريبة أو الشك فيما يدعو إليه: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هؤلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ} [هود:109].
ألا فَحَرِّكوا هذه القلوبَ بالقرآن، والتمسوا لها فيه الشفاءَ والهدايةَ، لعله يحيي قلوباً ميتةً، ويليّنَ قلوباً قاسيةً؛ ولْيكنْ لكتاب الله حظٌّ مِن ليلكم ونهاركم، ليكن لكتاب الله حظٌّ من فهمكم وتدبُّرِكم، ليكن كتابُ اللهِ سائقَكم وحاديكم وهاديكم، ومن لم يتعظ بكلام الله لَعَمْري فبأيِّ شيءٍ يتعظْ!.

http://shamkhotaba.org