1- هي سكينة وطمأنينة
ما أحوجَ الإنسانَ في خضمِّ ما تفرزه الحضارة المادية من مشكلات نفسية وتوترات عصبية إلى ما ينفّس عن مشاعره ويخفف من لأوائه ومصائبه، ويبعث في نفسه الطمأنينة القلبية والراحة النفسية، بعيداً عن القلق والاكتئاب، وهيهات أن يجد الإنسان ذلك إلا في ظل الإسلام وعباداته العظيمة، التي تمثّل دواءً ناجعاً ومُستراحاً للنفوس المُجْهَدَةَ.
تمرّ بالأمة المناسباتُ والمواسمُ فتأخذ حظّها من التذكير والاهتمام، غير أنّ مناسبةً جليلةً، وموسماً عظيماً، ومنهلاً عذباً مباركاً يتكرر كلَّ يومٍ خمس مرات، وكثيرٌ من الناس في غفلة عن تحقيق آثاره!
يقول صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم لو أن نهراً غمراً بباب أحدكم، يغتسل منه كلّ يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيءٌ؟)، قالوا: لا يبقى من درنه شيءٌ، قال: (فذلك مَثَلُ الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا).
2- جسدٌ بلا روح وبدنٌ بلا قلب
إنه نتيجةً لارتماء كثيرٍ من الناس في أحضان الدنيا، وانشغال القلوب والهمم بها، والدوران في هذه الدوامة، تناسى بعض الناس مكانة هذه العبادة العظيمة، فلم يبالوا بها، بل ربما لم يكترثوا بإقامتها؛ وصدق فيهم قولُ الله تبارك وتعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59].
وصنفٌ آخر يؤديها ولكن مع الوقوع في الزلل والاستمرار في الخلل، يصلّون ولكن لاتُرى آثار الصلاة عليهم، ولا يتأدبون بآدابها، ولا يلتزمون بأركانها وواجباتها؛ صلاتُهُم صوريّةٌ عادية، لإخلالهم بمقاصدها ولُبِّها وروحها وخشوعها، يصلون جسداً بلا روح، وبدناً بلا قلب، وحركات بلا مشاعر، صلاتُهُم مَرتعٌ للوساوس والهواجس، يأتي الشيطانُ أحدَهم وهو في صلاته، فيجعلُ يصول ويجول في فكره، فيلتفت بقلبه وبصره إلى حيث يريد، فينفتل من صلاته ولم يعقل منها شيئاً؛ ثم لا تسأل عن الأحوال وسيّءِ الأفعال وقبيح الخصال بعد الصلاة: فحشٌ في القول، وإساءةٌ في الفعل، وأكلٌ للحرام، وتعسُّفٌ في الأخلاق والمعاملة، واجتراحٌ للسيئات، ولعل قائلاً يقول: ألم يقل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].
فما بال هؤلاء لا تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والبذاءة والسوء!؟
إن الصلاة التي يريدها الله تعالى من المؤمن هي التي تمثّل المعراج الروحي للمؤمن، حيث تعرج به روحه كلما قام مصلياً في فريضة أو نافلة، لتنقله إلى عالم الطهر والنقاء، لتسمو نفسه وتتهذب طباعه، وذلك مصدر السعادة والسرور له، ومبعث الطمأنينة والسكينة؛ وكان ذلك ديدن الأنبياء جميعاً عليهم السلام، وهكذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكان إذا حَزَبَه أمرٌ فزع إلى الصلاة، ويقول لمؤذنه: (أَرِحْنا بها يا بلال).
3- هكذا كانت صلاتهم
الصلاة غذاء القلوب، مناجاةٌ ودعاء، خضوعٌ وثناءٌ، توسلٌ ورجاءٌ، اعتصامٌ والتجاء، تواضعٌ لكبرياء الله، خضوعٌ لعظمته، وانطراحٌ بين يديه، وانكسارٌ وافتقارٌ إليه، تذّللٌ وعبودية، تقرّبٌ وخشوعٌ لجناب الربوبية والألوهية، إنها ملجأ المسلم وملاذ المؤمن، فيها يجد البلسم الشافي، والدواء الكافي.
هي أعظم وسيلة للصلاح والفلاح والنجاح، تُذكي في الضمائر قوةً روحيةً وإيماناً راسخاً ويقيناً عميقاً، ونوراً يبدد ظلمات لفتن، ويقاوم أعتى المغريات والمحن؛ وكم فيها من الأسرار والحِكَمِ والمقاصد ولاغايات التي لا يعقلها كثيرٌ ممن يؤديها، فما أعظمَ الأجرَ وأوفرَ الحظِّ لمن أدّاها صحيحةً سالمةً كاملةً، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات افترضهن الله عز وجل، من أحسن وضوءهن، وصلاهن لوقتهن، وأتمّ ركوعهن وخشوعهن كان على الله عهدٌ أن يغفر له).
إن للصلاة المقبولة شروطاً وأركاناً، وواجباتٍ وآداباً، لا بد من الوفاء بها، كما أن هناك مسائل مهمة وأخطاء شائعة في هذه الفريضة، يحتاج المصلون لمعرفتها، وقد ورد في الحديث: (إنّ اسوأ الناس سرقةً الذي يسرق من صلاته).
وذلك بعدم إتمام وقوفها وركوعها وسجودها وخشوعها؛ وكذلك في الحديث النبوي الشريف: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا عُشْرُ صَلَاتِهِ تُسْعُهَا ثُمْنُهَا سُبْعُهَا سُدْسُهَا خُمْسُهَا رُبْعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا).
لقد مدح الله المؤمنين وأثنى عليهم ووصفهم بالخشوع له في أجلّ عبادةٍ، ورتّب على ذلك الفوز العظيم، قال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1-2].
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "وأصلُ الخشوعِ لينُ القلب ورقّتُهُ وسكونُهُ وخضوعُهُ وانكسارُهُ وحُرقتُهُ، فإذا خشع القلب تبعه خشوعُ جميع الجوارح، لأنها تابعةٌ له".
وقد رأى بعض السلف رجلاً يعبث بيده في الصلاة، فقال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه".
وفي معنى الخشوع يقول علي رضي الله عنه: "هو الخشوع في القلب، وأن تُلينَ كَنَفَكَ للمرء المسلم، وأن لا تلتفت في صلاتك يميناً ولا شمالاً".
وعن الحسن رحمه الله: "كان الخشوعُ في قلوبهم، فغضّوا بذلك أبصارهم، وخفضوا الجناح".
وحُكي عن مسلم بن يسار أنه كان يصلي في مسجد البصرة، فسقط حائط المسجد ففزع أهل السوق لهزّته فما التفت! ولما هُنِّئ بسلامته عجب وقال: "ما شعرتُ به".
نعم، كانت قلوبهم تستشعر رهبةَ الموقف في الصلاة بين يدي الله، فتسكن وتخشع، فيسري منها إلى جميع الجوارح، ويغشى أرواحَهم جلالُ الله وعظمتُهُ، فتختفي من أذهانهم جميع الشواغل والصوارف.
لو استنطقنا حالنا اليومَ مع هذه الفريضة لنطقت وقالت: أجسادٌ تهوي إلى الأرض وقلوبٌ ساهيةٌ غافلةٌ، فهل باتُرى مِن عودةٍ صادقةٍ إلى ترسُّمِ خطى المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذه الشعيرة!؟
4- هنا أولُ اختبارٍ للثبات
ألا ما أحرى الأمةَ اليومَ وهي تتجرّع غَصَصَ الهزائم أن تتحرى الأسباب والدوافع وراء ذلك، وإنها واجدةٌ ذلك في التقصير في حقِ هذه الشعائر العظيمة، وأعظمها الصلاة، فالصلاة هي السبيلُ لصقل الأفراد، وتهذيب المجتمعات وصلاح الأحوال، والقضاء على أسباب الضعف والهزيمة وخُوارِ الروح المعنوية في الأمة.
نحـن الذين إذا ما دُعـوا لصلاتهم والحربُ تَسقي الأرضَ جاماً أحمرا
جعلوا الوجوهَ إلى الحجاز فكبّروا في مســمع الــروح الأميــن فَكَبَّـرا
واعلموا أنّ أمةَ لا يُحسِنُ أفرادها الوقوف بين يدي الله للصلاة لجديرةٌ ألا تُحسِنَ الوقوفَ في مواقف الخير والثبات والوحدة والنصر والقوة؛ وإن أصلحنا ما بيننا وبين الله أصلح ما بيننا وبين الناس؛ وإنّ أمةً لا يُعفِّرُ أبناؤها وجوهَهم في التراب ويمرّغون جباهَهم في الأرض تعظيماً لخالقهم، لحَرِيٌّ ألا تثبُتَ أمام التحديات.
http://shamkhotaba.org