طرقُ توظيفِ خطبةِ الجمعةِ في معالجةِ الاختلالاتِ الفكريّةِ
الكاتب : محمد نور حمدان
الجمعة 11 يناير 2019 م
عدد الزيارات : 1731
مقدمة:
إنّ الناظرَ إلى المجتمعات المسلمة اليوم يجد أنها تزخر بألوانٍ من المشكلات العقدية والاجتماعية والسلوكية والاقتصادية وتفشّي المنكراتِ والمعاصي وتركِ العبادات؛ والخطيبُ كالطبيب يعالج هذه المشكلات، بل حريٌّ به أن يتلمّسَ مشكلاتِ الناسِ ليساعد على حلّها، لذلك ينبغي عليه التركيزُ على الأمور التالية:
أولاً: يجب على الخطيب أن تكون معالجاته للمشكلات على المنبر منضبطةً بالضوابط الشرعية في إنكار المنكر، ومن ذلك الإخلاص لله عز وجل، ومراعاة المصالح والمفاسد، والعلم بأن ما يريد النهي عنه منكراً أو ما يريد الأمر به معروفاً، ومعالجة الأمر بالحكمة والموعظة الحسنة.
وهذا سيدنا موسى عندما أمره الله بالذهاب إلى فرعون أمرة بأن يقول له قولاً ليناً فقال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 - 44].
يقول القرطبي: في قوله تعالى: {فقولا له قولاً ليناً}، "دليل على جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن ذلك يكون باللين من القول لمن معه القوة، وضمنت له العصمة، ألا تراه قال: {فقولا له قولاً ليناًوقال: {لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} فكيف بنا فنحن أولى بذلك، وحينئذ يحصل الآمر أو الناهي على مرغوبة، ويظفر بمطلوبه، وهذا واضح". تفسير القرطبي 11/ 199 – الطبعة الثانية- دار الكتب المصرية – القاهرة – 1384هـ\1964 م
يقول ابن كثير: "هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين، كما قال يزيد الرقاشي عند قوله: {فقولا له قولاً ليناً}: يا من يتحبب إلى من يعاديه فكيف بمن يتولاه ويناديه؟". تفسير ابن كثير 5/ 294– الطبعة الأولى- دار الكتب العلمية – بيروت – 1419هـ
ثانياً: أن يوجه الناس إلى ما يستطيعون القيام به فلا يخاطب العوام بما يخرج عن قدرتهم أو بمنكر ليسوا هم القائمون عليه أو القائمون به، فمن تكلم عن منكر من المنكرات ولم يذكر ما يمكن للناس عمله تجاه ذلك المنكر أجج مشاعر الناس فيقفون موقف المحتار الذي لا يدري ما يعمل، وقد يصير بعض الناس إلى أعمال غير شرعية في تغيير ذلك المنكر.
ثالثاً: ألا يركّزَ الخطيبُ على الجانب السلبي فقط وهو جانب الإنكار، بل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإن مشكلات الناس إما ترك المعروف أو فعل لمنكر.
رابعاً: ألا يركّزَ الخطيبُ على لونٍ من ألوان المشكلاتِ، فإنّ في المجتمع مشكلاتٍ كثيرةٍ تحتاج إلى علاج، وبعضُها إذا عولج تبِعَ معالجتَهُ مشكلاتٌ كثيرةٌ.
إنّ صلاةَ الجمعةِ يشهدها جماعاتٌ من الناس من مختلف المشارب، فمنهم البَرُّ والفاجرُ والصالح والفاسق، وضعيف النفس والجاهل، فعلى خطيب الجمعة عند الحديث عن المنكرات والمعاصي ألا يوغل في وصف تلك المنكرات وبيان أماكنها وطريقة أهل الشر فيها، فإنّ ذلك الوصفَ مدعاةٌ إلى عكس ما أراده الخطيب، وفي التحذير من المنكر والنهي عنه وبيان أضراره وآثاره غنية عن وصفه.
وإنّ الكلامَ على حدثٍ من الأحداث أو منكرٍ من المنكرات العامة قد يعالَجُ بطريق يسبِّبُ ضرراً أكبر، كأنْ يتحدث الإنسان عن ذلك المنكر والقائمين عليه ويصف أحوالهم وأعمالهم، بينما يمكن أن يعالج الموضوع بطريقة حكيمة كأن يتحدث الخطيب عن موضوع مناسب لما وقع أو مشابه له يفهم الناس عن طريقة الموقف الشرعي الرشيد في القضية. خطب الجمعة ومسؤوليات الخطباء ص: 19- وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد –السعودية – 1425 هـ - موضوعات خطبة الجمعة: 103 - الطبعة الأولى - وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد –السعودية – 1419 هـ
عن عمرو بن تغلب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال -أو سبي- فقسمه، فأعطى رجالاً وترك رجالاً، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله، ثم أثنى عليه، ثم قال: (أما بعد فو الله إني لأعطي الرجل، وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكن أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، فيهم عمرو بن تغلب)، فو الله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم. صحيح البخاري: الرقم :923 – باب: من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد - 2/ 10 – الطبعة الأولى – دار طوق النجاة – 1422 هـ
نلاحظ في هذه الخطبة أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل لفظ: (ما بال أقوام) وهي صيغة التعريض عن أشخاص ولم يصرح بأسمائهم أو يشهر بهم في الخطبة لذلك على الخطيب إن أراد أن ينهى أقواماً عن فعل المنكر لا يشهر بهم لأنه قد يكون في ذلك مفسدة أكبر من دفع المنكر والنبي صلى الله عليه وسلم كان هذا نهجه بشكل دائم. 
القيمُ التي ينبغي التركيزُ عليها في خطبة الجمعةِ لمعالجة الاختلالات الفكرية في المجتمع:
وتحقيقاً للتوصيف الرباني للمجتمع المسلم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
ولقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
ولحديث المصطفى، صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أحدكم أن يكون سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى). صحيح البخاري الرقم:2076 باب السماحة والسهولة في الشراء – 3\57 – الطبعة الأولى – دار طوق النجاة – 1422 هـ
حيث إن الأمر لا يعدو كونه سلاح ردع وقوة للتوازن السياسي والعسكري، وليس شيئاً غير ذلك أو فوقه أو دونه!.
وينبغي أن يعلم جميع الوعاظ والخطباء أن اللجوء إلى النقد بطرق السب والشتيمة والنقد الشخصي، ليس من الإسلام في شيء، فليس المؤمن ـكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلمـ بطعان ولا لعان ولا فاحش ولا بذيء. 
ومما يؤكد ذلك أن أسر بعض المتهمين تحتاج منا كل رعاية، كما تحتاج منا إلى رد اعتبار، على اعتبار أنها جزء من المجتمع المسلم، الذي هو في أمس الحاجة إلى جهود كل أبنائه، كما هو في أشد الحاجة إلى رص الصفوف وتهدئة الخواطر، والقضاء على الأزمات والمشاحنات النفسية والاجتماعية والأخلاقية.
واستجابة لتوجيه المصطفي عليه السلام في حجة الوداع، حين قال: (فإن الله ـ تبارك وتعالى ـ قد حرَّم دماءكم وأموالكم وأعراضكم إلا بحقها كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ألا هل بلغت) «ثلاثاً» كل ذلك يجيبونه: ألا نعم، قال: (ويحكم أو ـ ويلكم ـ لا ترجعُنَّ بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض).
وقال تبارك تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
وهنا لا بد أن نؤكد أنّ الاختلافَ بابٌ من أبواب البغي والطغيان وتجاوز الحد: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19].
عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس عام الفتح، على درجة الكعبة، فكان فيما قال: بعد أن أثنى على الله، أن قال: (يا أيها الناس، كل حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة، ولا حلف في الإسلام، ولا هجرة بعد الفتح، يد المسلمين واحدة على من سواهم، تتكافأ دماؤهم، ولا يقتل مؤمن بكافر، ودية الكافر كنصف دية المسلم، ألا ولا شغار في الإسلام، ولا جنب ولا جلب، وتؤخذ صدقاتهم في ديارهم، يجير على المسلمين أدناهم، ويرد على المسلمين أقصاهم)، ثم نزل. مسند أحمد: الرقم: 7012 - 11/ 587 – الطبعة الأولى – مؤسسة الرسالة – بيروت – 1421 ه \2001 م
نلاحظ في هذه الخطبة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم في عام الفتح ركّزَ على أمور وعادات كانت سائدةً في الجاهلية، أَبطَلَ بعضَها مثل نكاحِ الشغار، وبيعِ الجلب، وأكّدَ على بعض الأمور مثل: الأحلاف والوفاء بالعهد وذمة المسلمين واحدة. 
 

http://shamkhotaba.org