المنبرُ ودورُهُ في البلاغ: دراسةٌ تحليليةٌ لخطبة المصطفى صلى الله عليه وسلم على الصفا (1)
الكاتب : محمد أمين النجار
الاثنين 14 يناير 2019 م
عدد الزيارات : 1212
الباحث: محمد أمين النجار من ريف حمص الشمالي، استشهد عام 2015 على يد تنظيم داعش، وهذا المقال جزء من بحث له حائز على المركز الثالث في المسابقة السنوية لدراسات المنبر التي أقامتها رابطة خطباء الشام عام 2014
الدعوةُ والتبليغُ أهمُّ وظائفِ المنبرِ:
المنبرُ هو المكان المعَدُّ للخطبة، ولعل هدفَ الإسلامِ من إضفاء الصفةِ الشعائريةِ على المنبر كان لإتمام تربيةِ الفرد وإكمالِ بناءِ المجتمعِ السليمِ، إذْ ما يتلقّاهُ المسلمُ مِن خُطَبٍ ومواعظَ لا يقِفُ عند حدِّ التزكيةِ للنفس، بل يتعدّاه ليكونَ موجِّهاً لها لكي تتفاعلَ وتتمازجَ مع غيرها، لتُنَظِّمَ العلاقةَ الاجتماعيةَ كرابطةٍ وثيقةٍ في المجتمع المسلم. 
ولطالما كان المنبرُ الإسلاميُّ شعاعَ تعليمٍ وتربيةٍ وتشريعٍ، بل وسيلةَ دعوةٍ وتبليغٍ، كما كان عبرَ عهودِ الإسلامِ الطويلةِ وسيلةَ التبليغِ الأرقى للرسالة، إذْ لم يقتصرْ دورُهُ على تنظيم شعوبٍ كثيرةٍ تختلفُ فيما بينها في الأصول والعقائد والفكر والثقافة، بل كان مصدرَ إلهامٍ ليَجمَعَ هذه الشعوبَ في بَوتقةٍ فكريةٍ وعقائديةٍ وثقافيةٍ واحدةٍ.
ولربما كانتِ الخطبُ هي التصرُّفَ التعريفيَّ الأولَ الذي يقومُ به المسلمون عندما كانوا يدخلوا أرضاً جديدةً أو يتعرّفون على أمةٍ أخرى، سواءٌ سبَقَ ذلك الفتحَ أم تلاه، بل لربما كان المنبرُ وسيلةَ الدعوةِ بمثالها السلميِّ، حيث كان المسلمون يقدِّمون الخطباءَ في الجيوش إمعاناً منهم في حقنِ الدماءِ ونشرِ الدينِ، فكانوا لهم مُعيناً إعلامياً أميناً ونافعاً وفعالاً في أداء الأمانة والرسالة.
ذلك أنّ تأثيرَ أربابِ الفصاحةِ على سامعيهم سنةٌ قديمةٌ ووسيلةٌ تاريخيةٌ، وإلا على أيِّ شيءٍ كان دعاءُ موسى ربَّهُ بأنْ يجعلَ معه هارونَ، أليس لامتلاكه فصاحةَ اللسانِ وقدرةَ البيانِ، قال تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص: 34].
وهذا التبليغُ كان يصلُ إلى المسلمين وغيرهم، فلطالما كانتِ الخطبةُ وسيلةَ تعريفٍ عامةً للمسلمين بدينهم وبأخطائهم، فقد خَطَبَ داودُ بنُ علي بالمدينة فقال: "أيها الناس، حتّامَ يهتِفُ بكم صريخُكم؟ أما آن لراقدكم أنْ يِهَّب مِن نومه؟، كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ! أَغرَّكُمُ الإمهالُ حتى حسبتموه الإهمالَ؟ هيهاتَ منكم، وكيف بكم والسوطُ في كفي والسيفُ مشهر". العقد الفريد ص: (4/188) لأبي عمر شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (ت: 328هـ) نشر: دار الكتب العلمية/ لبنان - بيروت/الطبعة: الأولى/ سنة: (1404) هـ
فالخطبةُ أوضحُ في البيان، والكلمةُ أقربُ إلى قلوب الناس، وأدعى للتصديق فكأنها وسيلةُ الإعلام الهادفِ وطريقُ نشرِ عقيدةِ التوحيدِ الصافية، وصوتُ الدعوةِ لالتزام العباد بالأوامر والنواهي، والهدفُ مِن كلِّ هذا دينُ اللهِ في المعمورة.
ولو رحتُ أعَدِّدُ في خطبِ الرسلِ للملوك والشعوب يعرِّفونهم بالإسلام لما كان إلى حصرِ ذلك مِن سبيلٍ، ولا لعدِّهِ مِن وسيلةٍ، ولكنْ أكتفي بذكر رسلِ المسلمين لرستم قائدِ الفرس. 
فلتنظرْ إلى ربعي بن عامر رضي الله عنه رسول سعد إلى رستم، قال ابن كثير: بَعَثَ إِلَيْهِ -إلى رستم- سَعْدٌ رَسُولًا آخَرَ بِطَلَبِهِ، وَهُوَ رِبْعِيُّ بْنُ عَامِرٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقَدْ زَيَّنُوا مَجْلِسَهُ بِالنَّمَارِقِ الْمُذَهَّبَةِ وَالزَّرَابِيِّ الْحَرِيرِ، وَأَظْهَرَ الْيَوَاقِيتَ وَاللَّآلِئَ الثَّمِينَةَ، وَالزِّينَةَ الْعَظِيمَةَ، وَعَلَيْهِ تَاجُهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْتِعَةِ الثَّمِينَةِ، وَقَدْ جَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَدَخَلَ رِبْعِيٌّ بِثِيَابٍ صَفِيقَةٍ وَسَيْفٍ وَتُرْسٍ وَفَرَسٍ قَصِيرَةٍ، وَلَمْ يَزَلْ رَاكِبَهَا حَتَّى دَاسَ بِهَا عَلَى طَرَفِ الْبُسَاطِ، ثُمَّ نَزَلَ وَرَبَطَهَا بِبَعْضِ تِلْكَ الْوَسَائِدِ، وَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ سِلَاحُهُ وَدِرْعُهُ وَبَيْضَةٌ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالُوا لَهُ: ضَعْ سِلَاحَكَ، فَقَالَ: "إِنِّي لَمْ آتِكُمْ، وَإِنَّمَا جِئْتُكُمْ حِينَ دَعَوْتُمُونِي، فَإِنْ تَرَكْتُمُونِي هَكَذَا وَإِلَّا رَجَعْتُ"، فَقَالَ رُسْتُمُ: ائْذَنُوا لَهُ، فَأَقْبَلَ يَتَوَكَّأُ عَلَى رُمْحِهِ فَوْقَ النَّمَارِقِ فَخَرَّقَ عَامَّتَهَا، فَقَالُوا لَهُ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ فَقَالَ: "اللَّهُ ابْتَعَثْنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سِعَتِهَا، وَمِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الْإِسْلَامِ، فَأَرْسَلَنَا بِدِينِهِ إِلَى خَلْقِهِ لِنَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ، فَمَنْ قَبِلَ ذَلِكَ قَبِلْنَا مِنْهُ وَرَجَعْنَا عَنْهُ، وَمَنْ أَبَى قَاتَلْنَاهُ أَبَدًا حَتَّى نُفْضِيَ إِلَى مَوْعُودِ اللَّهِ"، قَالُوا: وَمَا مَوْعُودُ اللَّهِ؟ قَالَ: "الْجَنَّةُ لِمَنْ مَاتَ عَلَى قِتَالِ مَنْ أَبَى، وَالظَّفَرُ لِمَنْ بَقِيَ"، فَقَالَ رُسْتُمُ: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكُمْ، فَهَلْ لَكَمَ أَنْ تُؤَخِّرُوا هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى نَنْظُرَ فِيهِ وَتَنْظُرُوا؟ قَالَ: "نَعَمْ، كَمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ؟ أَيَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ؟"، قَالَ: لَا، بَلْ حَتَّى نُكَاتِبَ أَهْلَ رَأْيِنَا وَرُؤَسَاءَ قَوْمِنَا، فَقَالَ: "مَا سَنَّ لَنَا رَسُولُ أَنْ نُؤَخِّرَ الْأَعْدَاءَ عِنْدَ اللِّقَاءِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ، فَانْظُرْ فِي أَمْرِكَ وَأَمْرِهِمْ، وَاخْتَرْ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ بَعْدَ الْأَجَلِ"، فَقَالَ: أَسَيِّدُهُمُ أَنْتَ؟ قَالَ: "لَا، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمُونَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ يُجِيرُ أَدْنَاهُمْ عَلَى أَعْلَاهُمْ"، فَاجْتَمَعَ رُسْتُمُ بِرُؤَسَاءِ قَوْمِهِ، فَقَالَ: هَلْ رَأَيْتُمْ قَطُّ أَعَزَّ وَأَرْجَحَ مِنْ كَلَامِ هَذَا الرَّجُلِ؟ فَقَالُوا: مَعَاذَ اللَّهِ أَنَّ تَمِيلَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَتَدَعَ دِينَكَ لِهَذَا الْكَلْبِ! أَمَا تَرَى إِلَى ثِيَابِهِ؟! فَقَالَ: وَيْلَكُمْ لَا تَنْظُرُوا إِلَى الثِّيَابِ، وَانْظُرُوا إِلَى الرَّأْيِ وَالْكَلَامِ وَالسِّيرَةِ، إِنَّ الْعَرَبَ يَسْتَخِفُّونَ بِالثِّيَابِ وَالْمَأْكَلِ، وَيَصُونُونَ الْأَحْسَابَ، وكذلك أرسل سعد إليهم حذيفة بن محصن ثم المغيرة بن شعبة فخطبا يبينان لهم الإسلام. البداية والنهاية ص: (7/46) لأبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي (ت: 774هـ) نشر: دار الفكر/ سوريا - دمشق/ سنة: (1407) هـ (1986) م  
ولعلَّ منتهى البلاغ المنبريِّ عن الإسلام كان بتلك الخطبة التي خَلَّدَ التاريخُ كلماتها، الخطبةُ التي تَنَشَّقَ الإسلامُ بها نفَسَ الحياةِ الجَهرية، وذلك على لسان النبي والتي كانت إيذاناً بإغلاق باب مرحلةٍ مِن عمُرِ الدعوةِ وفَتْحِ مرحلةٍ خالدةٍ أبَدَ الدهرِ وهي:
خطبة النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا.
نص الخطبة:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، صَعِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي: (يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ) -لِبُطُونِ قُرَيْشٍ- حَتَّى اجْتَمَعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ، فَقَالَ: (أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟) قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا، قَالَ: (فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ اليَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 2].
وفي رواية عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّفَا ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: (يَا صَبَاحَاهْ) صباحاه: كلمة يقولها المنهوب والمستغيث، وأصله: من يؤم الصباح، وهو يوم الغارة، انظر: إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ص: (7/310) لأحمد بن محمد بن أبى بكر بن عبد الملك القسطلاني (ت: 923هـ) الناشر: المطبعة الكبرى الأميرية/ مصر/ الطبعة: السابعة/ سنة: (1323) ه، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، قَالُوا: مَا لَكَ؟ قَالَ: (أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ العَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ أَوْ يُمَسِّيكُمْ، أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟) قَالُوا: بَلَى، قَالَ: (فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}.
وفي رواية: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُرَيْشًا، فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ، فَقَالَ: (يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بنِ كَعْبٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ، أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا). رواه البخاري في تفسير سورة الشعراء، باب {وأنذر عشيرتك الأقربين} رقم: (4492)، وفي الأنبياء، باب من انتسب إلى آبائه في الإسلام والجاهلية رقم: (3335)، وفي التفسير أيضاً باب قوله: {إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} رقم: (4523)، كما رواه مسلم في الإيمان، باب قوله تعالى {وأنذر عشيرتك الأقربين} رقم: (208)، والترمذي في التفسير، باب ومن سورة تبت رقم: (3360)، والنسائي في السنن الكبرى كتاب التفسير باب قوله تعالى: {إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} رقم: (11362)
يقول سعيد بن علي ثابت: "نجزمُ واثقين أننا إذا فهمنا الفقهَ الإعلاميَّ في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم فإننا سوف نخلُصُ إلى حقائقَ لا أقول أنّ الإسلامَ قد سبَقَ إليها أساتذةَ الإعلامِ والاتصال بالجماهير في الواقع المعاش، وإنما هي حقائقُ تتضاءلُ إلى جانبها اكتشافاتُ خبراءِ الإعلامِ وفلاسفته المحدَثين، كيف لا وهي تستندُ إلى فعلِ النبي صلى الله عليه وسلم وتسيرُ في ظلِّ الآيات والسنن". الجوانب الإعلامية في خطب الرسول صلى الله عليه وسلم ص: (12) سعيد بن علي ثابت/ نشر: وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد/ الرياض - السعودية/ الطبعة: الأولى/ سنة: (1417) هـ (1997) م
لقد كانتْ هذه الخطبةُ صيحةً مدويةً في عالم الشهادة، تحمِلُ أعلى صورِ البلاغِ، ومنتهى لهفةِ الإنذارِ، إذِ انطلَقَ الرسولُ الكريمُ صلى الله عليه وسلم لتقويض نظمِ القِبليّةِ والتعصُّبِ الجاهليِّ والركونِ إلى قوة الحَسَبِ ورِفعةِ النَّسَبِ في الاستدلال على الخيرية، بل أَوضَحَ صلى الله عليه وسلم لأقرب الناس أنّ رسالتَهُ والإيمانَ بها هما الصلةُ بينه وبين العالمين، والمقياسُ الجديدُ الذي يستنِدُ إليه النظامُ الاجتماعيُّ والدينيُّ، لتكونَ هذه الخطبةُ بحقِّ نذيرَ ثورةٍ على النظام الجاهلي، إيذاناً بولادة النظام الجديد، النظامِ الإلهيِّ الذي تذوبُ في طياته عصبيةُ القرابةِ التي يقومُ عليها العرب، وهذا ما نلمَسُهُ مِن حرارةِ الإنذارِ الذي حَمَلَتْهُ خطبتُهُ صلى الله عليه وسلم، وبخاصة في قوله: (واصباحاه).
لقد جاءتْ خطبتُهُ على قصرها فائقةً في انتقاء الكلمات الملائمة للموقف، وهي في الوقت نفسِهِ مما يقبلها السامع، بل وتثيرُ عنده كوامنَ الاهتمامِ والاشرئبابِ والتشوُّفِ للمعرفة، فكان في مناداته (واصباحاه) ودعوته لهم حياً حياً مُحفِّزاً على الاجتماع، وداعياً قوياً للحضور.
كما أنها كانت مدخلَ الاتصالِ المناسبِ، وكان الاستهلالُ بها غايةَ البداياتِ الجيدةِ، وروعةَ المدخلِ المثيرِ للانتباه والاهتمامِ والمحرِّكِ للوعي، والملفتِ للنظر في مجتمعٍ ديدنه الحروبُ التي كانت تنشبُ بين قبائله لأتفهِ الأسباب.
لذا كان حُسنُ الابتداءِ هذا مفتاحاً لعقول القوم، فجاءوا زرافاتٍ ووحداناً، حتى إنّ الرجلَ إذا لم يستطعْ أنْ يخرج أرسل رسولاً، حتى امتلأتْ ساحةُ الصفا. الجوانب الإعلامية في خطب الرسول صلى الله عليه وسلم ص: (18) سعيد بن علي ثابت/ نشر: وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد/ الرياض - السعودية/ الطبعة: الأولى/ سنة: (1417) هـ (1997) م
وهذا على ما فيه مِن سلاسةٍ، فيه شيءٌ من الحرارة وقوةِ الأسلوبِ، كما يعتريه شيءٌ من الإيجاز الذي يفي بغرض الخطاب.. لذلك وَجَدَتِ الخطبةُ طريقَها إلى القلوب مباشرةً، وما كان الردُّ القاسي مِن أبي لهب إلا دليلاً على ذلك، إذْ إنّ السماحَ للجمهور بالاشتراك في الاتصال إثباتٌ على قدرة الكلمات على الإقناع، سواءٌ وُجِدَ الاقتناعُ أم لم يوجد.
ولا أدلَّ على أثر هذا مما روي أن أَبُا لَهب قال للنَّبِي صلى الله عليه وسلم: مَاذَا أُعطى يَا مُحَمَّد إِن آمَنت بك؟ قَالَ: (كَمَا يُعطى الْمُسلمُونَ)، قَالَ: فَمَا لي فضل عَلَيْهِم؟ تَبًّا لهَذَا من دين أكون أَنا وَهَؤُلَاء سَوَاء. تاريخ الرسل والملوك، للطبري ص: (24/685) لمحمد بن جرير بن يزيد بن كثير أبو جعفر الطبري (ت: 310هـ) نشر: دار التراث/ لبنان - بيروت/ الطبعة: الثانية/ سنة: (1387) هـ
لقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم أساليبَ التمثيلِ المشهورةَ عن العرب، ليصِلَ بالقضية المطروحة إلى درجة الإلزام وقمةِ الإفحامِ، كما استخدَمَ أسلوباً خطابياً يكادُ النقادُ يُجمِعون على فاعليته، وهو إثارةُ الفضولِ عند الجمهور، عبرَ استعمالِ صورةِ التمثيلِ بإنذاره القومَ عذابَ اللهِ النازلَ بنذير قومٍ يتقدَّمُ جيشَ العدوِّ فيُنذرَهم، وهم لتصديقهم له بالأولى لا يسعهم إلا تصديقه بالثانية، فاستفاد مِن هذا الأسلوب لتقريرهم بأنهم يعلمون صدقَهُ إذا أَخبَرَ عن شيء آخر. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ص: (7/ 280) لأحمد بن محمد بن أبى بكر بن عبد الملك القسطلاني (ت: 923هـ) الناشر: المطبعة الكبرى الأميرية/ مصر/ الطبعة: السابعة/ سنة: (1323) هـ، شرح الطيبي على مشكاة المصابيح المسمى بـ (الكاشف عن حقائق السنن) ص: (3397) شرف الدين الحسين بن عبد الله الطيبي (ت: 743هـ) الناشر: مكتبة نزار مصطفى / السعودية -مكة المكرمة / الطبعة: الأولى/ سنة: (1417) هـ/ فن الخطابة ص: (120) ديل كارنجي/ نشر: المكتبة جرير/ سوريا/ الطبعة الخامسة/ سنة: (2005) م
فالمعروف عند الفاهمين صعوبةُ تتبُّعِ العبارات المجردة، وسهولةُ تتبُّعِ الأمثلةِ والصورِ، إذْ هي تستدرجُ الجمهورَ إلى واحاتِ التفكُّرِ والتفكير والتعاون مع الخطيب، وهذا ما فعله صلى الله عليه وسلم.
لقد كانت هذه الخطبةُ مثابةَ نقطةِ المواجهةِ الأولى بين الخير الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والشرِّ الذي يتبناه الخلقُ عامةً، لذلك كان ينبغي على الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم أن يبدأ هذه المواجهةَ بتعريف الناس بالخير الذي جاء به، وتحذيرهم من الشر الذي ينهى عنه ويُحيونه.
لقد بدأ بتعريفهم بالخير الذي جاء به، وبأنه من عند الله عز وجل، داعياً قومه في هذا الموقف العظيم إلى الإسلام، وناهياً إياهم عن عبادة الأوثان، ورغَّبهم في الجنة، وخوّفهم من النار، لتَظهَرَ صورُ المواجهةِ في اللحظة الأولى بين الحق والباطل، الباطل الذي أدرك أنّ هذه الخطبةَ ستزلزل عاداتِهِ وتُبطِلَ تقاليدَهُ وتُزيلَ موروثاتِهِ الجاهلية.
ثم جاء التعريفُ بالإسلام على شكل مكاشفةٍ واضحةٍ أمامَ المجتمعِ الجاهلي، حيث ساق لهم وبالعرض الموضوعي الحقيقةَ الكاملةَ، بعيداً عن التكلُّفِ في التزيين، متجنِّباً التعتيمَ أو التزويرَ، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أنْ يَفعلَ، كما لم تتضمَّنْ تلفيقَ الوقائعِ وتزييفَ الحقائقِ، لما في ذلك من امتهانٍ لحريةٍ الإنسانِ وكرامتِهِ، وتلاعبٍ بعقله. الجوانب الإعلامية في خطب الرسول صلى الله عليه وسلم ص: (17) سعيد بن علي ثابت/ نشر: وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد/ الرياض - السعودية/ الطبعة: الأولى/ سنة: (1417) هـ (1997) م
لقد كان اختيارُ الرسول صلى الله عليه وسلم للمكان المرتفع لإلقاء وطرحِ القضية التي يحمِلُها دوراً كبيراً يُنِمُّ عن أفقٍ واسعٍ وفهمٍ عميقٍ، حيث اختار جبلَ الصفا ليُشرِفَ على أكبرِ عددٍ من السامعين منه، في أسرعِ وقتٍ ممكنٍ، وليلتفَّ الناسُ حولَهُ، فيصِلَ صوتُهُ إلى كلِّ أذنٍ وتقَرَ كلماتُهُ في كلِّ قلبٍ، ولا يخفى ما لهذا من تنبيهٍ لحاستي السمع والبصر، وإشراكهما في توجيه الانتباه عند المتلقي، مما يُسهِّلُ الإفهامَ ويوسِّعُ التوضيحَ في الأذهان، ويَقطَعُ كلَّ طريقٍ يؤدي إلى الإعراض عن الموضوع بسبب التفوقِ في استخدام أسلوب الاتصال، ففي الشُرَفِ تُختَصَرُ المساحات.
كما أنه لم يُغفِلِ استخدامَ لغةِ القوم في خطابه، ولا أعني بهذا عربيةَ الألفاظِ والمعاني، بل الاستفادةَ الكاملةَ من الواقع، حيث كان الخطابُ دالاً على معرفةٍ وثيقةٍ به، وإحاطةٍ واسعةٍ بجميع نُظُمِهِ، وبما يؤثِّرُ على السامعين من محفزاتٍ وقيودٍ، وهذا مبنيٌّ عن كَثَبٍ ومؤسَّسٌ على تجاربَ ذاتيةٍ عديدةٍ، يقوم على الاستفادة من كلِّ مقوماتِ الواقع لخدمة الدعوة.
ولا يخفى ما لهذه المعرفة من تهيئة نفسية واجتماعية تساعد على حمل الرسالة وأداء الأمانة وإعداد المخاطبين لتقبُّلِ الخطابِ، وتتجلى هذه الاستفادةُ من محاكاته صلى الله عليه وسلم لنظامهم القبلي، فبدأ بمناداةِ بطونِهم بطناً بطناً، وقبيلةً قبيلةً، ليحفِّزَ أفئدتهم ويُلقي الاهتمامَ في قلوبهم، وينبِّهَ عقولَهم بمعاني الكلمات التي سيلقيها في مسامعهم، لتُشكِّلَ جملةُ الكلماتِ البديعةِ قواعدَ النظامِ الإسلاميِّ الذي سيقضي على النظام الجاهلي السائد، ومن هذه القواعد المستنبطة من الكلمات:
تقريرُ فكرةِ البعثِ والحسابِ بعد الموت: وهذا ظاهر في قوله صلى الله عليه وسلم: (أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِوقوله: (فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا)، فهدَمَ دعوى الجاهليةِ القائمةِ على العصبية القبلية، وأقرّ مبدأً جديداً للمجتمع الإسلامي الوليد، لقد خَرَقَ ما تعارَفَ عليه المجتمعُ من مفاهيمَ خاطئةٍ قائمةٍ على إنكار البعث والنشور وتكذيبٍ باليوم الآخر.
تقريرُ فكرةِ التقوى: كبديلٍ عن فكرة العصبية القبلية، لتكون هي الأساسَ في بناء القيم الأخلاقية التي تتعدى حدودَ القبيلةِ والعروبةِ، وتمتدَّ لتتسعَ للعرب والعجم.
فقرر بشريعته مبادئ المساواة بين الناس فيما بينهم وأمام الله عز وجل، فكان من أساسيات دعوة النبي صلى الله عليه وسلم التنفيرُ من العصبية والحضُّ على مبادئ المساواة، وبخاصة أنّ الخطبةَ خُتمَتْ بتوعُّدِ أبي لهبٍ عمِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنار تلظى، رغمَ قرابتِهِ من الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبالتأمُّلِ في هذه الخطبة نجِدُ أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد استخدم جملةً من الأساليب التبليغية لتوضيح رسالته، والتي يمكنُ أنْ يستفيدَ منها الخطيبُ لإثبات قضاياهُ التي يعمل على بثِّها.
وبالانطلاق من هذه الخطبة نجِدُ أنّ الأحداثَ الكبرى، وقواعدَ بناءِ المجتمعِ الواحدِ المحكومِ بالنظم التي سَنَّها الإسلامُ كانتْ منطلقةً من خلال استخدامِ الخطابةِ كوسيلةِ تبليغٍ وتصويرٍ لحقيقة الإسلام وتوضيحِ لرسالته.
وللحديث تتمة في المقال التالي..

http://shamkhotaba.org