المنبرُ ودورُهُ في البلاغ: دراسةٌ تحليليةٌ لخطبة المصطفى صلى الله عليه وسلم على الصفا (2)
الكاتب : محمد أمين النجار
الاثنين 21 يناير 2019 م
عدد الزيارات : 1699

الباحث: محمد أمين النجار من ريف حمص الشمالي، استشهد عام 2015 على يد تنظيم داعش، وهذا المقال جزء من بحث له حائز على المركز الثالث في المسابقة السنوية لدراسات المنبر التي أقامتها رابطة خطباء الشام عام 2014

مقدمة:
بالتأمل في خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم على الصفا نستطيعُ أنْ نستخلصَ منها جملةً من المقترحات التي تعينُ الخطيبَ على أداء الأمانةِ الملقاةِ على عاتقه، ومن هذا:
فهمُ الواقعِ: عبرَ إدراكِ طبيعةِ المجتمعِ المخاطَبِ، وهذا من أهمِّ مقوماتِ الخطبة الناجحة، لأنّ طرحَ قضيةٍ ما في وسطٍ غيرِ معروفٍ للخطيب، أو مجهولِ العاداتِ قد يُعرِّضُ صاحبَهُ للإحراج، وبالتالي فَشَلاً وخيبةً في الوصول إلى درجة الإقناع المطلوبة.
فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يَا أَبَا ذَرٍّ، كَيْفَ أَنْتَ إِذَا كُنْتَ فِي حُثَالَةٍ؟)، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: (اصْبِرْ، اصْبِرْ، اصْبِرْ، خَالِقُوا النَّاسَ بِأَخْلَاقِهِمْ، وَخَالِفُوهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ). رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين في كتاب معرفة الصحابة محنة أبي ذر رضي الله عنه رقم: (5464)، وقال الهيثمي: "وَفِيهِ يَزِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ الرَّحْبِيُّ وَهُوَ مَتْرُوكٌ"
وهذا عمرُ الفاروقُ رضي الله عنه يجعلُ مِن أسلوبِ خطابِهِ همّ العامةِ ومشكلاتِ الرعيةِ الحاضرةِ أو التي يتوقَّعُ منها الحضورَ، فعن مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَذَكَرَ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: (إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ دِيكًا نَقَرَنِي ثَلَاثَ نَقَرَاتٍ، وَإِنِّي لَا أُرَاهُ إِلَّا حُضُورَ أَجَلِي، وَإِنَّ أَقْوَامًا يَأْمُرُونَنِي أَنَّ أَسْتَخْلِفَ، وَإِنَّ اللهَ لَمْ يَكُنْ لِيُضَيِّعَ دِينَهُ وَلَا خِلَافَتَهُ، وَلَا الَّذِي بَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ عَجِلَ بِي أَمْرٌ فَالْخِلَافَةُ شُورَى بَيْنَ هَؤُلَاءِ السِّتَّةِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، وَإِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أَقْوَامًا يَطْعَنُونَ فِي هَذَا الْأَمْرِ، أَنَا ضَرَبْتُهُمْ بِيَدِي هَذِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَأُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللهِ الْكَفَرَةُ الضُّلَّالُ...  ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ عَلَى أُمَرَاءِ الْأَمْصَارِ، وَإِنِّي إِنَّمَا بَعَثْتُهُمْ عَلَيْهِمْ لِيَعْدِلُوا عَلَيْهِمْ، وَلِيُعَلِّمُوا النَّاسَ دِينَهُمْ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم، وَيَقْسِمُوا فِيهِمْ فَيْئَهُمْ، وَيَرْفَعُوا إِلَيَّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِهِمْ). رواه الإمام مسلم في المساجد، باب نهي من أكل ثوماً أو بصلاً رقم: (567).
وهذا خطابٌ يحاكي واقعَ السامعين.
الاستفادةُ من أساليبِ الخطابِ: وبخاصة تلك التي تتناسَبُ وعقولَ المخاطَبين، حتى يكونَ كلامُهُ ذا تأثيرٍ إقناعيٍّ إيجابيٍّ، وهذا ينبُعُ من مقدارِ فهمِ الخطيبِ لشخصية المخاطَبِ وطبيعته، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم: 4].
ولا يخفى ما لأساليب الإلقاء مِن قدرةٍ على جذبِ المتلقي، والدخولِ إلى نفس السامع، والتأثيرِ عليها واستثارةِ عواطفِهِ بالترغيب والترهيب والتشجيع، وبالتالي جذبَ السامعِ واستمالتَهُ وتحصيلَ استجابةٍ منه، وهذا مِن أعظمِ الأبعادِ التي تقومُ عليها وظيفةُ الخطيبِ.
عن أنس رضي الله عنه قال: أولُّ خطبةٍ خَطَبَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صعِدَ المنبرَ فحمِدَ اللهَ وأثنى عليه وقال: (يا أيها الناس إنّ اللهَ قد اختار لكم الإسلام ديناً فأحسِنوا صحبةَ الإسلام بالسخاء وحسنِ الخلقِ، ألا إنّ السخاءَ شجرةٌ من الجنة وأغصانُها في الدنيا، فمن كان منكم سخياً لا يزالُ متعلقاً بغصنٍ منها حتى يوردَهُ اللهُ الجنةَ، ألا إنّ اللؤمَ شجرةٌ في النار وأغصانُها في الدنيا، فمن كان منكم لئيماً لا يزالُ متعلِّقاً بغصنٍ من أغصانها حتى يوردَهُ اللهُ النارَ، قال مرتين: السخاء في الله، السخاء في الله). تاريخ دمشق ص: (50/ 289)، رقم: (10680) لابن عساكر أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله (ت: 571هـ) نشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع/ لبنان - بيروت/ سنة: (1415) هـ -(1995) م، وفيه ضعف، وقد رويت بعض ألفاظه من طرق في حلية الأولياء وشعب الإيمان فارجع إليها.
تقديرُ العقولِ: وذلك عبرَ اختيارِ لسانِ الخطابِ المناسِبِ لكلِّ فئةٍ، وهذا يكون بإدراك حقيقةِ تفاوتِ العقول، واختلافِ الأفهامِ، فينبغي أنْ يأتيَ الخطابُ مناسباً لكلِّ عنصرٍ، ملائماً لكل شخصٍ، متوافقاً مع البيئة والعادات، يقولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا تحدثُوا أمتِي من أحاديثي إِلَّا مَا تحمله عقولكم). 
وقالَ عليٌّ رضي الله عنه: "حدِّثوا الناسَ بما يَعرفونَ، أتُحبُّونَ أنْ يُكَذَّبَ اللهُ ورسولُه". رواه البخاري في العلم، باب من خص قوماً دون قوم في العلم رقم: (127)، ذكره البخاري تعليقاً في أول الباب ثم عقبه بالإسناد، فالحديث موصول موقوف.
وعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ، قَالَ: "مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً" رواه مسلم في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع ص: (1/ 11).
كما إنه من أدب الحديث أنْ يتحدّثَ المتكلمُ بأسلوبٍ يناسِبُ ثقافةَ القومِ، ويَتفِقُ مع عقولهم وأفهامهم وأعمارهم، بل هو سنةُ الرسلِ والأنبياء، فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بُعثنا معاشرَ الأنبياءِ نخاطِبُ الناسَ على قدر عقولهم). ذكره أبو الفداء إسماعيل بن محمد العجلوني الدمشقي، (ت: 1162هـ) في كشف الخفاء ومزيل الإلباس ص: (1/ 223) وحسنه لشواهده/نشر: المكتبة العصرية/ الطبعة: الأولى/ سنة: (1420) هـ - (2000) م، وانظر: تربية الأولاد في الإسلام ص: (346) لعبد الله علوان/ الطبعة الثالثة/ سنة: (1430) هـ.
ويقول الإمام النووي يذكر آداب المحدث: "ولْيتجنّبْ ما لا تَحتَمِلُهُ عقولُهم وما لا يفهمونه" التقريب والتيسير ص: (81) أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676هـ) نشر: دار الكتاب العربي، / لبنان - بيروت/ الطبعة: الأولى/ سنة: (1405) هـ - (1985) م.
التجهيزُ الجيدُ: قيل: تُحقِّقُ الخطبةُ جودتَها بمقدار الجهد المبذول في التحضير لها، لهذا يتوجَّبُ على راقي المنبر أنْ يعلَمَ أنه كالمحارب، ويجدُرُ به ليصونَ نفسَهُ أن ْيلبَسَ لحربه دِرعَها ولأمَتَها، وأنْ يُعِدَّ مادةَ خطابِهِ إعداداً جيداً، عبرَ التحضيرِ الشاملِ والمستوعِبِ لجوانبها، فيتعرَّفَ على خفايا الموضوع، ويملكَ زاداً جيداً من المعلومات التي تتعلقُ به.
ومن متطلبات ذلك البعدُ عن الارتجاز والاعتمادِ على البديهة، وبخاصة أنه يخاطبُ عقولاً مختلفةً وأفهاماً متباينةً، فينبغي الاهتمامُ بالخطاب ليتلاءم مع الجميع، فلا يصلُ بهم إلى درجة السآمة لكثرة التفصيل، ولا يقفُ بهم عند حوافِّ الغموضِ، ومن صورِ ذلك ما أَكّدَهُ عمرُ رضي الله عنه قولاً وفعلاً حيث ثَبَتَ عنه يومَ السقيفةِ أنه هيأ لنفسه خطبةً يخطُبُ بها المجتمعينَ إذْ قال: "أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، وَكُنْتُ قَدْ زَوَّرْتُ مَقَالَةً أَعْجَبَتْنِي أُرِيدُ أَنْ أُقَدِّمَهَا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ، وَكُنْتُ أُدَارِي مِنْهُ بَعْضَ الحَدِّ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلَى رِسْلِكَ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُغْضِبَهُ، فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ" رواه البخاري في المحاربين، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت رقم: (6442).
الرفقُ والحنانُ في الخطاب: بالابتعاد عن كلِّ ما يثيرُ البغضاءَ ويُحفِّزُ الشحناءَ، بل أنْ يحملَ الخطابُ صورةَ الغيرةِ والخوفِ والخشيةِ على السامعين؛ فالنفسُ البشريةُ مفطورةٌ على الميل إلى جانب اللين والرفق، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنتُ عَلى بَعيرٍ فِيه صُعُوبَةٌ، فَقال النبيُ صلى الله عليه وسلم: (عَليكِ بالرِّفقِ فَإنَّهُ لَا يَكُونُ فِي شَيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنزَعُ مِن شَيءٍ إلا شَانَهُ). رواه مسلم في البر والصلة باب فضل الرفق رقم: (2594) الترمذي في البر ما جاء في الفحش رقم: (1974).
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ اليَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ: (يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ)، قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: (قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ). رواه البخاري كتاب استتابة المرتدين والمعاندين، باب إذا عرض الذمي وغيره بسب النبي صلى الله عليه وسلم رقم: (6528).
وعَنْها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ). رواه مسلم في البر والصلة باب فضل الرفق رقم: (2593)، وأبو داود في الجهاد باب ما جاء في الهجرة رقم: (3688).
إنّ استخدامَ الخطيبِ في خطابه للكلمات الرقيقة واللطيفة والعبارات الطيبة والقول الحسن، يساعدُ في أنْ يبلُغَ مِن نفسِ السامعِ منزلاً رفيعاً، فأنت ترى أنّ رسولَ الله على جبل الصفا يخاطِبُ الناسَ بأحبِّ الأسماءِ وأرقى الكنى، وهكذا كان دَيدنُهُ في تبليغ رسالته دوماً، كما فعل في رسائله إلى هرقل وكسرى وغيرهما.
وهذا أسلوبٌ قرآنيٌّ مأثورٌ وواضحٌ من خلال تتبُّعِ أساليبِ الرسلِ في خطبهم، فهذا إبراهيم عليه السلام يخاطِبُ والده بالنداء المحبَّبِ إلى كلِّ ٍأب إذْ قال له: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:42-47].
وقد أَمَرَ لقمانُ الحكيمُ ابنَهُ في نصيحته القرآنية باللين والرحمة، ويوسفُ عليه السلام يحادِثُ رفاقَ السجنِ بخطابِ الصحبةِ بقوله: {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ} وما هذا إلا تدليلٌ على أنّ الرفقَ زينُ الدعوةِ والتصحيحِ.
إلى غير ذلك مما يمكن أنْ يُستنبَطَ من خطبِ السلفِ وأساليبهم.
 

http://shamkhotaba.org