البيت المسلم
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الخميس 14 فبراير 2019 م
عدد الزيارات : 1642
1- هذا هدي المرسلين مع بيوتهم
حكى الله عز وجل عن نوح عليه السلام، هذا الحوار الذي دار بينه وبين ابنه، حيث قال: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} فلما غرق لازالت الرحمة في قلب نوح عليه السلام فقال: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود: 45].
وذلك لأن عناية المسلم بأهل بيته وأولاده من هدي الأنبياء، ومن سنن المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وهذا إبراهيمُ عليه الصلاة السلام إمامُ الحنفاءِ، كان رفيقاً شفيقاَ حريصاً على أن يهدي أباه للإسلام، فكان اللسانُ الذي يتكلم به مع قومه خلافَ الخطابِ الذي يوجهُهُ لأبيه، لأن عنايته بأبيه كانت أعظمَ وأشدَّ، ولذلك حكى الله عنه هذا التحاورَ فقال عز وجل: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 42-47].
ثم إنّ إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام لما منّ الله عليه بالظهور ثم أتاه الموت، فكان حريصاً أن تبقى عنايتُهُ بأهل بيته أمراً مستمراً، فجَمَعَ بنيهِ في مرضِ موتِهِ كما أخبر الله عز وجل عنه: {وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُون} [البقرة: 132].
ونقل الله عز وجل في كتابه العظيم حكايةً عن لقمان، ذلك العبدُ الصالحُ، أنه كان حريصاً على أهل بيته، فكان يقرِّبُ ابنَهُ ويناجيه ويدعوه ويقول: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
ثم انتقل الأمرُ واستقرَّ إلى هدي سيد الخلق، وإمامِ الأمةِ عليه الصلاة والسلام، فامْتَثَلَ عليه الصلاة والسلام أمرَ ربِّهِ بقوله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214].
فكان صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يبلِّغَ الدعوةَ إلى أهل بيته في المقام الأول.
 كان مِن هديه صلى الله عليه وسلم دعوةُ أهلِهِ، ولذلك مَن تأمَّلَ السيرةَ النبويةَ العطرةَ وتلك الأيامَ الزاهرةَ وَجَدَ أنّ مِن أوائل المسلمين خديجةَ بنتِ خويلد، وعليَّ بن أبي طالب، ومولاه وربيبَهُ في الأصل زيدَ بن حارثة.
فكان أولئك القومُ مِن أوائل المسلمين، لأن الدعوةَ أصلاً انطلقَتْ مِن بيته صلى الله عليه وسلم.
وكذلك كان أبو بكر رضي الله عنه مِن أولِ الرجالِ إسلاماً، لأنه كان الخليلَ المصاحبَ لنبينا صلوات الله وسلامه عليه.
2- آخر قلاعنا
إنّ البيتَ المسلمَ في هذا العصر قد أصبح مرمى وهدفاً لسهام أهل الكفر والزيغ، أصبح مرمىً وهدفاً لرماح ومكرِ وكيدِ أولئك الذين يتربصون بالمسلمين الدوائرَ، مما أضحى حالُهم لا يخفى على أحدٍ! الذين يريدون أن يُقوِّضوا أركانَ البيتِ المسلمِ، ويدمِّروا بنيانَهُ، ويُضيِّعوا إيمانَه، ويفسدوا فتياتِهِ وفتيانَهُ.
إنّ بيتَ المسلمِ أعظمُ قلاعِهِ وآخرُ حصونِهِ، فإذا هُدِمَتْ هذه القلاعُ وقُوّضَتْ هذه الحصونُ، أَثمَرَ -والعياذ بالله- الضلالةَ والزيغَ بعد الرشاد.
وإنه من المعلوم أنه لا يوجد مؤمنٌ تقيٌّ إلا وهو يودُّ أنْ يرزقَهُ اللهُ الجنةَ؛ فالجنةُ غايةُ الأماني، ومنتهى الآمال؛ ومع أنّ المؤمنَ يسعى لأن يرزقَهُ اللهُ الجنةَ، هو كذلك حريصٌ على أن يرزقَهُ اللهُ وأهلَ بيته الجنةَ.
فما أسعدَ المؤمنَ إنْ قَرَنَ اللهُ بينه وبين أهلِ بيتِهِ في جنات النعيم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21].
إنّ أعظمَ ما يميِّزُ بيوتَ المسلمين ذلك الإيمانُ الذي يجلِّل ذلك البيتَ، ويظهَرُ على مُحيّا أهلِهِ.
ورد أنّ نصارى نجران لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ النبي يجادلهم بالتي هي أحسنُ في قضية إثباتِ أنّ عيسى عليه السلام لم يكن يوماً قطُّ ولداً لله، قال الله بعدها: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61].
فدعا النبي عليه الصلاة والسلام علياً وفاطمةَ والحسنَ والحسينَ أهلَ بيتِهِ وأخرجهم ليُباهِلَ أساقفةَ نجرانَ من النصارى وقال: (إذا أنا دعوتُ فأمِّنوا).
ورد في بعض الآثار أنّ أولئك الأساقفةَ لما رأوا نورَ الإيمانِ على مُحيّا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أهل بيته، قال بعضهم لبعض: إنّ هذه الوجوهَ لو سألَتِ اللهَ أنْ يُزيحَ الجبالَ عن أمكنتها لأزالها، فكيف تباهلونهم؟؟
فامتنعوا عن مباهلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، وقبلوا بالجزية كما هو معروفٌ مشتهرٌ في السيرة.
3- ميزة البيت المسلم
والمقصودُ أنّ هذا الإيمانَ الواقرَ في البيت هو أعظمُ ما يميِّزُ بيوتَ المسلمين عما سواها.
وهذا الإيمانُ له ثمراتٌ، ومِن أعظم ذلك: المسارعةُ إلى الطاعة، والمسابقةُ إلى الخيرات، وإنّ الله جل وعلا قد أثنى على آل زكريا بقوله: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].
وأثنى على داود وآله بقوله: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].
وإنّ الله جل جلاله يعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن يحب.
فإذا أردتم أن تعرفوا مقامَ رجلٍ عند الله فانظروا إلى الإيمان في قلبه، وانظروا إلى مدى إقباله على الله.
رأى الحسنُ البصري-رحمه الله- أقواماً يعصون الله، فنَظَرَ إليهم وبكى، ثم قال: "هانوا على الله فعصوه، ولو عزّوا عليه لعصمهم".
ولا شيءَ أيها الأحبة ألزمُ وأولى بأن يحافظ عليه البيتُ المسلمُ من الصلاة، فبمقدار أخذِ أهلِ البيتِ وإقبالهم على هذه الطاعة، يُعرَفُ تميُّزُهم عن غيرهم من بيوت المسلمين، فمن البيوت -والعياذ بالله- من يسمعون الأذان بعد الأذان، والنداءَ بعد النداء، والصلاةَ بعد الصلاة، ولا ترى منهم مَن يقومُ ويخرُجُ إلى المسجد ليعفِّرَ وجهَهُ لله جل جلاله، وإذا حلَّتْ بهم النوازلُ ونزلَتْ بهم المصائبُ رفعوا أكفَّ الضراعةِ والدعاءِ إلى الله، فسبحان الله مِن تناقضِ الموقفين! ولو عبدتَهُ في السراء لأجابك في الضراء، وإن كان الله عز وجل قد يجيبُ بعضَ عبادِهِ وإنْ لم يكنْ له من الخير شيءٌ، رحمةً منه وتفضلاً، قال سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ} [يونس: 12].
هذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه طُعن وهو في المحراب، في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتراجع إلى الخلف وجسدُهُ يثعُبُ دماً وينزفُ جراحاً، أين ذهب؟ لم يقلْ للناس اقطعوا صلاتَكم فإني مطعونٌ! بل وقف رضي الله عنه في الصف وقدّمَ عبدَ الرحمن بن عوف للصلاة، ولا زال رضي الله عنه قائماً في الصفِّ يصلي مع المسلمين، فلما كلَّمَهُ الناسُ، قال تلك الكلمةَ العظيمةَ: "لا حظَّ في الإسلام لمن تَرَكَ الصلاةَ، لا حظَّ في الإسلام لمن تَرَكَ الصلاةَ".
فإذا كان هذا الصحابيُ الجليلُ يصلي جماعةً وهذا حالُهُ! فماذا يقولُ مَن ينعُمُ بالصحة والعافية!؟
إنّ في محافظة أهل البيت على هذه الشعيرة العظيمة يربي الأطفالَ على حبِّها، فتجِدُ الطفلَ يقلِّدُ حركةَ والديه في الصلاة، لأنه مفطورٌ على التأسي بمن يراه، فتجِدُهُ يقلِّدُهُ في تكبيره وركوعه وسجوده، وكلُّ إناءٍ بما فيه ينضَحُ.
وكذلك إنّ مما يميِّزُ البيوتَ المسلمةَ -وينبغي أن تكون عليه-: التآخي والمحبةُ، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].
بعضُ أفرادِ الأسر مَن إذا حَدَثَ بينَهُ وبينَ أحدِ إخوانِهِ في البيت خصامٌ أو جدالٌ عارِضٌ جَعَلَ منه أمراً كبيراً، فوسّعَ الفجوةَ واشترَطَ على أهلِ بيتِهِ ألا يكلِّموا فلاناً، وأَخَذَ يرى مَن معه ومن ضدَّهُ، فاتسع الخرقُ على الراقع، وضاق الأمرُ على من يريد أن يصلح بينهم، واتسعتِ الفجوةُ ولم يبقَ للإصلاح موطنٌ ولا سبيلٌ.
نسأل الله أن يصلح بيوتنا، ويبارك في أولادنا، فإنه إن صلُحَ البيت صلُحَ المجتمع، ومن أقام حقَّ الله في بيته فهو ساعٍ في إقامته في أمته ومجتمعه.

http://shamkhotaba.org