دور خطبة الجمعة وقت الأزمات والحروب: قراءة في خطب المصطفى صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين
الكاتب : عبد المجيد بدوي
الاثنين 25 فبراير 2019 م
عدد الزيارات : 3131
مقدمة:
يمر الإنسان في حياته بأيام عادية على نسق أيامه السابقة، المتغيراتُ فيها قليلة، والأصل فيها الاستقرار، وبين الحين ولآخر تعرِضُ له أمور تجعل نظام حياته يضطرب مما يوجب عليه عادات جديدة، وكذلك الأمم تمر بمراحل تكون أحوالها مستقرة، ثم تأتيها ظروف من الاضطراب والتغير، كتلك التي يتغير فيها نظامها الاقتصادي، والأهم من ذلك ظروفُ تغيُّرِ النظامِ السياسيِ، فقد شهدت الأمة الإسلامية فتناً عظيمة في صدر تاريخها، وحدثت اضطرابات عظيمة، منها ما حصل أثناء الحكم العباسي حيث وقعت العديد من الاضطرابات داخل الدولة المسلمة، إلا أن تغييراً من نوع آخر دخل على الخط وهو انتقال الحكم في بعض المناطق من إسلامي إلى صليبي، كما حدث نتيجة الحروب الصليبية من سيطرة على الساحل السوري وبيت المقدس، وبعد حين قامت الخلافة العثمانية وأدخلت مناطق صليبية إلى الحكم الإسلامي كفتح القسطنطينية، ثم كانت الثورة العربية التي تحوّل الحكم نتيجتها إلى قومي وأعقبها الاستعمار وثورات ضده، ومرحلة من حكم العسكر للبلدان العربية، وما نعيشه هذه الأيام في البلدان العربية هو مرحلة من تلك المراحل المهمة والاستثنائية، وفي سوريا دخلت الثورة مرحلة الحرب ولم تضع أوزارها بشكل نهائي، مع حراك في دول أخرى أيضاً، فالثورات والحروب وتغيُّرُ الحكام أمور عظيمة تمر بها الأمم، لابد لها من إجراءات استثنائية، وتصرفات خاصة، وإن للخطبة عموما أهمية بالغة في الأحوال الاستثنائية ولا تخفى العلاقة اللغوية بين الخطبة والخطب. تاج العروس من جواهر القاموس، 2/370
فالخطوب تحتاج الخطب، وأهميتها تكمن في دورها في تحريك الجمهور ليصطفَّ بصفِّ الخطيب.
أهمية الجمهور في الأحوال الاستثنائية:
تعوِّلُ الطليعة التي تسعى إلى قلب النظام السياسي في أيِّ مكان على صنع رأيٍ عامٍ مساندٍ لها، سواء كانت ترغب في تغييره بطريقة سلمية بيضاء، فهي تحتاج لمن يملأ الشوارع والساحات، تحتاج للأصوات الهادرة، التي تخترق جدران القصر السميكة، فتدُبُّ الرعبَ في قلب الحاكم فيولي الأدبار، أو كانت تسعى لتغييره بطريق القوة، فهي تحتاج إلى من يحمل السلاح، وإلى من يدفع الأموال، وبذلُ النفس والمال من أشق الأمور على المرء، وفيها قال الشاعر:
لولا المشقة ساد الناس كلهم     الجود يفقر والإقدام قتال
فالجمهور في الثورات له كلمة مهمة، ولعلها كلمة الفصل إن اتفقت على رأي واحد.
الخطبة وعواطف الجمهور:
يستطيع الخطيب أن يجعل مخاطبيه في صفِّه إذا نجح في التسلل إلى عواطفهم، فإن ألبسهم القبعة الحمراء التي يلبسها فكثيرٌ منهم سيتبعه ويسير في صفه، هذا سواء كان الخطيب يطرح حقاً أو باطلاً، لكنّ مهمته حالَ طرحِهِ ما يعتقد أنه حقٌّ أسهلُ منها بكثير حالَ اعتقادِهِ بطلانَ ما يدعو إليه، فالمتفاعل مع طرحه المنسجم معه، ينقل مشاعره إلى الجمهور دون تكلُّفٍ واصطناعٍ، أما من أراد أن يوصل مشاعر ليست أصلاً في قلبه فهذا عليه أن يكون ممثلاً بارعاً، يتقن دوراً ليس له في الأصل.
وسيلجأ هنا الخطيب إلى سرد ما يكرهه الجمهور مبينا أن هذا المكره واقع من خصمه، فإن كانوا يغضبون لقصف المساجد، فإنّ ذكره لقيام الخصم بذلك يجعل العواطف في صالحه، وكذلك تمزيق المصاحف وقتل الأطفال والنساء، ولو استطاع الخطيب أن يخيّل للرجال الذين أمامه أن العدو على وشك اغتصاب نسائهم وقتل أطفالهم فإنه سيحصد أرقاماً عالية لتعاطفهم معه، كما يمكن للخطيب أن يصوّر الأمور التي يحبها جمهوره على أنها نتيجة للحراك الذي يؤيده، وسينسحب حبهم لتلك الأشياء على حبٍّ للسبب المؤدي لها، والناس  تحب أن تَطعَمَ من جوع، وأن تَأمَنَ من خوف، فإذا تخيلوا أنفسهم بعد حين ناعمين بالرزق الوفير، والأمن أحبوا هذا الحراك، وربما انخرطوا فيه، فالخطيب يتحمل مسؤولية تحريك العواطف التي ينصرف بها جمهوره، معه أو عليه، أو حيادية.
الخطيب وإقناع جمهوره:
لا يصح أن يكتفي الخطيب بالجانب العاطفي فقط، لابد له من التركيز على القسم المنطقي من الدماغ، وفي أنماط الشخصيات من يغلب المنطق على العاطفة، ويتأثر بالحجة والبرهان أكثر من تأثره بالبكاء والعويل، فليرتب الخطيب النتائج على أسبابها، وليذكر المقدمات وما يتمخض عنها، يجد هذا النوع متفاعلاً معه منسجماً، والناس في معظمها لها نصيب من الأمرين تتأثر بالعاطفة، وتتأثر بالمنطق ويتفاوتون بأيهما الأهم، فمن حدّث الناس عن كذب النظام السوري بادعاء المؤامرة الكونية عليه واستدل بما يقوم به الغرب اليوم من قصف للفصائل المقاتلة له نجح في الإقناع، فكيف تكون المؤامرة عليه ولا يقصف إلا أعداؤه. 
ومن حدّث الناس بكذب الغرب في ادعائه قصد حماية السوريين من قصفه ما يسميهم المتطرفين، مستدلاً بتركهم للنظام المجرم، نجح أيضا في الإقناع، فكيف يحمون المدنيين ممن لم يقتلهم، ويتركون من يصبحهم ويمسيهم بالبراميل، الخطيب لا شك يتحمل مسؤولة القناعات التي يخرج بها جمهوره، معه أو ضده أو على الحياد.
بما أن الجمهور كلمته مهمة في الأحول الاستثنائية، وبما أن الخطبة تستطيع التسلل إلى عواطف الناس وأفكارهم، فمن المسلم به أن الخطبة لها دور مهم في صناعة النتائج التي تتمخض عنها تلك الأحوال، وهل أعجب من كلمات تقال لرجل تجعله يرمي نفسه في أحضان الموت، وموت البعض يحيي البقية ومبادئهم، حدث هذا في غزوة بدر لما دنا المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض)، قال أنس رضي الله عنه: يقول عمير بن الحمام الأنصاري يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض، قال: (نعم)، قال: بخ بخ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يحملك على قولك بخ بخ)، قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها، قال: (فإنك من أهلها)، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل. صحيح مسلم، ص 789، رقم:1901
جملةٌ واحدةٌ قالها الصادق المصدوق منعت الرجل من إكمال التمرات، (فإنك من أهلها)، والرجل يحب الجنة، فليذهب إلى حيث يحب.
نماذج من خطب النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين:
كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم صادقة ومؤثرة، يتلقاها الصحابة على أنها قطعية ليست بحاجة إلى مقدمات منطقية، وقد سبق حديث الرجل الذي ألقى التمرات، وألقى بنفسه للشهادة، كان ذلك في غزوة بدر أما في مؤتة فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مع المجاهدين، لكن ما الذي جرى؟ حَدَّثَنَا الصحابي أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عن ذلك فقَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ عَلَيْهِ وَمَا يَسُرُّنِي أَوْ قَالَ مَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا وَقَالَ وَإِنَّ عَيْنَيْهِ لَتَذْرِفَانِ). صحيح البخاري، 4/72، رقم: 3603
لئن كانت الخطبة إحدى وسائل صناعة الرأي العام فهذه ليست خطبة فحسب، إنها أشبه بخدمة البث المباشر للأحداث المهمة حيث وسائل اتصال في ذاك الزمن، ولاشك أن الإعلام المرئي والبث المباشر خصوصا أبلغ تأثيرا في الرأي العام، وهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بأصحابه لينقل لهم أولا بأول أحداث الحرب الدائرة في الشام، ولا تخصص الأقنية الفضائية جزءا من بثها المباشر إلا لما له أهمية بالغة عندها، وفي خطبته صلى الله عليه وسلم ترغيب بالشهادة وتعزية لذوي الشهداء، فلا يسرهم أنهم معنا، وفيها العواطف الصادقة التي أجرت دموعه الشريفة، فهو ليس بالقائد الذي يبني مجده على جماجم جنده، بل النبي الرحيم.
بدأ نزول الوحي يوما ما في غار حراء، وها هو اليوم على جبل عرفات في يوم جمعة يعلن انهاءه: {اليوم أكملت لكم دينكم}، وبعدها سيكون الحدث المؤلم الذي لابد منه: {إنك ميت وإنهم ميتون}، ولابد من تهيئة القلوب والعقول لذلك: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا). فقه السيرة، ص 349، المؤلف محمد الغزالي، خرج أحاديثه الشيخ الألباني، الناشر دار الشروق، وقال الألباني في الحديث: "معظمه في مسلم"
وبموت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقطع الوحي نعم، وسيحدث أيضاً انتقال في السلطة، سيتغير الحاكم، وعند تغيير الحكام تسيل الدماء عادة، وخطبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم تفي بالغرض:
أَتَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ فَرَكِبَ حَتَّى أَتَى بَطْنَ الوادي فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا في شَهْرِكُمْ هَذَا في بَلَدِكُمْ هَذَا أَلاَ إِنَّ كُلَّ شيء مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قدمي مَوْضُوعٌ وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ)، ثم قال: (وإني قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ وَأَنْتُمْ مَسْئُولُونَ عَنِّى فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ)، قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، ثُمَّ قَالَ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكِبُهَا إِلَى النَّاسِ: (اللَّهُمَّ اشْهَدِ اللَّهُمَّ اشْهَدِ اللَّهُمَّ اشْهَدْ). سنن أبي داود، ص220، رقم: 1905 الكتاب: صحيح أبي داود، 6/155
لازال تعظيم الحرم والأشهر الحرم واقراً في القلوب عند الصحابة، وهو مما أقرّته الشريعة وطلبته؛ وتشبيهُ حرمةِ الدم بحرمة المكان والزمان جاء مناسباً للشريحة المخاطبة وما تعظِّمُ، ثم إحالتُهم إلى الكتاب ليعصمهم من الضلالة أمرٌ مهم، ويجنِّبهم فتنة النزاع على السلطة؛ خطبةُ وقايةٍ خيرٌ من ألف خطبةِ علاجٍ.
ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطب سيدنا عمر رضي الله عنه في الناس، فخوّف المنافقين: "وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَاللَّهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلَّا ذَاكَ وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ"، فجاء سيدنا أبا بكر رضي الله عنه فقال: "أَيُّهَا الْحَالِفُ عَلَى رِسْلِكَ"، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: "أَلَا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ"، وَقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}، وَقَالَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}"، فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ. 
هاتان خطبتان جاءتا في وقت أقل ما يقال عنه أنه استثنائي، إنها هزة حقيقية للإسلام برمته، قد تنفلت الأمور ويشغب المنافقون، وقد تختلط الأمور ويحار العاقلون، والخطبة الأولى ردعت من سيشغب، والثانية أيقظت من سيحار، لنأخذ تقييم السيدة عائشة لهاتين الخطبتين بعد أن روتهما، قَالَتْ: "فَمَا كَانَتْ مِنْ خُطْبَتِهِمَا مِنْ خُطْبَةٍ إِلَّا نَفَعَ اللَّهُ بِهَا لَقَدْ خَوَّفَ عُمَرُ النَّاسَ وَإِنَّ فِيهِمْ لَنِفَاقًا فَرَدَّهُمْ اللَّهُ بِذَلِكَ ثُمَّ لَقَدْ بَصَّرَ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ الْهُدَى وَعَرَّفَهُمْ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِمْ وَخَرَجُوا بِهِ يَتْلُونَ: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ إِلَى الشَّاكِرِين" صحيح البخاري،5/6، رقم 3667
ثم ثار نزاع خلاصته أن من الأنصار من قال: "مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ"، فردهم أبو بكر رضي الله عنه إلى حديث رسول الله صلى عليه وسلم فانصاعوا، وهذا نص خطبته: "وَإِنَّ هَذَا الأَمْرَ في قُرَيْشٍ مَا أَطَاعُوا اللَّهَ وَاسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِهِ قَدْ بَلَغَكُمْ ذَلِكَ أَوْ سَمِعْتُمُوهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَفَنَحْنُ الأُمَرَاءُ وَأَنْتُمُ الْوُزَرَاءُ إِخْوَانُنَا في الدِّينِ وَأَنْصَارُنَا عَلَيْهِ". 
وَفِى خُطْبَةِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَهُ قال: "نَشَدْتُكُمْ بِاللَّهِ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَلَمْ تَسْمَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ مَنْ سَمِعَهُ مِنْكُمْ وَهُوَ يَقُولُ: (الْوُلاَةُ مِنْ قُرَيْشٍ مَا أَطَاعُوا اللَّهَ وَاسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِهِ)، فَقَالَ مَنْ قَالَ مِنَ الأَنْصَارِ بَلَى الآنَ ذَكَرْنَا، قَالَ: فَإِنَّا لاَ نَطْلُبُ هَذَا الأَمْرَ إِلاَّ بِهَذَا فَلاَ تَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الأَهْوَاءُ فَلَيْسَ بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ" الكتاب: السنن الكبرى وفي ذيله الجوهر النقي، ص 143، رقم 16978، المؤلف: أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، مؤلف الجوهر النقي: علاء الدين علي بن عثمان المارديني الشهير بابن التركماني، الناشر: مجلس دائرة المعارف النظامية الكائنة في الهند ببلدة حيدر آباد، الطبعة: الأولى ـ 1354 هـ
أيضا خطبتان للرجلين الأكثر قوة في الدولة ولم يمض على وفاته صلى الله عليه وسلم ساعات، لنعلم مدى أهمية الخطبة في الأحوال الاستثنائية، وكلاهما يرد المخاطبين إلى الله ورسوله، والأنصار سمع وطاعة، ألم يتحدث رسول الله في خطبة الوداع عن الذي إن تمسكوا به فلن يضلوا؟
بايع الخاصة إلا أن العامة لم يبايعوا بعد، لم ينته الظرف الاستثنائي ولا زلنا في حاجة للمزيد من الخطب، يصمت هذه المرة الخليفة المرشح ويتحدث بين يديه مساعده الفاروق، ويخبرنا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ خُطْبَةَ عُمَرَ الْآخِرَةَ حِينَ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَذَلِكَ الْغَدَ مِنْ يَوْمٍ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَشَهَّدَ وَأَبُو بَكْرٍ صَامِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ قَالَ: "كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَعِيشَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَدْبُرَنَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ آخِرَهُمْ فَإِنْ يَكُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نُورًا تَهْتَدُونَ بِهِ هَدَى اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ فَإِنَّهُ أَوْلَى الْمُسْلِمِينَ بِأُمُورِكُمْ فَقُومُوا فَبَايِعُوهُ"، وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ قَدْ بَايَعُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ وَكَانَتْ بَيْعَةُ الْعَامَّةِ عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ لِأَبِي بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ اصْعَدْ الْمِنْبَرَ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَبَايَعَهُ النَّاسُ عَامَّةً. صحيح البخاري، 9/81، رقم: 7219
وأخيراً تم المراد، وانتقل الحكم بكل سلاسة ويسر، وبايع الناس خاصتهم وعامتهم، ولم ترق قطرة دم، ولم يستغرق الأمر أكثر من أربع وعشرين ساعة، هل كان لذلك الحشد من الخطب دور إنجاح هذه العملية السياسية الضخمة، نعم ولا شك.
لننتقل إلى مثال آخر يبين بشكل واضح أهمية الخطبة في إشعال الحروب، لكنه من أوربا، من مدينة كليرمنت بجنوب فرنسا، حيث قرر البابا أوربان الثاني أن يشن حربه المقدسة على بلاد المسلمين، ولا بد له قبل ذلك من خطبة يثير بها الجموع الصليبية، يحركها لتعبر قارة كاملة لنتنقل من أوربا إلى آسيا، قال البابا في خطابه ذاك:
"يا شعب الفرنجة، يا شعب الله المحبوب المختار، لقد جاءت من تخوم فلسطين، ومن مدينة القسطنطينية أنباء محزنة تعلن: أن جنساً لعيناً أبعد ما يكون عن الله قد طغى، وبغى في تلك البلاد، بلاد المسيحين في الشرق، وقلب موائد القرابين المقدسة ونهب الكنائس وخربها وأحرقها وساقوا بعض الأسرى إلى بلادهم، وقتلوا بعضهم الآخر بعد أن عذبوهم أشنع تعذيب، ودنسوا الأماكن المقدسة برجسهم، وقطعوا أوصال الإمبراطورية البيزنطية، وانتزعوا منها أقاليم بلغ من سعتها: أن المسافر فيها لا يستطيع اجتيازها في شهرين كاملين، على من تقع إذاً تبعة الانتقام لهذه المظالم، واستعادة تلك الأصقاع إذا لم تقع عليكم أنتم.
أنتم يامن حباكم الله أكثر من أي قوم آخرين بالمجد في القتال، وبالبسالة العظيمة، وبالقدرة على إذلال رؤوس من يقفون في وجوهكم. ألا فليكن من أعمال أسلافكم ما يقوي قلوبكم، أمجاد شارلمان وعظمته، وأمجاد غيره من ملوككم، وعظمتهم، فليثر همتكم ضريح المسيح المقدس ربنا، ومنقذنا الضريح الذي تمتلكه الآن أمم نجسة، وغيره من الأماكن المقدسة التي لوثت ودنست، لا تدعوا شيئا يقعد بكم من أملاككم أو من شؤون أسركم، ذلك بأن هذه الأرض التي تسكنونها الآن، والتي تحيط بها من جميع جوانبها البحار، وتلك الجبال ضيقة، لا تتسع لسكانها الكثيرين، تكاد تعجر عن أن تجود بما يكفيكم من طعام، ومن أجل هذا يذبح بعضكم بعضا، وتتحاربوا، ويهلك الكثيرون منكم في الحروب الداخلية، طهروا قلوبكم إذا من أردان الحقد، واقضوا على ما بينكم من نزاع، واتخذوا طريقكم إلى الضريح المقدس، وانتزعوا هذه الأرض من ذلك الجنس الخبث، وتملكوها أنتم.
إن أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها، هي فردوس المباهج، إن المدينة العظيمة القائمة في وسط العلم تستغيث بكم أن هبوا لإنقاذها، فقوموا بهذه الرحلة راغبين متحمسين، تتخلصوا من ذنوبكم، وثقوا بأنكم ستنالون من أجل ذلك مجدا لا يفنى في ملكوت السماوات". صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس، ص39، 40، تأليف الدكتور علي محمد الصلابي، مؤسسة زمزم الثقافية الطبعة الألى 1435 هـ
لا تخفى مقاطع إثارة العاطفة في كلامه عندما يتحدث عن تعذيب المسيحين في الشرق واضطهادهم، كما لا تخفى المناقشة المنطقية لضيق الرزق في أوربا وتسببه في الحرب الأهلية هناك، ثم تقديم ثمار القدس حلا لذلك الجوع. 
لقد أثر هذا الخطاب في سامعيه حتى تدافعوا بالمئات يركعون أمام البابا في حماس منقطع النظير، وقد حملوا الصليب وأقسموا على تخليص المدينة المقدسة. المصدر السابق
وما لبثت الجموع أن وصلت بلادنا وأقامت أربع ممالك صليبية، القدس وطرابلس وأنطاكية والرها، تلك الخطبة القوية كانت سببا في إزهاق الكثير من الأرواح، مسلمها ومسيحيها.
ولكنْ فرقٌ بين مَن رسالتُهم حفظُ الدماء، وبين مَن رسالتُهم سفكُ الدماءِ، والخطبة كالسكين تراها تارة بيد الطبيب، وتارة بيد المجرم، هذا ينقذ بها الأرواح وذلك يزهقها.
 

http://shamkhotaba.org