مقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
يعتبر المنبرُ من أهم وسائل التأثير بين المسلمين لأسباب عديدة لا مجال لسردها، منها: أن حضورَ خطبةِ الجمعةِ هو فرضُ عينٍ على كل مسلم، فالمسلمون شبابُهم وكبارُهم ملزمون بحضور خطبة الجمعة كلَّ أسبوعٍ، ويستمعون من الخطيب توجيهاتِهِ، ويَعرض عليهم أفكارَهُ، ومن هنا تأتي أهميةُ المنبر ودورُهُ في إصلاح المجتمع.
إنّ المهامَّ الملقاةَ على عاتق الخطيب كبيرةٌ، فهو ليس واعظاً للجماهير فحسب، بل هو مصلحٌ للمجتمع، إلا أننا شهدنا في الفترة الأخيرة حرفاً لخطبة الجمعة عن مسارها، فأصبحت عملاً روتينياً يقوم به الخطيب كلَّ جمعةٍ، وكذلك المستمعون يحضرون الخطبة دون أن تترك فيهم أي أثر.
لذلك فقد حرصتُ في هذه الورقة على بيان آثار الإخلال بثوابت خطاب المنبر على مدى التأثير في الجمهور، وذلك من خلال سردٍ لهذه الآثار وبيان خطورتها على الخطبة وعلى المجتمع.
آثار الإخلال بثوابت خطاب المنبر على مدى التأثير في الجمهور:
• فقدانُ خطبةِ الجمعةِ وظيفتَها الرئيسيةَ وهدفَها الرئيسي: إنّ الهدفَ الرئيسيَّ من خطبة الجمعة هو توعيةُ المجتمعِ وإرشادُهُم نحو الطريق الصحيح، وتمييزُ الحقِ من الباطل، لذلك يجب على الخطيب أن يضع هذه المهمة الرئيسية نصب عينيه، ويجهّزَ موضوعه الذي سيلقيه على الناس من خلال تحقيق هذا الهدف وذلك بأن يتساءل:
ما هي حاجة المجتمع؟ ما هي المشاكل التي يعاني منها الناس؟
ثم يكتبُ موضوعَه بناءً على هذه التساؤلات، ولو أنّ الخطيب تحدّثَ بشكل عام دون أن يتناول الهدف الرئيسي للخطبة وهو توعية المجتمع لفقدَتْ خطبةُ الجمعةِ مضمونها وقيمتها، وأصبحتْ عبارةً عن خطاب أسبوعي متكرر ومحفوظ.
ومن النّكات التي كنا نسمعها عن بعض الخطباء أنهم كانوا يجهّزون خطبهم الأسبوعية على مدار السنة كلها! وتتكرر هذه الخطب نفسُها كلَّ سنةٍ دون تغيير أو تبديل بحسب المواسم (وقفة عرفة، رمضان، الهجرة، المولد النبوي .....).
• تحوُّلُ خطبةِ الجمعة من منبرٍ لمناقشة قضايا الناس وتوعيتِهم إلى عملية روتينية أسبوعية: إنّ من أهداف الخطبة الرئيسية هو مناقشة قضايا الناس، وطرح همومهم ومشاكلهم، والبحث عن حلول لهذه المشاكل.
يجب على الخطيب توظيف المنبر لحلول المشاكل المجتمعية، وذلك بأن يتساءل عن مشاكل المجتمع، ثم يتناقش في هذه المشاكل مع أبناء حيِّهِ خلال الأسبوع، ثم يطرح حلولا لهذه المشاكل.
مثلا مشاكل اللاجئين، قضايا المرأة، البطالة، انتشار المخدرات بين الشباب..
وإذا لم تتم مناقشة هذه القضايا في الخطبة ستتحول الخطبةُ إلى وظيفة روتينية أسبوعية لن تؤثر في المجتمع، ولن تحقق أهدافها الرئيسية.
من الأمثلة لذلك أن يتحدث الخطيب على المنبر عن الترف والسرف في مجتمع فقير، أو يتحدثَ عن قضايا اللاجئين في الداخل السوري.
• فقدانُ التفاعل بين المنبر والجمهور: من وظائف المنبر الأساسية هو خلقُ تفاعلٍ بين الخطيب والجمهور، وهذا التفاعل يحدث عندما يناقش الخطيبُ همومَ الجماهيرِ، ويمكن أن يتمَّ النقاش بين الخطيب والحضور على مواضيع معينة في الخطبة واللقاء بالناس بعد الخطبة، أو خلال الأسبوع لتحديد موضوع معين للخطبة بحيث يكون تحديد الموضوع عمليةً تشاركيةً بين الخطيب والجمهور، وهذا يكون أدعى للتأثير؛ وعدمُ التشاركية بين الخطيب والناس قد يؤدي إلى طرح مواضيعَ لا يهتم بها الناس ولا يتفاعلون معها.
• البحثُ عن منابرَ وقنواتٍ أخرى للتأثير كالندوات والمحاضرات: إنّ من الآثار السلبية لانحراف الخطبة عن الثوابت الأساسية هو انصرافُ الشباب عن المنبر والبحث عن قنوات أخرى، فعندما تفقد الخطبة وظيفتَها الرئيسيةَ ستفقد دورها في التأثير على المجتمع، ويصبح حضورُ الخطبة عبارةً عن إسقاطٍ للفرضِ العينيِّ، وإبراءً الذمة.
وقد شاهدنا انصراف شرائح معينة من المجتمع عن خطبة الجمعة وعدم حضورها والابتعاد عنها بسبب فقدان أثرها.
• تشويهُ الحقائقِ وحرفُ عقولِ الشبابِ وتوظيفُهُم لأهدافٍ خاصةٍ: من الآثار السلبية للخطبة عندما تفقد ثوابتها هو توظيفُ كلِّ خطيبٍ المنبرَ للترويج لأفكاره الخاصة، وجعلُ المنبرِ وسيلةً لخدمة غاياته، وقد شهدنا أمثلةً عديدةً.
كيف يمكن للخطيب أن يجعل من المنبر وسيلةً لبثِّ أفكارِهِ وجذبِ الشباب إليه وجعلِ المنبرِ وسيلةً لخدمة شخصِهِ أو لغاياتٍ استخباراتيةٍ أخرى وليس لخدمة المجتمع ومناقشة قضايا المجتمع، مثال على ذلك (محمود قول أغاسي).
• ظهورُ انقساماتٍ وخلافاتٍ في المجتمع: قد يؤدي الإخلالُ بثوابت خطاب المنبر إلى ظهور انقساماتٍ واضحةٍ في المجتمع، وظهورِ الجماعاتِ المنقسمةِ، فإذا كان لكل خطيبٍ توجهٌ مختلفٌ عن الخطيب الآخر، ولا توجد ثقافة الرأي والرأي الآخر فهذا يؤدي إلى ظهور الجماعات، وكلُّ جماعةٍ تعادي الجماعةَ الأخرى؛ وقد شهدنا مثل هذه الحالات في المناطق المحررة؛ فالاختلاف بين الخطباء في الحي الواحد، في الأذان وفي الفطرة... التي انعكست على خلافات بين الناس وأدّت إلى الاقتتال والخصومة بين أبناء الحي الواحد.
• ظهورُ التعصبِّ الفكريِّ والمذهبيِّ المقيتِ: إنّ الإخلالَ بثوابت خطاب المنبر أدى إلى ظهور التعصب المذهبي في فترات كثيرة من التاريخ، وقد ظهرتِ الثنائيات المتصارعة: أهل السنة والمعتزلة، الحنفية والشافعية والحنابلة، أهل الحديث وأهل الرأي، الصوفية والسلفية، ولا زلنا نشهد التعصبات المذهبية والتجاذبات على المنابر بسبب الإخلال بثوابت خطاب المنبر الذي انعكس إلى صراعات بينية في المجتمع الواحد.
• تحوُّلُ الخطبةِ لمنبرٍ سياسيٍّ يدعمُ أحزاباً سياسيةً: قد يتحول منبر الجمعة إلى منبرٍ سياسيٍّ يدعم أحزاباً وتياراتٍ مختلفةً، مما يؤدي إلى فقدان الخطبة هدفها ووظيفتها الرئيسية، فمن وظائف المنبر: تحقيقُ الرقابةِ المجتمعيةِ على أصحاب السلطة، ورفضُ الاستبدادِ والظلمِ، والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر، وهذا يستوجبُ على الخطيب أن يكون على مسافة واحدة من جميع القوى السياسية، وإلا فقد المنبر تأثيره في الجماهير.
• ظهورُ الخرافاتِ والأوهامِ والأساطيرِ، وانتشارُ الأحاديثِ الموضوعةِ والقصصِ التي لا أصلَ لها في المجتمع: إنّ عدمَ التزامِ الخطيبِ بثوابت المنبر يؤدي إلى انتشار الأوهام والقصص الخرافية، وانتشارِ الأكاذيب بين الجماهير مما يؤدي إلى ضياع الدين وظهور البدع والمنكرات.
هذه الورقة قدمت في ندوة بعنوان: مراعاةُ الثوابتِ في خطابِ منبرِ الجُمُعَةِ ودورُها في تعزيزِ رسالَةِ المنبرِ، أقامتها رابطة خطباء الشام بتاريخ 27/11/2018ضمن مشروع: الندوات المتخصصة في دراسات المنبر.
http://shamkhotaba.org