أصول الخطايا
الكاتب : رابطة خطباء الشام
الخميس 28 فبراير 2019 م
عدد الزيارات : 2123
1- أصول الخطايا
من لم يحط بأصول الأشياء فإنه يبقى في قلبه حسكة، وقد علّمنا المصطفى صلى الله عليه وسلم هذا الفقه، بأن لا ننظر إلى الذنب إذا وقع ولكن ننظر إلى الأصل الذي نبت عنه ذلك الذنب، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب). أخرجه البخاري: 52، ومسلم: 1599 باختلاف يسير
فإن أصل كل عمل في القلب؛ فأصل المعصية في القلب، وكذلك أصل الطاعة في القلب، ومن هنا نفهم تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم للذنب أو الفتنة إذا دخلت القلب بالنكتة السوداء، كما في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (تعرَضُ الفتنُ على القلوبِ كالحصيرِ عودٌ عودٌ، فأيُّ قلبٍ أُشرِبَها، نكتَتْ فيه نكتةً سوداءَ). صحيح مسلم 144
وإنما الأعمال التي تظهر على الجوارح ما هي إلا ترجمان وصورة لما عليه القلب.
فإن كانت أعمال العبد صالحةً كان القلب صالحاً طيباً، وإن كانت أعمال العبد سيئة كان قلب العبد كذلك خبيثاً.
لقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم القلب مع الجوارح كالملك مع الجنود، فهم يأتمرون بأمره، وكذلك الجوارح والأعضاء إنما تأتمر بأمر القلب، وإنه من الخطأ أن نبحث عن صلاح أعمالنا دون إصلاح قلوبنا.
وإن المتأمل في كثير من الذنوب والخطايا ليرى أن لها أصولاً ثلاثة تصدر عنها جميع الذنوب والخطايا، فكل أصل من هذه الأصول الثلاثة يصدر عنه أنواع من الذنوب تناسبه وتجانسه.
وهذه الأصول الثلاثة هي: الكبر، والحسد، والحرص.
هذه هي أعظم أمراض القلوب، وهي أمهات الذنوب والمعاصي، وكلُّ عبدٍ يكون عنده من الذنوب والمعاصي بقدر ما دَخَلَ قلبَهُ منها؛ ومن استحكمت بقلبه هذه الأمراض الثلاثة فقد أشرف على الهلاك.
أما الكبر: فالقدوةُ فيه إبليس، وهو أول من اتصف به، وأولُ ذنبٍ عُصي الله به هو الكبر، وبه طُرد إبليس ولُعن وحُكم عليه بالنار أبداً، وذلك أنه أمره الله بالسجود لآدم عليه السلام فعصى أمرَ ربه وامتنع عن السجود تكبُّراً وعُلُواً، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34]
فكان كبرُهُ على آدم سببَ كفره، فقد حكم الله بكفره فقال: {وكان من الكافرين}.
والحسد: كان سبباً لقتل أحد ابني آدم أخاه، وقد قصَّ الله قصتهما في سورة المائدة، {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].
أما المرض الثالث وهو الحرص: فكان سبباً لأكل آدم عليه السلام من شجرة في الجنة كان قد نهي عنها، فأُخرج منها وأهبط إلى الأرض.
وإن المتأمل في هذه الثلاثة: الكبر، والحسد، والحرص، ليتبين به أنها أصلٌ لكثير من الخطايا والذنوب، بل هي منبع جميع الشرور والآثام.
2- أولُ مرضٍ ابتلي به بنو آدم
إن الكبرَ أصلُهُ أن يعتقد الإنسان أنه خيرٌ ممن يتكبر عليه، وهو أمرٌ أولُ مايقع في القلب، ثم يظهر عنه تصرفٌ ظاهريٌّ يعبر عنه.
والكبر يحول دون اتباع الحق، بل هو سببُ كفرِ كثيرٍ من بني آدم، وهو بريد الكفر وطريقٌ مؤدٍ إليه، لذلك أصرَّ أهل قريش على كفرهم بسبب الكبر؛ وكذلك اليهود ما منعهم أن يتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم وهم يتيقنون صدقه إلا الكبر؛ وكذلك قبلهم فرعونُ وملؤه، ما منعهم من اتباع موسى عليه السلام إلا الكبر، لذا قال الله عن هؤلاء كلهم مبيناً سببَ كفرِهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].
فقد بين الله أنه مامنعهم من الهدى إلا العلو والتكبر!
وقال أيضاً: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35].
فالمتكبر بعيد عن اتباع الحق، لذا لما دعا سليمانُ عليه السلام بلقيسَ وقومها إلى الهدى دعاهم أولاً إلى نبذ الكبر، فقال: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:31].
وهذا السر في تتابع بني إسرائيل على تكذيب الرسل والأنبياء، قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87].
لذا فإن الكبر سببٌ لهلاك صاحبه، وذلك لأمور عدة، منها: أن المتكبر مصروفٌ عن آيات الله، لا يهتدي إلى حق؛ {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:246].
ومنها: أن الناس بما جُبلوا عليه يأنفون من المستكبر، فإنه لا يقبل أحدٌ أن يستكبر عليه مستكبرٌ، فالمتكبر منبوذٌ من الناس، وإن أظهر له أحدهم خلاف ذلك.
3- أعظمُ الكبر
وللكبر أقسام ثلاثة: أعظمها التكبر على الله جل وعلا، وهو جرمٌ عظيمٌ، وكفرٌ مخرجٌ عن ملة الإسلام، فمن ذلك قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24]. 
وقد قال قبلها: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي} [الزخرف51].
فغرّه ملكُهُ فتكبَّرَ على خالقه! وهو يعلم يقيناً أنّ له رازقاً وخالقاً، لكن الكبر منعه من الإقرار بذلك، {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].
ومن صور التكبر على الله: قول كفار قريش: {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان:60].
ومن صور التكبر على الله: قول النمرود لإبراهيم عليه السلام: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258]. 
وقد حجَّهُ إبراهيم لما آتاه الله حجته، فقال له: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258].
وهذا النوع، وهو التكبر على الله تفوح رائحته اليوم من خلال كثيرٍ من الكلمات تجري على ألسنة الناس، بل وفي كثير مما تخُطُّه الأقلام، بل وقد طفحت أشعارٌ في هذا العصر بهذا النوع العظيم من الكبر، ويسمونها أدباً وهي أبعدُ ما يكون عن الأدب!
يروى عن الحجاج بن يوسف الثقفي أنه قال: "أربعة رجال لو أدركتهم لسوّيتُ بهم الأرض!" قيل له: ومن هم؟، قال: "أربعة من أهل البصرة بلغني أن أحدهم صعد المنبر ذات يوم فخطب في الناس خطبةً عظيمةً بليغةً، أُعجبوا بها، فقال له أحدهم: كثّر الله من أمثالك، فقال المستكبر: لقد كلّفتَ ربك شططاً، وأما الثاني: فرجلٌ شردت ناقةٌ من نياقه، فلما يئس منها قال: لله عليّ قسمٌ لئن لم يردّها لن أصلي أبداً!! يظن المغرور أنه ينفع الله بصلاته، فردّ الله عليه ناقته لحكمةٍ منه سبحانه، فقال المغرور: قد علم ربي أن يميني حقاً!! وجهل هذا قوله سبحانه في الحديث القدسي: (لو أنّ إنسكم وجنّكم على أتقى قلبِ رجلٍ واحدٍ ما زاد ذلك في ملكي شيئاً) أخرجه مسلم: 2577
وأما الثالث: فرجلٌ دخل البصرة وتصدّق على أهلها وأكرمهم، ثم قدم الكوفة، فلما سمعوا بمقدمه فرشوا له أرديتهم طمعاً في أعطياته، فجعل يمشي عليها ويطأ عليها، ويقول: لمثل هذا فليعمل العاملون!! فما أراد بعمله إلا أن يعلو أمام الناس ويكبر عليهم، وأما الرابع: قال الحجاج: بلغني أن رجلاً من أهل البصرة كان واقفاً فجاءته امرأة لا تعرف اسمه، تسأله عن طريق، فقالت: ياعبد الله، أين طريق كذا.. فقال: ألمثلي يقال عبد الله! اذهبي فلن أدلكِ!".
أما النوع الثاني من أنواع الكبر، وهو وباء هذا العصر: هو التكبر على الناس، فبعض الناس يظن أنه خيرٌ من كثير من خلق الله!
وليت شعري.. ماالذي يحمل المتكبرَ على الكبر؟ أفطرةٌ يدعي أنه جُبل عليها؟ كلا والله، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله أوحى إلي إن تواصوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحد). صحيح مسلم: 2865
قال الصديق رضي الله عنه: "وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع".
4- ما السبيل إلى الخلاص؟
ماالسبيل إلى التخلص من داء الكبر؟ 
إن من ابتلي بهذا نقول له:
 أولاً: انظر أيها المتكبر كيف كنت عدماً محضاً لا يشعر بك أحد، {هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} [الإنسان:1]. 
ثم أنعم الله عليك فجعلك وجوداً بعد عدم.
ثانياً: أيها المتكبر: ليس لك من أمرك شيئاً، ففيم تتكبر!؟ أو تملك لنفسك جنةً أو ناراً؟ أو حياةً أو نشوراً؟ أو رزقاً أو فقراً؟ أو تستطيع نفعاً أو ضراً؟
ثالثاً: أيها المتكبر، ماالذي دعاك فتكبرت، أهو العلمُ؟ فهذا والله أحرى بك أن تتواضع، فنبينا صلى الله عليه وسلم كان أعلمَ الناس، وكان أشدّهم تواضعاً، وهذا سليمان يأتيه الهدهد يقول له: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22]، فلا ردّه ولا عنّفه.
وإن قلت أيها المتكبر: إني أملك كذا وكذا، فنقول لك: قد ملك مَن قبلك أكثر من ذلك وأعظم، فأين هم؟ قارون كانت مفاتحُ خزائنه يعجز عن حملها الجمع من الرجال، إذا كانت هذه مفاتح خزائنه فكيف خزائنه!؟ استكبر وقال: أوتيتُه على علم، فخسَفَ الله به وبداره الأرضَ.
وإن قلت أيها المتكبر: إن لي حسباً ونسباً، فنقول لك: هذا نبينا صلوات الله وسلامه عليه أرفعَ الناس نسباً، ولا يزال يتقلب في أعرق الأنساب والأصلاب من لدن آدم، وحالُهُ كما علمتَ من طيب المعشر وخفض الجناح ولين الجانب.
إن التواضع رفعةٌ في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: (ما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه). أخرجه مسلم: 2588
وهو من أخلاق الأنبياء، وشيم النبلاء، وعلى رأسهم إمامنا وقدوتنا سيدُ ولد آدم ذو النسب الرفيع والجاه الوسيع، وقد كان يحمل الكَلَّ، ويكسب المعدومَ، ويعينُ على نوائب الدهر، يسلّم على الصبيان، ويبدأ من لقيه بالسلام، نام على الحصير، وقف إلى جانب امرأةٍ على جنب الطريق، وشرب مع أصحابه في إناء واحد، وكان آخرهم شرباً، يجيب دعوةَ من دعاه ولو إلى ذراع أو كراع؛ ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عما كان يصنع في بيته قالت: "يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة".
وهذا خليفته الصديق كان يحلب لأهل الحي أغنامهم، فلما بويع للخلافة قال جارية: الآن لا يحلب لنا منائح دارنا، فقال: "بلى، لأحلبنّها لكم، وإني لأرجو أن لا يغيّرني ما دخلت فيه".
وهذا الفاروق رضي الله عنه خطب بعد خلافته: "اعلموا أن تلك الشدة قد أُضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم البعض".

http://shamkhotaba.org