الباحث:
المنبر من أهم وسائل التأثير:
موضوع المنبر الخطبة، ولا ريب أن اهتمام الأمم بفن الخطابة لم يكن ليأتي من فراغ، بل مصدره إدراك طبيعة البشر بالتأثر أو التأثير بواسطة الكلمة الحسنة الجاذبة، والمدعومة بالحجة والصادرة بقوة إلقاء وحسن تبليغ..
فالخطابة وسيلة ناجعة في تهدئة النفوس الثائرة، أو إثارة الأنفس الهادئة، وفي تحفيز الهوى وتحريك المشاعر، وهي خليقة بأن يتألق نجمها أيما تألق لكونها وسيلة قوية تشترك فيها الإنسانية عموماً من أجل إظهار عوار الباطل لدحضه، وتبيين أشكال الحق لإظهاره، وهي طريق استثارة يقلب بها التردد عزماً والتباطؤ هجوماً وحركة.
يقول د. أحمد الخولي: "منذ أن اجتمع الناس في مكان واحد واستوطنوا وتفاهموا لسان واحد عرفوا الخطابة، ومن الطبيعي أن يتناسوا على غنيمة او متاع أو سلطة فيحاول المتفوق أن يستميل إليه من يخالفون، وأن يقنعهم، فإذا ما اقتنعوا واستمالهم فهو خطيب، وقوله خطابة".
بسلامة تركيبها وقوة لغتها وفصاحة عبارتها وجودة أدائها يُعرض الحق على السامعين عرضاً، وتحبب إليهم الكرامة وسبلها، فيدخل الخير إلى قلوبهم، والصواب إلى عقولهم.
ولولا خطورة الكلمة وعظم شأنها إن صدرت على شكل خطبة، ما رأينا أن دُوْرَ القضاء تحفل بالخطباء (المحامين)، حيث يتبارى كل واحد منهم على منابر الكلام بما أوتي من قوة لحن على إظهار الحجة لإقناع القاضي لحصول المحجة، فلا تكاد قضية ترفع إلى قاض إلا ويكون الخطيب (المحامي) صاحب الدور الأكبر تأثيراً في نتائجها.
وقد نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على خطورة هذا ودوره في التأثير على السامع والحاكم، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، بِقَوْلِهِ: فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلاَ يَأْخُذْهَا).
كم حُررت –بالخطبة- رقابٌ من العبودية، واسترجعت حياة من بين براثن المنية، وألّفت قلب السلطان، وأحالت العداوة الجهلاء إلى ولاية وصداقة، وحولت الشغب إلى هدوء وروية، ومن هذا ما يروى أن عامراً الشعبي رحمه الله لما وقف بين يدي الحجاج -الذي أراد قتله بتهمة الخيانة والثورة على الدولة- ألقى خطبة كانت مفتاح الفرج عليه، وسبب عفو الأمير عنه، وكان مما قاله فيها: "وأيم الله لا أقول إلا الحق، قد والله حرضنا وجهدنا فما كنا أقوياء فجرة، ولا أتقياء بررة، وقد نصرك الله وظفرت، فإن سطوت فبذنوبنا، وإن عفوت فبحلمك والحجة لك علينا" فقال الحجاج: هذا والله أحب إلي ممن يقول ما شهدت ولا فعلت، وسيفه يقطر من دمائنا، ثم أمنه وانصرف.
وكثيراً ما تغير خطبة المنبر بما لها من شعائرية مجرى الأحداث، فتكون كمن يداعب الواقع أو يتلاعب به، فتحول الهزيمة إلى نصر، والفشل إلى نجاح والضعف إلى قوة، فكم من بركان خامد أثارته، وكم من جيش مهزوم نصرته، وكم من رأس ظالم أطلحت به، وكم من فتنة كان لخطبة المنبر الدور الأكبر في وأدها في مهدها.
وبالمقابل، فلقد كانت نظرة المستبدين للمنبر نظرة قاتمة، لمعرفتهم بأنه السلاح الأفرى في تحفيز المستعبدين واستنهاضهم لاسترداد حقوقهم، فحاربوه إيما محاربة، عبر تشويه صورته ورفع درجة خطباء أغرار، أو الحط من قيمته الفنية ودرجته الدينية، وأكثر الخطب المنبرية في عهود الاستبداد تملى من السلطان إملاءً، قد امتلأت تملقاً وتحريفاً ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والخطبة الدينية هي الأشد في ميدان التأثير بين الخطب، إذ تحرك العاطفة وتستحث المشاعر وتتحكم بالوجدان وتزهو بالروح وتنقلها إلى عالم آخر، لذلك لم نزل نشهد الأئمة والعلماء والزعماء والمصلحون يمتطون المنابر لإقناع الناس بفكرة أو قضية أو وجهة نظر يجدون فيها الخير والفلاح، بل وهي سنة الأنبياء قاطبة والدعاة كافة .
إن فضل الخطابة الدينية عظيم وشرفها جسيم، إذ فضل الصنعة وشرفها بشرف غاياتها وأهدافها، وغاية الخطبة الدينية هو إرشاد العباد وخدمة الدعوة دعماً للحق وهدماً للباطل، لذلك فقد جعل الإسلام منها شعيرة من أهم شعائره في كافة المناسبات الدينية والدنيوية سواء كانت مناسبات أسبوعية أم سنوية أم طارئة ، وجعل من سننها أن تلقى على المنابر.
أثر المنبر في تغيير الواقع:
وبالشواهد تتضح الفكرة وتظهر الثمرة، ويتبين التأثير، وقد رأيت أن أنقل استطلاعاً نشرته مجلة البيان عن آثار خطبة الجمعة أجري في مصر، يكون مرد مثل لما لا سبيل لحصره من آثار يتركها المنبر بين السامعين، وقد أفاد هذا الاستطلاع:
(78)% من الناس يتأثر تأثراً دائماً بما يقوله الخطيب، وذكر أن (71)% أنهم يلتزمون دائماً بما يقوله الخطيب.
وقد اتفق مع أحد خطباء المساجد على أن يخطب عن الربا، فأجرى استفتاء قبل الخطبة وبعدها، وكانت النتيجة:
• (85) % كانوا يعرفون المفهوم الصحيح للربا، وبعد الخطبة ارتفعت النسبة إلى (97) %.
• (33) % كانوا يعرفون عقوبة المرابي، وبعد الخطبة ارتفعت النسبة إلى (59) %.
• (71) % كانوا يعلمون أن البنوك المصرية تتعامل بالربا، وبعدها ارتفعت إلى (94) %.
• (50) % كان يفضل الاستثمار في البنوك الإسلامية، وبعد الخطبة ارتفعت النسبة إلى (64) %.
• نتيجة الخطبة: (34) % سينصحون الآخرين بترك الربا، (31) % سيقاومون أي عمل ربوي.
وهذه الدراسة تدل بشكل أو بآخر على مدى تأثر الخطبة المنبرية في علاج وتصحيح الأفكار وصرف العامة عن المختلة منها.
http://shamkhotaba.org