مقدمة:
إن قلوب العباد أوعية لما أُودِع فيها من العلوم، وظروف لما جُعل فيها من المعارف بالأمور، وهي مع ذلك تصدأ إذا أُهملت كما يصدأ الحديد، وتضطرب وتفور كما يفور المرجل، إذا فتحت أبوابها للوساوس والشكوك والشهوات والشبهات، ويعلوها الران إذا تُرِكت نهباً لإبليس وجنوده، حتى إنها لتصير من أثر ذلك معتمة لا تتمكن من الإبصار ومعرفة الحقائق، حتى لو كانت في غاية الوضوح، ويزداد الإعتام كلما بَعُدَ الناس عن ربهم حتى تصل إلى درجة الإغلاق التام، قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب سُقِل قلبه، وإن عاد ِزيدَ فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}).
ولا يتمكن العبد من النجاة من ذلك إلا بالفرار إلى الله تعالى، والرجوع إلى ربه، والإنابة إليه، والذل والخضوع والانكسار بين يديه، والاستغفار والتوبة، والاعتماد عليه تعالى في الأمور كلها، فهو ربه ومليكه وخالقه ورازقه، يعطي ويمنع، وهو على كل شيء قدير.
1- معنى الفرار وحقيقته
الهروب من شيءٍ إلى شيء، من شيءٍ مخيف إلى شيءٍ آمن، من شيءٍ مزعج إلى شيءٍ مُطَمْئِن.
ولقد حدد الله لك الوجهة ورسم لك الطريق فقال سبحانه وتعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50].
نعم إنه الفرار إلى الله، أي فروا منه إليه، من عقابه إلى جنَّته، من معصيته إلى طاعته، فروا مما سوى الله إلى الله، فروا من الأغيار إلى الله، فروا من الشُركاء إلى الله.
فالفرار منزلةٌ من منازل السالكين إلى الله عزَّ وجل، فرارٌ من الجهل إلى العلم عقداً وسعياً، ومن الكسل إلى التشمير جِدَّاً وعزماً، فرارٌ من الضيق إلى السَعَةِ ثقةً ورجاء، أن تهرب من ضيق الصدر بالهم والغم والحزن والمخاوف التي تعتري الإنسان في هذه الدار، إلى سعة الإيمان وأُفُقِ الإسلام ورحابة طاعة الرحمن.
فرارٌ من الخوف إلى الطمأنينة، من هموم الدنيا إلى التطلع للآخرة.
وَلَرُبَّ نازلــةٍ يضيــقُ بهـا الفتـى ذَرْعاً وعندَ اللهِ منها المخرَجُ
ضاقتْ فلمَّا استحكمتْ حلقاتُها فُرِجَـتْ وكانَ يظنُّها لا تُفــرجُ
هذه المرتبة عالية جداً، الفرار إلى الله، فر من الدنيا، فر من حظوظه، فر من شهواته، فر من همومه، فر من مشاغل الدنيا، فر من الأشكال.
بل إن الإنسان حتى إذا خاف من الله يفر إليه، وهذا الأمر لا يكون إلا مع الله سبحانه، فكل شيء إذا خفت منه فررت منه، أما الله سبحانه فإذا خفت منه فررت إليه، فلا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه سبحانه، لهذا كان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عند نومه، وهو ما أمر به أحد أصحابه أن يقوله ويجعله آخر ما يقول قبل نومه: (اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت"، وقال بعد ذلك: "فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة).
فإذا خفت من عذابه فررت إلى رحمته، وإذا خفت من سخطه فررت إلى رضاه.
هذه معان تغيب على الإنسان في غمرة الحياة، فيجد نفسه في كثير من الأحيان فاراً من الله لأدنى معضلة أو همّ، ولكنها لا تغيب عن الصالحين الخلّص من عباد الله، وعلى رأسهم أنبياؤه صلوات الله وسلامه عليهم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ في دعواته من كل صفة عذاب من صفات الله بصفة رحمة من صفاته، ثم يستعيذ به منه خوفاً وفرقاً، كما تروي أمّنا عائشة رضي الله عنها: (اللهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ).
2- لماذا الفرار إلى الله؟
• انفتاح الدنيا الشديد، وطغيان الجانب المادي على حياة أكثر الناس وما ترتب على ذلك من لهث وتكالب على حطامها دون تمييز بين حلال وحرام، وطيب وخبيث.
• الغفلة الشديدة عن الآخرة والغاية التي من أجلها خلقنا، وتحولت هذه الدنيا الفانية من كونها خادمة ومملوكة إلى أن تكون مالكة مخدومة.
• ظهور المنكرات وانتشار الفساد بشكل ينذر بالخطر والعقوبة إن لم يتدارك الله عز وجل عباده ويرحمهم بالفرار إليه.
• الغربة الشديدة لدين الله في واقع كثير من الناس، فلابد من التواصي بالحق والصبر، لعل الله عز وجل، أن يكشف الكربة ويثبت قلوب عباده المؤمنين على دينه.
• التأكيد على الرجوع إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التماس سبل النجاة من الفتن والمهلكات، ولفت الأنظار إليهما بعد أن ابتعد كثير من الناس عنهما.
3- أسباب تحديد جهة الفرار
أيها التائه... أيها المتحير... أيها المتباطئ... أيها الخائف... أيها العاصي... أيها المُثْقل بالذنوب والأوزار... أيها الأسير لشهواته المكبل بالقيود والأغلال... يا مّن أسره الشيطان ولا يستطيع الخلاص والفرار.... يا من ضاق صدره وأحاطت به الهموم والأحزان: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}، لأنك لن تجد أعظم وأقوى من الله في حفظك من أعدائك، فالإنسان الضعيف لابد أن يلجأ فيما يعرض له من أمور إلى جهة يراها قوية وقادرة على أن تحميه أو توفر له الأمن والاطمئنان، فإلى من يتجه، وإلى مَن يفوض أموره؟ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15].
ولا ملجأ للعبد منه سبحانه إلا إليه فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا أنها سمعت رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول وهو ساجد: (اللهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ).
يا عبد الله: لن تجد أكرم وأجود من الله...
يا ابن آدم الكل يريدك لنفسه، والله عز وجل يريدك لك فانتبه لهذا المعنى!
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً).
لن تجد أحلم وأرحم من الله؛ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْيٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ، تَبْتَغِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ، أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟)، قُلْنَا: لَا، وَاللهِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا).
وعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا).
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِني لَكُمْ مِنهُ نَذِيرٌ مُبِين} [الذاريات: 50].
4- لماذا نؤخر الفرار؟
يا ابن آدم فرَّ إلى ربك في الدنيا راغباً مختاراً قبل أن يأتي يوم تفرُّ إليه وأنت مضطرٌ إليه وليس لك إلا هو ولكن لا ينفعك الفرار حينها لأنك قد فررت منه وأعرضت عنه في الدنيا، قال تعالى: {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة: 10-12].
وقال جل شأنه: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [غافر: 33].
وقال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} [الشورى: 47].
يفرُّ الإنسان في ذلك الموقف من كل من يمتون له بصلة في هذه الحياة يفر حتى من أبنائه وفلذات كبده، ولكن هل ينفع هذا الفرار إن لم يكن الإنسان من الفارين إلى الله في هذه الحياة الدنيا يقول سبحانه في كتابه العزيز: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34-37].
قال عبد الله بن طاهر الأبهري: "يفرُّ منهم لما تبيَّن له من عجزهم وقلة حيلتهم، إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه، ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئا سوى ربه تعالى".
فلماذا عباد الله نؤخر الفرار إلى العزيز الجبار؟ لماذا نؤخر الفرار إلى الواحد القهار؟
هل نحن مغترون بصحتنا وقوتنا التي هي إلى ضعف وزوال؟ أم نحن مغترون بأموالنا التي لن يلحقنا منها شيء إذا متنا؟ أم نحن عالمون بموعد موتنا وانتقالنا عن هذه الحياة؟
أسئلةٌ لابد أن يسألها المسلم لنفسه، ولابد أن يجد لها الإجابات المقنعة إن كان حقاً يريد مرضاة الله سبحانه وإن كان حقاً يريد النجاة من عذاب الله وعقابه.
فتعالوا لنعلنها صريحة واضحة تحمل كل معاني الفرار إلى الله ظاهراً وباطناً: (اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ).
يقول عز وجل: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99].
وفي الختام: هناك فرار آخر يفره الإنسان حتى من أقرب الناس إليه، لهول ما يرى من أمور عظيمة، هذا الفرار يكون يوم الحساب، يوم يجمع الله الخلائق في صعيد واحد لفصل الحساب، في ذلك اليوم العظيم، وذلك الموقف الرهيب، إذا عاينه الإنسان، ووقف عليه، وعاشه بكل حواسه، عند ذلك لا يصبح حتى لصلة القرابة والدم عنده مكان، ما يهمه في ذلك الموقف إلا نفسه وحسب، يفر الإنسان في ذلك الموقف من كل من يمتّون له بصلة في هذه الحياة، يفر حتى من أبنائه وفلذات كبده، ولكن هل ينفع هذا الفرار إن لم يكن الإنسان من الفارين إلى الله في هذه الحياة الدنيا؟
قال الله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}.
http://shamkhotaba.org