الباحث:
مقدمة:
ربما يكون محور البحث الأساسي منطلقاً من معرفة الحال التي وصل إليها المنبر في عصرنا الحاضر، وأنا هنا لن أتكلم عن زخم الحضارة التي بدأت تنازع المنبر مكانته وتنافسه شهرته، وتسلبه درجته في التأثير، لا.. فهذه سنة الكون وشريعة الحياة.. بل لا أكون مبالغاً إذ أقول بأن الضعف في هيكلية المنبر ومكانته السامقة هي سبب رئيس وراء هذا البروز المروع لغيره من المؤثرات الاتصالية الأخرى والتي أساسها وسائل الإعلام الحديثة.
نعم بلا أدنى ريب لا يزال المنبر يحافظ على شيء من قداسته الدينية ورمزيته الشعائرية في الوسط الاجتماعي المسلم، إلا أن هذا لا يعتبر بحثاً كافياً لأن نصرح بأن رسالة المنبر تصل على الوجه الأكمل الذي شرعت لأجله، إذ صارت هذه الحالة الشعائرية الدينية تأخذ شكل العادات والتقاليد المورثة التي تخبو شعلتها من قلوب العباد جيلاً بعد جيل، فيكون مقدار التأثر بما يطرحه أربابه بحجم ضآلة تلك الشعلة.
وهذه الانقلاب في الفهم لم يعد محصوراً في أذهان العامة، ولا حتى أذهان الخاصة ممن يحضرون خطب المنبر، بل تغلل في عقول أئمة المنابر الذين باتوا يفهمون المنبر مجرد وظيفة يتلقون عليها أجراً، ويحصدون بها احتراماً، فسقطت رسالته من قلوب كثيرين منهم.
ولا يجوز لنا أن ننسى ما يمليه طواغيت العصر من حكام وقادة وزعماء وأمراء بل وحتى تجار حرب ودماء على المنبر، من مفاهيم وقواعد محنكة في الظلم، متطورة في الدجل، تبريراً لأنفسهم وأفعالهم، من غير أن نجد خطيباً معروفاً أو مغموراً يتحلل من ربقة سلطانهم وقيد استبداهم، فخبت أصوات الواقع ومحاكاته، وعلت أصوات التملق والخضوع، وجهل الناس الحق، وغاب صوت الإمام أحمد يوم المحنة إذ قال: "إنْ عُرِضْت عَلَى السَّيْفِ لَا أُجِيبُ".. وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا: "إذَا أَجَابَ الْعَالِمُ تَقِيَّةً وَالْجَاهِلُ بِجَهْلٍ فَمَتَى يَتَبَيَّنُ الْحَقُّ".
ونداء عبد الله بن محمد الهروي: "عُرضتُ عَلَى السَّيْف خَمْسَ مَرَّات، لاَ يُقَالَ لِي: ارْجِع عَنْ مَذْهَبك، لَكِن يُقَالَ لِي: اسْكُتْ عَمَّنْ خَالفك، فَأَقُوْلُ: لاَ أَسكُتُ".
وفي بلد مثل سوريا الشام اليوم اعتلى المنابر جهال بدرجة الجهل المركب، ضلوا وأضلوا، فبذروا مفاهيم التطرف المذموم والغلو المشؤوم، وأشاعوا شعارات الفتنة وعبارات التفرقة فحرفوا الهدف الجهادي عن مساره الذي انطلق به، بينما بقيت بقية المنابر صامتة كصمتها الأول ديدنها الانفعال لا الفعل والتأثر لا التأثير.
ولما كان المنبر مرقاة العلماء، ظن كل ناعق أنه يبلغ السؤدد إذا خطب وألقى، وتكلم على الملأ، وظنه الناس كذلك، فانحرفت بوصلة الأمة وأبدعت قادة غير أهل ولا فضل، كبرت عليهم الإجابة بنصف العلم والدين، فهلكوا وأهلكوا، وفقد جيل كان من أمثاله من حكي عنه أن مع ما يملكه من علم ذو سعة سئل عن مسألة وهو فوق المنبر فقال: لا أدرى فقيل له: ليس المنبر موضع الجهال، فقال إنما علوت بقدر علمي، ولو علوت بقدر جهلي لبلغت السماء ، فاستحق البكاء عليه، بل صار البكاء على هذا الحال مسنوناً، فقد روي عن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قوله: (لَا تَبْكُوا عَلَى الدِّينِ إِذَا وَلِيَهُ أَهْلُهُ، وَلَكِنْ ابْكُوا عَلَيْهِ إِذَا وَلِيَهُ غَيْرُ أَهْلِهِ).
ولم يعد المنبر مستند الرعية وملتقى الأئمة مع الناس وولاة الأمور مع الخلق، بل فلا هو يناقش لهم هماً، ولا يقربهم من صاحب سلطان يفرج عنهم كرباً..
ولربما لمحت معي كما ستلمح من خلال البحث نبذاً من طرائق انحراف الهدف وضياع الرسالة، لذا لربما يكون في هذا الكلام وصف -لا تظنه رحمك الله مبالغاً فيه- لحال منابر المسلمين.
أثر المنبر على الواقع، وأثر الواقع على المنبر:
إن من مندوحة القول بأن البيئة الاجتماعية المحيطة ذات تأثير بالغ على الواقع المنبري، سواء في تنوع أسالب الخطابة أو تشعب مجالاتها أو اختلاف تناول موضوعاتها، بحيث أن أي دعوة لتحرير المنبر من قيود الواقع هي ضرب من المحال، بل وخلط في فهم الرسالة الخالدة التي تبناها المنبر أول ساعة في وجوده.
وإذ إننا لا نجد لأنفسنا من محيص في الإقرار بأن الخطب المنبرية بمختلف صورها وأشكالها وأنماطها إنما تنبع من التصورات العقدية والأيديولوجية للمجتمع، فتأتي غالباً منطبعة بالقيم والتقاليد، متأثرة بالظروف والاجتماعية والسياسية بل وفي كثير من الأحيان بالاقتصادية منها لذلك المجتمع، إذ إن رسالة الخطبة هي معالجة الواقع، تصحيحاً أو تحسيناً أو تقديراً، نقداً أو توجيهاً، وهذا لا يكون إلا عبر التعايش مع هذا الواقع، والاطلاع عليه، لكونه يكوّن المادة الرئيسة للخطاب المنبري.
فالمنبر خير وسيلة لتصحيح الأخطاء الاجتماعية، وتوضيح المفاهيم الأخلاقية، وتبيين الحقائق الشرعية، بل هو من أنجع ما صنع من وسائل لمواجهة التحديات الخطيرة التي قد تتعرض لها الأمة، عبر تسليح الأمة بسلاح العقيدة والفكر، وتنبيهها إلى انتمائها وقضية وجودها، وحقيقة معركتها في البناء والدعوة، عبر التأثير الحثيث في هذا الواقع، وكل هذا ينبع من فهم حقيقي وواع لرسالة المنبر.
إلا أن المرارة تكمن في أننا نرى اليوم -على الغالب إن لم يكون دوماً- الخطاب المنبري في صفوف المنفعلين المتأثرين بالمصلحة النفعية الخاصة، حتى بات هذا الواقع هو الأصل وما يخالفه استثناء، في حين أن الحقيقة يجب أن تكون في تأكيد كون المنبر مؤثراً أكثر من كونه متأثراً، وإذا كان ولا بد، كان تأثره بما يحقق التغيير نحو الخير والعافية للمجتمع المحيط.
ونتيجة حتمية لسنة الاتباع الموعودة بها الأمة، فقد تحولت فلسفة الخطبة إلى شكل تغلب فيه مظاهر الواقع المنحرف الذي يحياه المسلمون، فكانت على أحسن أحوالها صدى يردد مقالة الغوغاء من أبناء الأمة المسلمة، مترفِهم ومثقفهم، تبرر للظلمة وتسوّق للطغاة وترجّي للمفسدين وتصبغ بالشرعيةِ على من لا يستحق، كتقليد مرير للواقع، بل أضحت وكأنها أُذناً وعيناً ولساناً لهذا النهج ولتلك السياسة الاجتماعية، وإن حملت في ظاهرها دعوة الإصلاح، إذ كانت كمن حاول الإصلاح بالإفساد، والعلاج بالطاعون، فهُضمت الحقوقُ وعمت الشرور والمفاسد التي كان المنبر في كثير من أحيانه مبرراً ومحسّناً لها، أو في موقف المشاهد السلبي لها.
نعم إن المنبر المعافى هو المنبر الذي يتأثر بمحيطه، ولكنه تأثر محدود مقتصر على فهم هذا الواقع وتحديد حسناته وسلبياته، ومن ثم تكوين المادة الرئيسية التي تراد لأمة الخير، فهو تأثر من أجل التأثير، وتعايش من أجل النفع والتغيير، أما أن تكون فاعلية المنبر في المجتمع ضئيلة إن لم نقل معدومة بالمقارنة إلى فاعلية الواقع بالمنبر فهذا تهديم لسنة المنبر وتخريب لقضاياه.
إن الأمل المنشود في هذ المسألة أن يتحرر المنبر من كل تأثير سلبي، ويكون الأصل فيه التأثر بفكر الإسلام وقيمه ومبادئه وحضارته، ليبقى هو الأساس الذي يجب أن يستند إليه كل خطيب في صياغته للنشاط المنبري، وهذا لا يتأتى للأمة إلا بعد أن يستشعر الخطباء المسؤولية العظيمة التي يضطلعون بها.
http://shamkhotaba.org